تكريم بني آدم لا ينافي امتهان الجاحدين

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ذكر البعضُ انَّ الرواية التي شبَّهت الكافرَ بالكلب والخنزير في النجاسةِ موضوعةٌ ومكذوبة أو هي ساقطةٌ عن الاعتبار والحجيَّة لمنافاتها مع القرآن الكريم الذي أفاد أنَّ اللهَ تعالى كرَّم بني آدم بقطعِ النظر عن دينِه قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(1) فما رأيكم؟

 

الجواب:

لو ثبت وجودُ هذه الرواية فإنَّها لا تكونُ منافيةً لمفاد الآيةِ المباركة، فإنَّ الآيةَ وإنْ كانت ظاهرةً في أنَّ اللهَ تعالى أكرم الإنسان إلا أنَّ هذه الكرامة تسقطُ بامتهان الإنسانِ لنفسه وذلك بالتجاوز لحدود الله جلَّ وعلا والكفرِ به.

 

ويدلُّ على ذلك أنَّ الله جلَّ وعلا شبَّه الكفَّارَ بالأنعام في قولِه تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾(2) فأيُّ كرامةٍ من الله تعالى لهؤلاء وقد شبَّههم بالأنعام بل اعتبرهم أسوأ حالاً من الأنعام.

 

وكذلك فإنَّ الله تعالى شبَّه علماءَ اليهود الذين حُمِّلوا التوراة فلم يهتدوا بهديها شبَّههم بالحمار الذي يحملُ أسفاراً، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(3).

 

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾(4) فسواءً كان المرادُ من النجاسة هي القذارةَ المعنويَّة أو كان المرادُ منها النجاسة الخبثيَّة فإنَّ توصيفَهم بالنجَس فيه امتهانٌ لهم، وهو لا يتلاءمُ والتكريم الذي منحَه اللهُ تعالى للإنسان.

 

وقد أخبرَ القرآنُ الكريم أنَّ اللهَ عزَّ وجل مسَخ قوماً من اليهود إلى قردةٍ وخنازير. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾(5).

 

وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ / قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾(6) فهل يجتمعُ التكريمُ مع مسخِهم إلى قردة وخنازير وتَعييرِ الذين هم على شاكلتِهم بهم؟!

 

ومن ذلك يتَّضح أنَّ الكرامة الإلهيَّة ليست لكلَّ إنسانٍ حتى لو تمرَّد على ربَّه جلَّ وعلا، ولهذا قال تعالى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ﴾(7) ومعنى الصَغار هو التحقير والهَوان المنافي للتكريم.

 

وقال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ فظاهرُ الآية أنَّ واحداً مِن مِلاكات جعل الجِزيةِ على هؤلاء الذين يُحاربون اللهَ تعالى ويجحدونَ الحقَّ من أهل الكتاب هو التحقيرُ والتصغيرُ لهم، وهو لا يتلاءم والتكريم الممنوح للإنسان.

 

وقال تعالى: ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(8) والخزيُ هو الذلُّ والهَوان وقد أذاقه إيَّاهم في الدنيا، وذلك منافٍ للتكريم أيضًا.

 

وثمة آياتٌ أخرى عديدة تُعبَّرُ عن أنَّ التكريم الإلهيَّ لا ينالُ الكافرين، وليس معنى ذلك انَّ الحكم بنجاستِهم مُستندٌ إلى هذه الآيات وإنَّما أردتُ من ذكر هذه الآيات الإشارةَ إلى أنَّ التكريم الإلهيَّ لا يطالُ الكافرين بالله جلَّ وعلا، فهم ليسوا أهلاً لذلك ما داموا على كفرِهم، فإذا ما آمنوا بربَّهم واتَّبعوا سبيلَه فإنَّ كرامة اللهِ تسعُهم.

 

هذا ما يتَّصل بالجوابِ النقضي على الدَّعوى، وأما الجوابُ الحلِّي فهو أنَّ آيةَ التكريم لبني آدم، وهي قولُه تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ كانت بصدد التعبير عن امتنان الله عزَّ وجل على الإنسان بأنْ خلقَه كريماً متميَّزًا عن سائر خلقه، لذلك يلزمُه أنْ يَعرِف لربَّه هذه الكرامة.

 

والمؤكِّد لإرادة هذا المعنى من الآيةِ المباركة هو ما اشتملتْ عليه تمامُ الآية، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(9).

 

فالتكريم في الآية المباركة يعني التمييز المقتضي للتشريف والتفضيل للإنسان على سائر الخلق بالعديد من النِعَم الإلهيَّة، والمُنعِمُ عندما يكونُ في مقام الاِمتنان والتَعداد للنعَمِ على مَن أَنعَم عليه فإنَّ غرضه من ذلك عرفاً هو البعثُ له على أنْ يعرفَ للمُنعِم حقَّ هذه النِّعَم.

 

فليست الآيةُ بصدد النفي لاستحقاق مطلق الانسان للامتهان والسخط حتى لو تمرَّد على ربَّه، بل يظهرُ من سياق الآياتِ التي سبقت آيةَ التكريم أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد يسخطُ على الإنسان ويمتهنُه إذا تمرَّد عليه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا / أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً / أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾(10).

 

فالآياتُ التي سبقت آيةَ التكريم تُحذَّر الانسانَ من سخطِ الله تعالى وأنَّه قد يخسفُ به أو يُرسلُ عليه حاصبًا أو قاصفًا من الريح، وذلك يقتضي أنَّ التكريم الوارد في الآية التي تلتْ هذه الآيات ليس بمعنى صون الانسان عنْ أنْ يكون محلاً لسخط الله وامتهانِه حتى لو تمرَّد على ربَّه جلَّ وعلا.

 

وخلاصة القول هو أنَّه لا ينبغي لطالب العلم المبادرة إلى الحكم على أيِّ روايةٍ بالوضع لمجرَّد سانحةٍ خطَرت في ذهنِه بل يتعيَّنُ عليه في مقام التعاطي مع رواياتِ أهل البيت (ع) التروِّي والتثبُّت.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الإسراء / 70.

2- سورة الفرقان / 44.

3- سورة الجمعة / 5.

4- سورة التوبة / 28.

5- سورة البقرة / 65.

6- سورة المائدة / 59-60.

7- سورة الأنعام / 124.

8- سورة الزمر / 26.

9- سورة الإسراء / 70.

10- سورة الإسراء / 67-69.