كيف استعمل القرآن العربي ألفاظاً أعجميَّة؟!

شبهة مسيحي:

تكرَّر في القرآن انَّه كتابٌ عربي في ثمان مواضع:

منها: ما ورد في سورة يسف: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(1) فكيف نفسِّر وجود كلمات:

عبريَّة: مثل: آدم وتوراة وجهنم وآمين، وفارسية وهي: أباريق، إستبرق، سرادق، وبهلوية وهي: حور، زنجبيل، سجِّيل، فردوس، مقاليد، وحبشية وهي: طاغوت، مشكاة، وفينيقية وهي: حبر ومصرية: وهي: تابوت، وآشورية: وهي: إبراهيم، ويونانية وهي: إنجيل، وآرامية وهي: سكينة، ماروت، وأرمنية وهي: هاروت وماروت، وسريانيَّة: وهي: سورة، عدن، فرعون، بل وكلمة -الله- ذاتها والتي وردت في القرآن خمسمائة وست وستون مرة، هي تحريفٌ للكلمة العبريَّة -إلوه-، أو عن السريانية -الاهه-.

الجواب:

ركنا الانتساب إلى اللغة:

المُصحِّح لنسبة أيِّ كتابٍ إلى أيِّ لغةٍ من اللغات هو أنْ يكون الكتاب واجداً لركنين أساسيين:

الأول: أنْ يكون اسلوبه مطابقاً للأسلوب المعتمَد في تلك اللغة المُنتسِب إليها، بمعنى أنْ تكون تصريفات أفعاله وتراكيب جمَله وأدوات الربط بين أسمائه وأفعاله وفقراته مطابقةً لما هو المقرَّر في تلك اللغة.

الثاني: أنْ تكون الغالبيَّة المطلقة لمفرداته من الأسماء وموادِّ الأفعال مشتقَّةً من تلك اللغة المُنتسِب إليها.

فكلُّ كتابٍ كان واجداً لهذين الركنين فهو مُنتسِبٌ إلى تلك اللغة التي اعتمد أسلوبها ومفرداتها، وحينئذٍ لا يضرُّ بنسبته إلى تلك اللغة استعماله لبعض المفردات الأجنبيَّة عن تلك اللغة.

القرآن مستوفٍ للركنين:

ولا ريب أنَّ القرآن الكريم كان من حيثُ الأسلوب معتمِداً للنهج العربي في صياغة فقراته وتراكيب جُمَله وتصريفات الأفعال المستعملة فيه وأدوات الربط بين مفرداته من الأسماء والأفعال والمركَّبات اللفظيَّة، وكذلك فإنَّ الغالبيَّة العظمى من الأسماء وموادِّ الأفعال وأسماء الأفعال المستعملة في القرآن مشتقَّةٌ من مفردات اللغة العربيَّة، وأمَّا استعماله لبعض المفردات التي هي من أصلٍ غير عربي فهو محدودٌ جداً إذا نُسبت إلى الكمِّ الهائل من الأسماء وموادِّ الأفعال المستعملة في القرآن الكريم، على أنَّها مفرداتٌ كانت العرب تستعملها في محاوراتها وخطبها وأشعارها، وقد تمَّ تعريبها قبل استعمالها من قِبَل العرب أي أنَّه قد تمَّ تصريفها وفق النهج العربي قبل استعمالها، فهي وإنْ كانت من حيث موادّها مشتقَّة من أصلٍ غير عربي إلا أنَّها من حيث طريقة الاشتقاق والتصريف قد اعتمدت النهج العربي، فأخذت الصبغة العربية من جهة الاشتقاق والتصريف، فلم يستعمل القرآن الكلمة التي هي من أصلٍ غير عربي كما هي عليه في أصولها غير العربية بل أنَّه قد تمَّ صوغها وفقاً للتصريفات العربيَّة، ولم يكن القرآن هو أول من استعملها بعد تعريبها وصياغتها وفق الاشتقاق العربي بل كان تعريبها واستعمالها كذلك متداولاً في الوسط العربي، ولذلك لم ينقض عليه أحدٌ من مشركي العرب ويهودهم رغم تربُّصهم وحرصهم على أنْ يجدوا في القرآن ما يطعنون به عليه.

والمتحصًّل إنَّ استعمال القرآن لهذا المقدار من المفردات التي هي من أصولٍ غير عربية لا يضرُّ بعربيَّته كما لا يضرُّ ذلك بعربيَّة خطبةٍ من خطب العرب أو قصيدةٍ من قصائد العرب استُعمل فيها بعض المفردات غير العربيَّة بعد تعريبها.

ثم إنَّه مامن كتاب مُنتسِبٍ إلى أيِّ لغةٍ من اللغات إلا وهو مشتملٌ على بعض المفردات المشتقَّة قي أصولها من لغةٍ غير لغة ذلك الكتاب ورغم ذلك فإنَّ أحداً لا يسعه التوهُّم بعدم صحة انتساب ذلك الكتاب إلى تلك اللغة التي كُتب الكتاب بلغتها من حيثُ اسلوبه ومعظم مفرداته.

مغالطات صاحب الشبهة:

هذا وقد أورد صاحب الشبهة في شبهته عدداً من المغالطات:

المغالطة الأولى: انَّه عدَّ استعمال القرآن لأسماء الأعلام الأعجميَّة مثل إبراهيم وآدم وفرعون وهاروت وماروت والتوراة والانجيل، عدَّ ذلك من استعمال الألفاظ غير العربيَّة رغم أنَّها أسماءُ أعلام، وليس لأحدٍ يتكلَّم أو يكتب بأيِّ لغةٍ أن يُسمي أحداً بغير اسمه وإنْ كان هذا الإسم مشتقَّاً من غير اللغة التي يكتب أو يتحدث بها، فالذي يتكلَّم باللغة العبرية مثلاً عندما يريد أنْ يذكر اسم مكة أو اسم النبيِّ محمدٍ (ص) فإنَّه لن يُسمِّي مكة بغير اسمها ولن يُسمِّي النبيَّ محمداً (ص) بغير لفظ محمد، وكذلك فإنَّ الذي يتكلم باللغة الفارسية وأراد انْ يذكر اسم الحسن والحسين (عليهما السلام) فإنَّه لن يُسمِّيهما بغير اسميهما رغم أنَّهما مشتقان من غير اللغة التي يتكلَّمُ بها، وهكذا.

فتسمية الأعلام من شخصيات أو بلدان أو ما أشبه ذلك لا تتغيَّر باختلاف اللغات إلا أنْ يكون للعلَم الشخصي أكثر من اسمٍ فحينئذٍ قد يختار المتكلِّم الاسم المشتق من لغته، على أنَّه لو اختار الإسم المشتق من غير لغته فإنَّ ذلك لا يُضيره لكونه متعارفاً في كلِّ لغة.

المغالطة الثانية: أنَّه ذكر ألفاظاً استعملها القرآن الكريم ادَّعى أنَّها من أصلٍ غير عربي والحال أنَّ الأمر ليس كذلك:

فالأول: من هذه الألفاظ كلمة "الحور" الواردة في قوله تعالى: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾(3) فهذه الكلمة عربيَّةٌ ومن أصلٍ عربي وليس كما يدَّعي صاحب الشبهة أنَّها من أصلٍ بهلوي، وذلك يتبيَّن بمجرَّد الرجوع إلى كتب اللغة والوقوف على الأصل الاشتقاقي للكلمة، فالحور يعني الرجوع إلى الشيء ومنه، والأصل اللغوي لكلمة الحور هو مِن حار الشيء يحور أي إذا استدار، ومنه حار الماء أي استدار حول الشيء، وحوَّرتُ الخبز أي دوَّرتُه، والمحور الخشبة التي يُبسط بها العجين يُحوَّر به تحويراً، والحديدة التي تدور عليها البكرة يُقال لها المحورة.

ويُطلق التحوير ويُراد منه التبيض فيُقال حوَّرتُ الشيء أي بيَّضتُه، والحواري هو أجود الدقيق لشدة بياضه، وامرأة حواريَّة أي بيضاء حضرية، وكلمة حور كما يذكر اللغويون جمع أحور وحوراء، والحوَر بفتح الواو وصفٌ للعين التي يكون بياضها المستدير حول السواد قليل مع سعة السواد واستدارته، وذلك منتهى الحسن للعيون، وقيل إنَّ الحوَر وصفٌ للعين شديدة البياض فيما ابيضَّ منها وشديدة السواد فيما اسودَّ منها مع سعتها واستدارتها.

الثاني: من الألفاظ التي ذكرها كلمة "سكينة" الواردة في قوله تعالى: ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾(4) وهي عينها الواردة في مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(5) وكلمة سكينة عربيَّة ومن أصلٍ عربي، وليس كما يدَّعي صاحب الشبهة أنَّها مأخوذة من اللغة الآرمية.

والأصل الاشتقاقي لكلمة سكينة هو السكون بمعنى الطمأنينة المقابل للاضطراب، وبمعنى الاستقرار والثبوت المقابل للحركة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار﴾(6) ومن ذلك تسمية البيت بالسكن كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾(7) ومنشأ التسمية هو أنَّ البيت موضع الاستقرار والطمأنينة، ولذات الغاية وُصف الليل بالسكن كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾(8).

الثالث: من الألفظ التي ذكرها هي كلمة "آمِّين" الواردة في قوله تعالى: ﴿وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾(9) وهذه الكلمة عربيَّة ومن أصلٍ عربي، ومعنى آمِّين البيت الحرام هو قاصدين البيت الحرام، وهي مشتقة من الأَم بمعنى القصد يقال: أممتُ الشيء أي قصدتُه وعمدتُه قال تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ﴾(10) أي لا تقصدوا وتعمدوا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا﴾(11) اقصدوا صعيداً من الأرض طاهراً، ومنه اشتُقَّ لفظ الإمام الذي يُقتدى به.

فالكلمة عربيَّة ومن أصلٍ عربي، وليس كما ذكر صاحب الشبهة أنَّها كلمةٌ عبريَّة، ولعلَّه خلط بين كلمة آمِّين بتشديد الميم وبين كلمة آمين بتخفيف الميم والتي هي التأمين على الدعاء وتكون بمعنى "اللهمَّ استجب"، فإنَّ هذه الكلمة قيل إنَّها من أصلٍ أعجمي، فقد أرجعها بعضهم إلى اللغة السريانية، وبعضهم إلى اللغة العبريَّة، وذكر بعضهم أنَّها معرَّبة عن اللغة الفارسيَّة وأنَّ أصلها "همين" وادَّعى آخرون أنَّها كلمة عربيَّة وليست أعجميَّة.

وعلى كلِّ تقدير فإنَّ هذه الكلمة ليست من ألفاظ القرآن، وأنَّ المذكور في القرآن هو لفظ آمِّين بتشديد الميم الواردة في قوله تعالى: ﴿وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ وهي بمعنى قاصدين، ومشتقَّة من الأَمِّ بمعنى القصد.

الرابع: من الألفاظ التي ذكرها هي كلمة "طاغوت" الواردة في مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾(12) وهذه الكلمة عربية ومن أصلٍ عربي مشتقَّة مِن الطغيان ومِن طغى، وهو مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾(13) أي تجاوز منسوبه الحد، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى﴾(14) أي يتعدَّى في ظلمنا أو يتعدَّى في إستكباره، ويُطلق الطاغوت على كلِّ متعدٍّ، وكذلك يُطلق على كلِّ رأسٍ في الضلال، ولذلك يُسمَّى الشيطان طاغوتاً وكذلك الصنم والكاهن والواحد من مرَدة الإنس والجن.

الخامس: من الألفاظ التي ذكرها هي كلمة "عدن" الواردة في مثل قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾(15) فهذه الكلمة عربيَّة ومن أصلٍ عربي، وليس كما يدَّعي صاحب الشبهة أنَّها من أصلٍ سرياني، فهي كما يذكر اللغويون مثل الزبيدي في كتابه تاج العروس قال: "عَدَنَ بالبَلَدِ يَعْدِنُ ويَعْدُنُ، مِن حَدَّيْ ضَرَبَ ونَصَرَ، عَدْناً وعُدُوناً: أَقَامَ؛ ومنه: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ أَي جَنَّاتُ إقامَةٍ لمَكانِ الخُلْدِ، وجَنَّاتُ عَدْنٍ: بُطْنانُها، وبُطْنانُها: وَسَطُها؛ وبُطْنانُ الأَوْديَةِ: المَواضِعُ التي يَسْتَرْيِضُ فيها ماءُ السَّيْلِ فيَكْرُمُ نَباتُها. وعَدَنَتِ الإِبِلُ بِمكانِ كذا تَعْدِنُ وتَعْدُنُ عَدْناً وعُدوناً: أَقامَتْ في المَرْعَى .." وقال: "عَدَنَ البلَدَ: تَوَطَّنَه. ومَرْكَزُ كلِّ شيءٍ: مَعْدِنُه. والمَعادِنُ: الأُصُولُ. وهو مَعْدِنٌ للخَيْرِ والكَرَمِ إذا جُبِلَ عليهما، على المَثَلِ. والعَدَانُ، كسَحابٍ: موضِعُ العُدُونِ، وتَرَكْتُ إِبِلَ بَني فلانٍ عَوادِنَ بمكانَ كذا، أَي مُقِيماتٌ به"(16).

وقال إبن منظور في كتابه لسان العرب: "عدن: عَدَنَ فلان بالمكان يَعْدِنُ ويَعْدُنُ عَدْناً وعُدُوناً: أَقام. وعَدَنْتُ البلدَ: تَوَطَّنْتُه. ومرْكَزُ كل شيء مَعْدِنُه، وجنّاتُ عَدْنٍ منه أَي جنات إِقامة لمكان الخُلْد، وجناتُ عَدْنٍ بُطْنانُها، وبُطْنانها وسَطُها. وبُطْنانُ الأَودية: المواضعُ التي يَسْتَرْيضُ فيها ماءُ السيل فيَكْرُمُ نباتُها، واحدها بَطْنٌ. واسم عَدْنان مشتق من العَدْنِ، وهو أَن تَلْزَمَ الإِبلُ المكانَ فتأْلَفَه ولا تَبْرَحَه.

قال: ومنه المَعْدِن، بكسر الدال، وهو المكان الذي يَثْبُتُ فيه الناس لأَن أَهله يقيمون فيه ولا يتحوَّلون عنه شتاءً ولا صيفاً، ومَعْدِنُ كل شيء من ذلك، ومَعْدِنُ الذهب والفضة سمي مَعْدِناً لإِنْبات الله فيه جوهرهما وإِثباته إِياه في الأَرض حتى عَدَنَ أَي ثبت فيها.

وقال الليث: المَعْدِنُ مكان كل شيء يكون فيه أَصله ومَبْدَؤه نحو مَعْدِنِ الذهب والفضة والأَشياء.

وفي الحديث: فَعَنْ معادِنِ العرب تسأَلوني؟ قالوا: نعم، أَي أُصولها التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها. وفلان مَعْدِنٌ للخير والكرم إذا جُبِل عليهما، على المَثَل ..". وقريب من ذلك أفاده غيرهما من اللغويين(17).

المغالطة الثالثة: دعواه أنَّ لفظ الجلالة "الله" كلمةٌ قد تمَّ تحريفها من كلمة "إلوه" العبريَّة أو من كلمة "الاهه" السريانيَّة"، وهي دعوى جزافية وباطلةٌ دون ريب، فإنَّ لفظ الجلالة "الله" كلمةٌ عربيَّة ومن أصلٍ عربي كما يتَّضح ذلك بأدنى مراجعة لمعاجم اللغة العربيَّة والوقوف على أصل اشتقاقها.

فكلمة "الله" اسم معرَّفٌ بالألف واللام وأصله كما أفاد الجوهري في كتاب الصحاح: "إلاه على فِعال، بمعنى مفعول، لأنَّه مألوه أي معبود، كقولنا: إمام فِعال بمعنى مفعول، لأنَّه مؤتَمٌ به -أي مأموم- فلمَّا أُدخلت عليه الألف واللام حُذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام .." والتأليه بمعنى التعبيد، والتألُّه يعني التنسُّك والتعبُّد.

وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "أله الهمزة واللام والهاء أصل واحد وهو التعبُّد. فالإله الله تعالى وسُمِّى بذلك لأنَّه معبود. ويُقال تألَّه الرجل إذا تعبَّد"(18).

وفي مجمع البحرين لفخر الدين الطريحي نقل انَّ سيبويه قال: "وأصله (إله) دخلت عليه الألف واللام فبقي (الإله) ثم نُقلت حركة الهمزة إلى اللام وسقطت فبقي (الله) فأُسكنت اللام الأولى وأُدغمت وفُخِّم تعظيماً، لكنَّه تُرقَّق مع كسرة ما قبله"(19).

وهكذا فإنَّ أكثر اللغويين أفادوا انَّ الأصل الاشتقاقي للفظ الجلالة هو إله بمعنى مألوه أي معبود إلا أنَّ بعضهم ذكر غير ذلك، فإبن منظور مثلاً في لسان العرب بعدما ذكر ما عليه المشهور نسب إلى أبي الهيثم أنَّه قال: "وأَصل إلَه وِلاه، فقلبت الواو همزة كما قالوا للوِشاح إشاحٌ وللوِجاحِ وهو السِّتْر إِجاحٌ، ومعنى ولاه أَنَّ الخَلْقَ يَوْلَهُون إليه في حوائجهم، ويَضْرَعُون إليه فيما يُصيبهم، ويَفْزَعون إليه في كلِّ ما ينوبهم، كما يَوْلَه كل طِفْل إلى أُمه" ونَسب إلى مَن لم يذكر إسمه بقوله: وقيل إنَّ "اسم الباري سبحانه إنَّه مأْخوذ من أَلِه يَأْلَه إذا تحيَّر، لأَنَّ العقول تَأْلَه في عظمته. وأَلِه يَأْلَه أَلَهاً أَي تحيَّر، وأَصله وَلِه يَوْلَه وَلَهاً. وقد أَلِهْتُ على فلان أَي اشتدَّ جزعي عليه، مثل وَلِهْتُ، وقيل: هو مأْخوذ من أَلِه يَأْلَه إلى كذا أَي لجأَ إليه لأَنَّه سبحانه المَفْزَعُ الذي يُلْجأُ إليه في كلُّ أَمر؛ قال الشاعر: أَلِهْتَ إلينا والحَوادِثُ جَمَّةٌ "وعلى كلِّ تقدير فلم يُنسب إلى أحدٍ ممَّن يعتدُّ بقوله أنَّ الأصل الاشتقاقي للفظ الجلالة أعجمي رغم أنَّ اللغويين قد جرت عادتهم على الإشارة إلى ذلك في كلِّ مورد كان فيه اللفظ مشتقاً من أصلٍ أعجمي، لأنَّهم لا يرون في ذلك غضاضة، إذ انَّ استعمال لفظٍ من أصلٍ أعجمي بعد تعريبه غير ضائرٍ بعربيَّة الكلام ولا هو مانع من اتِّصافه بالبلاغة والفصاحة في العرف العربي وبنظر الأدباء وأهل المحاورة، فلو كان لفظ الجلالة من أصلٍ أعجمي لما كان في التنويه على ذلك من بأس إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك وهو مايُؤكِّد جزافيَّة ما ادَّعاه صاحب الشبهة بغير دليل.

الخلاصة:

والمتحصَّل انَّ الطعن في عربيَّة القرآن الكريم لمجرَّد اشتماله على عددٍ محدودٍ جدَّاً من الألفاظ المشتقة من أصلٍ أعجمي -رغم أنَّها معرَّبةٌ ومتداولةٌ في الوسط العربي ورغم أنَّ ذلك متعارفٌ في كلِّ لغة- يُعبِّر عن إفلاس المتربِّصين بالإسلام والقرآن وحيرتهم حيث لم يجدوا ما ينقضون به على القرآن فاضطرهم ذلك إلى اللجوء إلى مثل هذه الطعون الواهية التي ينبغي أنْ يستحي موردُها من نفسه، إذ أنَّ إيراد الخصم لمثل هذه الواهيات يكشف بنظر العقلاء عن هزيمته وعجزه، لأنَّه لم يلجأ إلى مثل ذلك إلا لعدم وجدانه ما ينتصر به لدعواه ومعتقده.

فلو انَّه أحجم عن مثل ما أورده وتدثَّر بالسكوت لكان أحجى له ولكنَّه الغِلُّ في النفس إذا تمكَّن منها وشابَهُ شعورٌ بالصَغَار أمام تألُّق الخصم أبى على واجده الصواب، فتراه يخبطُ عشواءَ يبحثُ عمَّا يُنفِّسُ به غيظَه الجاثمَ على قلبه، ذلك هو ما نشأ عنه مثل هذه الطعون الفاضحة لمُورِدها ومتبنِّيها.

ولعلَّ من الإنصاف أنْ نتفَّهم حيرة هؤلاء وتخبُّطِهم، فإنَّ ما يطاولونه ويطمحون في النيل منه هو القرآن الذي أعيى الجنَّ والإنسَ مجتمعين أنْ يأتوا بمثله، فشأنُ هؤلاء شأنُ الوعل الذي أفاد الشاعر انَّه نطح صخرةً ليُوهنها فعاد وقد أوهى النطح قرنَه:

كناطحٍ صخرةً يوماً ليُوهنا ** فلم يضرها وأوهى قرنَه الوعلُ

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة يوسف / 2.

2- سورة الرحمن / 72.

3- سورة الواقعة / 23.

4- سورة البقرة / 248.

5- سورة الفتح / 4.

6- سورة الأنعام / 13.

7- سورة النحل / 80.

8- سورة الأنعام / 96.

9- سورة المائدة / 2.

10- سورة البقرة / 268.

11- سورة النساء / 43.

12- سورة البقرة / 257.

13- سورة الحاقة / 11.

14- سورة طه / 45.

15- سورة البينة / 8.

16- تاج العروس -الزبيدي- ج 18 / ص370.

17- لسان العرب -ابن منظور- ج 13 / ص279.

18- معجم مقاييس اللغة -أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا- ج1 / ص127.

19- مجمع البحرين -الشيخ الطريحي- ج1 / ص95.