المصحِّح للاحتجاج بالمسائل العلمية في عصر النص

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾(1).

 

كيف يحتجُّ الله تعالى على أهل الجاهليَّة بأمثال هذه الأمور العلمية المتقدمة؟ فهل كان هؤلاء على علمٍ برَتقِ السموات والأرض حتى يصحَّ الاحتجاج عليهم بذلك؟

 

الجواب:

إنَّ أيَّ نصٍ من النصوص يصدر عن عالمٍ متخصِّص في شيءٍ من حقول المعرفة، ويكون هذا العالم بليغاً فصيحاً قادراً على أن يصوغ نظريته في ألفاظٍ ميسورة الفهم، ويكون في ذات الوقت حريصاً على الدقَّة مُجيداً لرعايتها.

 

فإنَّ مثل هذا النصِّ لو تلقَّاه أصنافٌ من الناس متفاوتون من حيثُ القدرة الإدراكية فإنَّ كلَّ صنفٍ منهم سوف يكونُ له حظٌ من فهم هذا النصِّ بمقدار ما تُسعفه به خلفياته الثقافية وإمكانياته الذهنية، فكلَّما كان المتلقِّي لهذا النصِّ أجود فهماً وأوسع علماً كان إدراكه لهذا النصِّ أكثر استيعاباً، ورغم التفاوت في الأفهام إلا أنَّها تقع في صراطٍ واحدٍ، غايته أنَّ بعضها أكثر عمقاً من الآخر، فليس بين الأفهام تنافٍ ولكن بينها طولية أو يمكن التوصيف لبعضها بالفهم السطحي والتوصيف للآخر بالفهم العميق والأكثر عمقاً وهكذا.

 

كذلك هي آيات القرآن الكريم، فهي نصوصٌ صدرت من عالم الغيب والشهادة وهي غاية في الدقة وفي أعلى درجات الفصاحة والبلاغة، وقد صدرت بألفاظ ميسورة الفهم لذلك يأخذ كلُّ متلقٍ لها بمقدار حظِّه من الفهم والعلم.

 

فحينما يقف المتلقِّي على مثل قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾(2) فإنَّ ثمة متلقِّياً لا تتعدَّى رؤيته للآفاق إلى أكثر من الأفق الذي يلحظه بعينه المجرَّدة فيرى فيه الشمس والقمر والنجوم الصغيرة المتناثرة في أُفق السماء فيعرف أنَّ لهذا الأفق الرحب -الذي لا يتجاوز بُعد النظر عنده- خالقاً عظيماً، وينظر إلى نفسه فيُشاهد استقامةً وتناسقاً ويدين ورجلين ولساناً وشفتين وعقلاً وإرادة فيعرف أنَّ ثمة مدبِّراً قد سوَّاه فأحسن صنعه إلا أنَّ متلقِّياً آخر لهذا النصِّ يُبصر ما هو أوسع من الأفق الذي تلحظه العين المجرَّدة فيقف على آفاقٍ أرحب ومجرَّاتٍ ونجومٍ منتظمة، ويقف آخر على تفاصيل نظامها وقوانين سيرها وهكذا.

 

وثمة متلقٍ للنصِّ لا تتلخص رؤيته للنفس بما ظهر من جوارح الجسد بل تتعداه فيرى ما دقَّ منها، حيثُ العروق والشرايين والأوردة، ويتعرَّف غيره على وظائفها ونظامها.

 

وآخر يلحظ النفس من خلال المشاعر والأحاسيس والهواجس ويلحظها ثالث من زاوية ما انطوت عليه النفس من فكر وتعقُّلٍ وإرادةٍ واختيار، وكلُّ هؤلاء يُحفِّز فيهم النص المذكور حالةَ التأمل فيخرجون منه لو أنصفوا بنتيجةٍ واحدة هي أنَّ لهذه الآفاق الكونية والنفسية صانعاً ومدبِّراً، غايته أنَّ مستوى الاستيعاب لهذه النصِّ كان متفاوتاً ولكنَّه واقع في سياق واحد.

 

ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾(3).

 

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ المصحِّح للاحتجاج على الكفار بمثل قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾(4) هو أنَّ مستوى ما يمكن استيعابه من الكفار في عصر النصِّ لهذه الآية يصلح للاحتجاج.

 

فإذا كانوا قد فهموا من الآية المباركة أنَّ كلاً من السماوات والأرض كان مرتوقاً ثم فُتقت السماء فنزل منها المطر وفُتقت الأرض فخرج منها النبات والزرع فإنَّ هذا المستوى من الفهم كان مرئياً لهم، ولهذا صحّ أن يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهذا الفهم الناشئ عن هذه الرؤية كافٍ للاحتجاج عليهم والتنبيه لهم بأنَّه كيف انفتقت السماء عن ماءٍ والأرض عن نبات أيمكن أن يكون ذلك دون مدبِّر.

 

والذي يؤيد ان هذا الفهم قد عنته الآية في ضمن ما كانت تعنيه هو ما ورد عن الإمام الباقر (ع) حينما سُئل عن معنى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ ما هذا الرتق وما هذا الفتق؟ قال أبو جعفر (ع) كانت السماء رتقاً لا تُنزل القِطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُخرج النبات ففتق الله السماء بالقِطر وفتق الأرض بالنبات(5).

 

فالإمام (ع) أوضح مفاد الآية المباركة بالمستوى الذي يفهمه المتلقِّي للآية المباركة آنذاك، فلم يتحدَّث عن المدلول الدقيق لمفهومي الرتق والفتق، ورغم ذلك فالمعنى الذي أفاده (ع) معنيٌّ للآية وصالح للاحتجاج به ولا يُنافيه ما قد يصل إليه الإنسان من مدلولٍ أعمق لمفهوم الفتق وكيفيته ومراحل حدوثه والعلَّة التي نشأ عنها والنظام الذي وقع في إطاره، وكذلك لا يُنافيه ما قد يقف عليه الإنسان من مصاديق أخرى للفتق والرتق غير فتقِ الغمام بالمطر والتربة بالنبات. فانفصال السماء عن الأرض بعد أن كانتا ملتحمتين لو ثبت فهو رتقٌ وفتقٌ.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأنبياء / 30.

2- سورة فصلت / 53.

3- سورة فاطر / 28.

4- سورة الأنبياء / 30.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج8 / ص95، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص165، الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج2 / ص62.