مفادُ قولِه تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قولُه تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾(1) ألا يدلُّ بوضوح على مدح زوجاتِ النبيِّ (ص)؟

 

الجواب:

لا ريبَ أنَّ زوجاتِ النبيِّ الكريم (ص) أمهاتٌ للمؤمنين وأنَّهنَّ موضعٌ للتقدير والاحترام إلا أنَّه ليس في هذه الآية الشريفة دلالةٌ على المدح لزوجاتِ النبيِّ (ص)، وأقصى ما تقتضيه دلالة الآية هو الدعوةُ والحثُّ على توقيرهنَّ واحترامهن، وهذا أمرٌ لا ينبغي أنْ يرتابَ فيه أحد، وأمَّا أنَّ الآية متصدِّيةٌ لمدحهنَّ بالتميُّز والثناءِ عليهنَّ فهو من تحميل دلالة الآية ما لا تحتمل.

 

فالآيةُ لا تدلُّ على أكثر من أنَّ الله تعالى قد نزَّل زوجاتِ الرسول (ص) منزلة أُمهاتِ المؤمنين وذلك تكريماً للرسول (ص) فاعتبارهنَّ أمهاتٍ للمؤمنين إنَّما نشأ عن كونهنَّ زوجاتٍ للرسول (ص) ولم ينشأ عن خصوصيَّةٍ وتميُّزٍ لهنَّ على سائر النساء في الصفاتِ والملَكاتِ والسجايا، ولذلك لو أنَّ امرأةً كانت كافرة ثم أسلمت فتزوَّجها النبيُّ (ص) بعد اسلامها بساعة فإنَّها تُصبحُ من فورِها -دون ريب- أمَّاً للمؤمنين رغم أنَّها لم تصلِّ بعدُ لله ركعةً ولم تعرف من معارفِ الإسلام شيئاً، ولم يُعلم أنَّه سيحسُنُ اسلامُها أو لا، رغم ذلك هي أمٌّ للمؤمنين بمقتضى الآية الشريفة، ولو أنَّ زوجةً للرسول (ص) قضت معه ردحاً من الزمن ثم طلَّقها فإنَّها تخرج بذلك عن حيِّز أُمهات المؤمنين، وكلُّ ذلك يُعبِّر عن أنَّ هذا الوسام إنَّما حظَينَ به تكريماً للرسول (ص) محضاً وليس لخصوصياتٍ ذاتيَّة تميَّزَ بها زوجاتُ الرسول (ص).

 

نعم تنزيلُ القرآن الكريم لزوجاتِ النبيِّ (ص) منزلة الأُمهات يستبطنُ -بحسب المُتفاهَمِ العرفي- الأمرَ باحترامهنَّ وتوقيرهن لكنَّ الأمر بالاحترام لا يدلُّ على مدحِ مَن أُمر باحترامه خصوصاً إذا كان الأمرُ بالاحترام نشأ عن اعتباراتٍ لا تتَّصلُ بذاتِ مَن أُمر باحترامِه.

 

فحين يأمرُ القرآن مثلاً بتوقير الأُمِّ النسبيَّة واحترام الأب فإنَّ أحداً لا يفهمُ من ذلك أنَّ الأبَ صالحٌ وأنَّ الأمَّ صالحة، فقد يكونُ الأب والأمُّ سيئين أو جاهلَين أو متهاونين في شأن الدين ورغم ذلك يأمرُ اللهُ تعالى بتوقيرهما، ولا يرى أحدٌ أيَّ تنافٍ بين الأمر بتوقيرهما وبين واقعِهما السيء، وكذلك حين يأمرُ الرسول (ص) بتوقير الشيخِ الكبير فإنَّ هذا الأمر ليس فيه مدحٌ للشيخ الكبير، فقد يكون هذا الشيخ سيئاً في نفسه أوضعيفَ الإيمان ومع ذلك يتعيَّنُ عليك احترامه لا لذاته وإنَّما لشيخوختِه.

 

فاعتبارُ زوجات الرسول (ص) أُمهاتٍ للمؤمنين لا يدلُّ على تمُّيزهنَّ واختصاصهنَّ بصفاتٍ وملكاتٍ اقتضت اعتبارهنَّ أمهاتٍ للمؤمنين.

 

والذي يُؤكِّد على ذلك ما ورد في قولِه تعالى مخاطباً نساء النبيِّ (ص): ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(2) فإنَّ قوله: ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ﴾ يدلُّ على أنَّ مجرَّد كونهنَّ زوجاتٍ للنبيِّ (ص) لا يُؤهِّلن للدخول في حيِّز المُحسنات وإنَّما يتأهَّلن لهذا الوصف إذا أخذنَ بأسبابه، فالآية تدلُّ على أنَّ زوجاتِ النبيِّ (ص) قد يكون فيهنَّ المُحسنات وفيهنَّ غير المُحسنات فكونهنَّ زوجاتٍ للنبيِّ (ص) لم يُصيِّرهن لمجرَّد ذلك محسنات.

 

وكذلك يمكن تأييد ما ذكرناه بمثل قوله تعالى مخاطباً نساء النبيِّ (ص): ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾(3) فالآيةُ صريحةٌ في أنَّ كونهنَّ زوجاتٍ للنبيِّ (ص) لا يعني أنهنَّ خيرُ النساء، فقد يكونُ في المسلماتِ من سائر الناس مَن هنَّ خيرٌ منهن، فاختيارهنَّ زوجاتٍ للنبيِّ (ص) لا يعني أنهنَّ خيرُ النساء. وهو ما يُؤكِّد على أنَّ اعتبارهنَّ أمهاتٍ للمؤمنين لم ينشأ عن خصوصيَّةٍ كماليَّة في ذواتِهن.

 

وأصرحُ من هاتين الآيتين قولُه تعالى موبِّخاً لامرأتين من زوجاتِ النبيِّ (ص): ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾(4) فالآية تدلُّ على أنَّ هاتين الزوجتين قد صغَت قلوبُهما أي زاغت، وتدلُّ على أنَّهما تظاهرتا وتآمرتا على الرسول (ص) بمستوىً استدعى أنْ يُطمئنه القرآنُ بأنْ لا يخشى من تآمرهما فإنَّ الله تعالى معينُه وجبرئلُ معينُه وصالحُ المؤمنين والملائكةُ، كلُّ هؤلاء سيُعينون الرسول (ص) على دفع ما تآمرتا به عليه، فما هو هذا التظاهرُ الذي استرعى كلَّ هذه العنايةِ من اللهِ تعالى!!.

 

كلُّ هذه الآيات وغيرها تكشفُ على أنَّ اعتبار زوجاتِ النبيِّ أُمهاتٍ للمؤمنين لم ينشأ عن خصوصيَّةٍ وتميُّزٍ ذاتيٍّ فيهنَّ وإنَّما كان ذلك تكريماً للرسول (ص) محضاً، ويؤكِّد ذلك ملاحظة السير الذاتيَّة لعددٍ من زوجات النبيِّ (ص) في حياة النبيِّ (ص) وبعد وفاته فإنَّها تكشفُ عن عدم تميُّزهن عن سائر النساء.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأحزاب / 6.

2- سورة الأحزاب / 29.

3- سورة التحريم / 5.

4- سورة التحريم / 4.