﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ .. هل يدلُّ على الإلجاء والجبر؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(1).

 

إذا كان اللهُ تعالى ترك ابليس مُختارًا بين الهداية والغواية، وآثر إبليس الغواية على الهداية .. فأبى السجود وقال ما قال .. فهو الذي أضلَّ نفسَه وأغواها.. فلِم جاءت الآيةُ الكريمة على لسان إبليس إنَّك يا ربِّ الذي أغويتني؟! فإذا كان اللهُ تعالى هو مَن أغواه وأضلَّه فإنَّ طردَه ومعاقبته سيكونُ منافيًا للعدل.

 

الجواب:

نعم الظاهر من الآية الشريفة انَّ إبليس نسب الغواية التي وقع فيها إلى الله جلَّ وعلا، وحيثُ إنَّ الظاهر من مدلول الغواية هو الضلال فهذا يقتضي أنْ يكون معنى "أغويتني" هو نسبة الإضلال لله جلَّ وعلا وهو يستبطن دعوى القسر والإلجاء على الضلال.

 

إلا أنَّه ليس في الآية ما يُشعرُ بأنَّ اللهَ تعالى قد ارتضى ما ادَّعاه إبليس من نسبة الإضلال لله تعالى المستبطن لدعوى الإلجاء والقسر على ذلك، فالآية الشريفة إنَّما كانت بصدد نقل ما ادَّعاه إبليس، وليس فيها ما يدلُّ أو يُشعر بأنَّ الله تعالى قد أقرَّه على دعواه بأنَّ الغواية التي وقع فيها كانت بإلجاءٍ وقسرٍ من الله تعالى.

 

فقولُ إبليس ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ كان محضَ افتراءٍ منه على ربِّه جلَّ وعلا، وذلك لوضوح أنَّ إبليس لو كان مقسوراً على المعصية وأنَّ الله تعالى قد أجبره على الوقوعِ فيها لَما سخِط عليه ولَما لعنَه وطرَدَه من رحمته وتوعَّده بالعقاب الشديد والدائم يوم القيامة، وهذا هو منشأ عدم تصدِّي القرآن في الآية الشريفة لنفي ما ادَّعاه إبليس من أنَّ الله تعالى قد ألجأه وأجبره على الوقوع في الغواية والضلال.

 

إذ يكفي للردِّ على هذه الفِرية ما بيَّنه القرآن من سخطِ الله على إبليس وطرده إيَّاه من رحمته وبيان أنَّ منشأ السخط هو استكباره وتمرُّدُه على ما أُمر به من السجود لآدم (ع)، قال تعالى قبل الآية المذكورة: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ/ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾(2) فالواضحُ من هاتين الآيتين أنَّ الله تعالى قد أسند صدور المعصية لإبليس نفسِه، فبعد أنْ أنكرَ عليه عدم السجود رغم الأمر وبعد أنْ لم يقبل اعتذاره بأنَّه خيرٌ من آدم بعد ذلك نسَبه إلى التكبُّر وبيَّن أنَّ مشأ عدم امتثالِه للأمر المولوي هو ما ينطوي عليه قلبُه من الكِبْر ثم طرده بعد أنْ وصفَه بالصَغار فقال تعالى: ﴿إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.

 

فالآيتان صالحتان للردِّ على دعوى إبليس أنَّ الله تعالى هو مَن ألجأه وقسَره على الضلال، فإبليس قد ادَّعى ذلك ولكنَّ الله تعالى أفاد أنَّ منشأ ضلال إبليس ومعصيته إنَّما هو كبرياؤه، فوقوعُه في الضلال كان بسوء اختياره، فهو مَن اختار التكبُّر وما كان له أنْ يتكبَّر كما أفاد القرآن، فمفادُ قوله تعالى: ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ﴾ صريحٌ في انَّ التكبُّر الذي أفضى للمعصية كان بمحض اختيار إبليس ولم يكن ذلك عن إلجاءٍ كما توهَّم إبليس أو كما افترى على الله تعالى، ولهذا كان جزاؤه من جنس عملِه وهو التصغيرُ والتحقير قال تعالى: ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.

 

وكذلك هو الشأن في الآية من سورة الحِجر: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(3) فإنَّ هذه الآية وإنْ اشتملت على دعوى إبليس إسناد وقوعه في الغواية لله جلَّ وعلا إلا أنَّه يكفي لتكذيب دعواه ما أفاده القرآن قبل هذه الآية مِن أنَّ الله تعالى قد سخط عليه لعصيانه الأمر بالسجود ثم لعنَه وطرَدَه من رحمته إلى يوم البعث، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ / قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ / قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ / وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾(4) فلو كان اللهُ تعالى مرتضياً لدعوى إبليس على ربِّه أنَّه الجأه وأجبره على الغواية لما أنكر عليه أولاً عدم امتثال الأمر بالسجود قال: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ فإنَّ هذا الاستفهام استنكاري، والواضحُ منه إسناد عدم السجود إلى اختيار إبليس، وكان جواب إبليس متضمِّناً للإقرار بأنَّ عدم سجوده كان باختياره حيثُ نسبَ عدم سجوده لنفسه وعلَّله بأنَّه خيرٌ من آدم (ع) فقال أولاً: ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ﴾ فهو قد أسند عدم السجود لنفسه وهو ظاهر في الاختيار ثم علَّل هذا الاختيار بما يُعبِّر عن كبريائه وإعجابه بنفسه واحتقاره لجنس الإنسان، ثم إنَّ الله تعالى عاقبه على معصيته بالطرد والرجم باللعنة إلى يوم الدين، وكلُّ ذلك ينفي دعوى إبليس أنَّه كان مجبراً على الضلال والغواية.

 

ولهذا لم تكن حاجةٌ بعد نقل دعواه "أغويتني" إلى تكرار النفي والتكذيب لها.

 

والمتحصَّل أنَّ قوله تعالى: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ كان في مقام النقل لما ادَّعاه إبليس، ومجرَّد نقل الدعوى لا يُعبِّر عن قبول الناقل بمؤدَّاها خصوصاً حين يكون الناقل خصماً للمدَّعي وكان في مقام التشنيع والتحذير منه، ثمَّ إنَّ ما سبقَ من بيان المنشأ الحقيقي لمعصية إبليس يُغني عن الحاجة للتصدِّي مرةً أُخرى لتكذيب دعوى إبليس.

 

على أنَّ قوله تعالى: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾(5) جاء بعد نقل القرآن لدعوى إبليس، وذلك يؤكِّد أنَّ معصيته نشأت عن سوء اختياره، ولذلك استحقَّ أنْ يُخرجه ربُّه ﴿مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأعراف / 16.

2- سورة الأعراف / 12-13.

3- سورة الحجر / 39.

4- سورة الحجر / 32-35.

5- سورة الأعراف / 18.