لِماذا استعاذتْ مريمُ وهي تراهُ تقيَّاً؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

 

المسألة:

جاء في سورة مريم (ع): ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾(1)، لماذا استعاذت مريم (ع) بالرحمن ممَّن رأته إذا كانت تراه تقيَّا؟

 

الجواب:

لم تكن السيدةُ مريم (ع) تعلم بهويَّة مَن فاجئها بالدخول عليها لأنَّه كان في صورة بشر، ولم يُعرِّف بعدُ لها عن نفسِه ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾(2) ولهذا أوجست منه خيفة وظنَّت أنَّه إنَّما أراد بها سوءً، فاستعاذت بالله تعالى منه، وإنَّما قالت: ﴿إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾(3) لأنَّ تقوى الله تعالى والمحاذرة من غضبه هو ما يردع الإنسان ويحجزه عن مقارفة المعصية.

 

فالسيدةُ مريم (ع) لم تكن تعلم أنَّه تقيٌّ أو ليس بتقيٍّ ولكنَّه لو كان تقيَّاً واقعاً فإنَّ تذكيره بتقواه سوف يحجزُه عن مقارفة الذنب، لأنَّ التقي وإنْ كان قد تجمحُ به رغبتُه فتُوقعه في الذنب إلا أنَّه إذا ذُكِّر بتقواه أحجم وتراجع، ولذلك رُوي عن عليٍّ أمير المؤمنين (ع) انَّه قال: "علِمتْ أنَّ التقيَّ ينهاهُ التُقى عن المعصية"(4).

 

وإنْ لم يكن تقياً فإنَّ تذكيره بالتقوى هو السبيل المُتاح لها للردع، فقد تُدركه بهذا التذكير خشيةٌ من الله تعالى فيرتدع عمَّا أراد اقترافه، فقولُ مريم (ع): ﴿إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ وعظٌ وتذكير بما يجب أنْ يكون عليه الإنسان العاقل من الاتِّصاف بالتقوى لله جلَّ وعلا، فمَساق قولها: ﴿إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ أشبه شيءٍ بقول الضعيف للقوي الذي يهمُّ بقتله: إنْ كنت انساناً فلا تقتلني، أو قول المرأة له: "إنْ كنتَ شهماً فلا تضربني" وذلك لأنَّ الإنسانيَّة تقتضي الرحمة، والشهامة تقتضي عدم ضرب المرأة، فقول الضعيف: إنْ كنتَ انساناً تذكيرٌ بما ينبغي أن يكون عليه القويُّ من الاتَّصاف بالإنسانيَّة المساوقة للرحمة، وقول المرأة: إنْ كنتَ شهماً تذكيرٌ بما ينبغي أن يكون عليه الرجل من الاتَّصاف بالشهامة المُفضية لعدم التعدِّي على المرأة.

 

وكذلك فإنَّ قول مريم (ع): ﴿إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ تذكيرٌ بما يجب ان يكون عليه الإنسان من التقوى المُفضية للاِرتداع عن مقارفة الذنب والتعرُّض لسخط الله تعالى وعذابه، فيكون التذكير بالتقوى تذكيراً بسخط الله وعذابه والذي من المُنتظَر أنْ يكون رادعاً عن التعدِّي.

 

والمتحصَّل: إنَّ قول مريم (ع): ﴿إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ معناه إنْ كنت تقياً واقعاً فلتردعك تقواك عن مساورة الذنب، وإنْ لم يكن المخاطَب تقياً كانت ثمرة التذكير بالتقوى هي التذكير بسخط الله تعالى المُقتضي -عند من في قلبه بقيَّة حياة- لإحداث التقوى في النفس بما يُفضي للاِرتداع من الذنب.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة مريم / 18.

2- سورة مريم / 17.

3- سورة مريم / 18.

4- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج6 / ص411.