القرآنُ أوجبَ مسحَ القدمين وليس غسلهما

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

الآية السادسة من سورة المائدة .. ماهو الدليل فيها على وجوب مسح الرجلين علماً بأنَّ الحركات الإعرابية تدلُّ على الغسل؟

 

الجواب:

الآية من سورة المائدة هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ﴾(1).

 

وفي قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ قراءتان مشهورتان:

القراءة الأولى: بفتح اللام في: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ قرأ بها نافع، وابن عامر، ويعقوب، والكسائي، وحفص، والأعشى عن أبي بكر عن عاصم.

والقراءة الثانية: بخفض اللام في: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ قرأ بها الباقون وفيهم ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وغيرهم(2).

 

وعلى كلا القراءتين يتعيَّن ظهورها في وجوب المسح على الرجلين وليس الغسل، أمَّا بناءً على الخفض فواضح، إذ انَّ ﴿أَرْجُلَكُمْ﴾ عُطفت على الاسم المجرور ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾ وحيثُ إنَّ الرؤوس في الآية مأمورٌ بمسحِها فكذلك المعطوف على الرؤوس وهي الأرجل، لأنَّ المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه، فيكون محصَّلُ الآية المباركة هو الأمر بمسح الرؤوس والأرجل.

 

وأمَّا بناءً على نصب الأرجل كما هو المرسوم في المصاحف الشريفة المتداولة فعلاً فكذلك تكون الآية ظاهرة في وجوب المسح على الأرجل، لأنَّ الأرجل معطوفة على محلِّ الرؤوس، إذ أنَّ كلمة ﴿رُؤُوسَكُمْ﴾ وإنْ كانت مجرورة بسبب دخول حرف الجرِّ عليها ولكنَّها في محلِّ نصبٍ على المفعولية أي أنَّها في محلِّ مفعولٍ به لفعل الأمر ﴿امْسَحُواْ﴾ وإنَّما تمَّ خفضها بسبب دخول حرف الجرِّ (الباء) عليها وإلا فهي في محل نصب، وحيث إنَّ ﴿رُؤُوسَكُمْ﴾ مأمورٌ بمسحِها فكذلك تكون ﴿أَرْجُلَكُمْ﴾ المعطوفة محلاًّ على رؤوسكم مأموراً بمسحها، لأنَّ المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه.

 

والعطف على المحلِّ دون اللفظ في كلام العرب أكثر من أن يُحصى، فيقال مثلاً "مررتُ بزيدٍ وخالداً" فخالدٌ معطوف على زيد ولكنَّه نُصب على محلِّ المعطوف عليه وهو زيد، وذلك لأنَّ زيداً في المثال وإنْ كان مجروراً لفظا ولكنَّه منصوبٌ محلاًّ لأنَّه في محلِّ مفعولٍ به للفعل "مررت".

 

وكذلك قول الشاعر العربي:

معاويُ إنَّنا بشرٌ فأسجحْ ** فلسنا بالجبالِ ولا الحديدا

 

فالحديد معطوف على الجبال ورغم ذلك تمَّ فتح آخره، لأنَّه عُطف على محلِّ كلمة الجبال، وحيث إنَّ كلمة الجبال في محلِّ نصب لكونه خبر ليس -وإنما تمَّ خفضه بسبب دخول حرف الجرِّ عليه- لذلك صار المعطوف وهو كلمة الحديد منصوباً.

 

ومن ذلك يتَّضح أنِّ الآية دالةٌ على وجوب مسح الأرجل حتى بناءً على فتح اللام في كلمة ﴿أَرْجُلَكُمْ﴾ لأنَّ مفاد الآية هو امسحوا رؤوسكم وأرجلكم أي وامسحوا أرجلكم.

 

وأمَّا القائلون بدلالة الآية على وجوب غسل الأرجل فزعموا أنَّ الأرجل معطوفةٌ على كلمة ﴿أَيْدِيَكُمْ﴾ وحيث إنَّ الآية أمرت بغسل الأيدي فكذلك يكون المعطوف عليها وهي الأرجل.

 

إلا أنَّ هذه الدعوى غير تامَّة، لأنَّها تستلزم حمل القرآن على غير الفصيح من الكلام، إذ أنَّ هذا الإعراب يستلزم فصل المعطوف عن المعطوف عليه بجملةٍ تامَّة وأجنبية وهي قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ وذلك مخالفٌ لمقتضى الفصاحة في الكلام الذي يتنزَّه عنه القرآن، إذ أنَّ مقتضى الفصاحة هو عدم فصل المعطوف عن المعطوف عليه بل إنَّ مثل ذلك مستهجَنٌ لاستلزامه الإيهام، لأنَّ مؤدَّى الآية بناءً على هذه الدعوى هو اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا رؤوسكم واغسلوا أرجلكم أيضا، وكان الأنسب لو كان الواجب هو غسل الأرجل أنْ تكون الآية: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤوسكم لا أنْ يتوسَّط الأمر بالمسح بين الأمر بغسل الأيدي وغسل الأرجل.

 

وعلى خلاف ذلك البناء على أنَّ الأرجل معطوفة على الرؤوس فإنَّه لا فصل بين المعطوف والمعطوف عليه، فالمعطوف هو أرجلكم والمعطوف عليه هو رؤوسكم وكلٌّ منهما معمولٌ لفعل الأمر امسحوا.

 

وهذا هو المستظهَر والمتبادر من الآية لكلِّ من نظر إليها متجرِّداً عن التعصُّب المذهبي، فإنَّ أحداً لا يفهم من مساق الآية سوى أنَّ القرآن يأمر بغسل الوجوه والأيدي ومسح الرؤوس والأرجل، فهو قد بدأ بقوله: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ﴾ ثم قال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ﴾.

 

على أنَّ المسح على الرجلين في الوضوء هو الثابت عن رسول الله (ص) من طريق أهل البيت (ع)، فمن ذلك ما رواه الكُليني في الكافي بسندٍ صحيح عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (ع): ألَا تُخْبِرُنِي مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ وقُلْتَ إِنَّ الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ وبَعْضِ الرِّجْلَيْنِ فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ: يَا زُرَارَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص) ونَزَلَ بِه الْكِتَابُ مِنَ اللَّه، لأَنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَجْه كُلَّه يَنْبَغِي أَنْ يُغْسَلَ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ ثُمَّ فَصَّلَ بَيْنَ الْكَلَامِ فَقَالَ: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ فَعَرَفْنَا حِينَ قَالَ: ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ أَنَّ الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ لِمَكَانِ الْبَاءِ ثُمَّ وَصَلَ الرِّجْلَيْنِ بِالرَّأْسِ كَمَا وَصَلَ الْيَدَيْنِ بِالْوَجْه فَقَالَ: ﴿وأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ﴾ فَعَرَفْنَا حِينَ وَصَلَهَا بِالرَّأْسِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى بَعْضِهَا ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّه (ص) لِلنَّاسِ فَضَيَّعُوه"(3).

 

ومنها: ما رواه الكليني أيضاً في الكافي بسندٍ صحيح حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) ألَا أَحْكِي لَكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّه (ص) فَقُلْنَا بَلَى فَدَعَا بِقَعْبٍ فِيه شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ وَضَعَه بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْه ثُمَّ غَمَسَ فِيه كَفَّه الْيُمْنَى ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْكَفُّ طَاهِرَةً ثُمَّ غَرَفَ فَمَلأَهَا مَاءً فَوَضَعَهَا عَلَى جَبِينِه ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّه وسَدَلَه عَلَى أَطْرَافِ لِحْيَتِه ثُمَّ أَمَرَّ يَدَه عَلَى وَجْهِه وظَاهِرِ جَبِينِه مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَمَسَ يَدَه الْيُسْرَى فَغَرَفَ بِهَا مِلأَهَا ثُمَّ وَضَعَه عَلَى مِرْفَقِه الْيُمْنَى وأَمَرَّ كَفَّه عَلَى سَاعِدِه حَتَّى جَرَى الْمَاءُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِه ثُمَّ غَرَفَ بِيَمِينِه مِلأَهَا فَوَضَعَه عَلَى مِرْفَقِه الْيُسْرَى وأَمَرَّ كَفَّه عَلَى سَاعِدِه حَتَّى جَرَى الْمَاءُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِه، ومَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِه وظَهْرَ قَدَمَيْه بِبِلَّةِ يَسَارِه وبَقِيَّةِ بِلَّةِ يُمْنَاه"(4).

 

ومنها: قَالَ: وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): إِنَّ اللَّه وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ فَقَدْ يُجْزِئُكَ مِنَ الْوُضُوءِ ثَلَاثُ غُرَفَاتٍ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْه واثْنَتَانِ لِلذِّرَاعَيْنِ وتَمْسَحُ بِبِلَّةِ يُمْنَاكَ نَاصِيَتَكَ ومَا بَقِيَ مِنْ بِلَّةِ يَمِينِكَ ظَهْرَ قَدَمِكَ الْيُمْنَى وتَمْسَحُ بِبِلَّةِ يَسَارِكَ ظَهْرَ قَدَمِكَ الْيُسْرَى قَالَ زُرَارَةُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): سَأَلَ رَجُلٌ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّه ص فَحَكَى لَه مِثْلَ ذَلِكَ"(5).

 

ومنها: ما رواه الكليني في الكافي أيضاً بسندٍ صحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ زُرَارَةَ وبُكَيْرٍ أَنَّهُمَا سَأَلَا أَبَا جَعْفَرٍ (ع): عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّه (ص) فَدَعَا بِطَسْتٍ أَوْ تَوْرٍ فِيه مَاءٌ فَغَمَسَ يَدَه الْيُمْنَى فَغَرَفَ بِهَا غُرْفَةً فَصَبَّهَا عَلَى وَجْهِه فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَه ثُمَّ غَمَسَ كَفَّه الْيُسْرَى فَغَرَفَ بِهَا غُرْفَةً فَأَفْرَغَ عَلَى ذِرَاعِه الْيُمْنَى فَغَسَلَ بِهَا ذِرَاعَه مِنَ الْمِرْفَقِ إلى الْكَفِّ لَا يَرُدُّهَا إلى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ غَمَسَ كَفَّه الْيُمْنَى فَأَفْرَغَ بِهَا عَلَى ذِرَاعِه الْيُسْرَى مِنَ الْمِرْفَقِ وصَنَعَ بِهَا مِثْلَ مَا صَنَعَ بِالْيُمْنَى، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَه وقَدَمَيْه بِبَلَلِ كَفِّه لَمْ يُحْدِثْ لَهُمَا مَاءً جَدِيداً، ثُمَّ قَالَ: ولَا يُدْخِلُ أَصَابِعَه تَحْتَ الشِّرَاكِ قَالَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ﴾ فَلَيْسَ لَه أَنْ يَدَعَ شَيْئاً مِنْ وَجْهِه إِلَّا غَسَلَه وأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ إلى الْمِرْفَقَيْنِ، فَلَيْسَ لَه أَنْ يَدَعَ شَيْئاً مِنْ يَدَيْه إلى الْمِرْفَقَيْنِ إِلَّا غَسَلَه لأَنَّ اللَّه يَقُولُ: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرافِقِ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ﴾ فَإِذَا مَسَحَ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْسِه أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ قَدَمَيْه مَا بَيْنَ الْكَعْبَيْنِ إلى أَطْرَافِ الأَصَابِعِ فَقَدْ أَجْزَأَه .."(6).

 

والروايات في ذلك من طرق أهل البيت (ع) كثيرة جداً.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المائدة / 6.

2- مجمع البيان للطبرسي ج3 / ص281، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج6 / ص91، تفسير السمعاني ج2 / ص16.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص30.

4- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص25.

5- الكافي -الشيخ الكلين- ج3 / ص25.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص26.