لماذا أبصرَ السامريُّ مالم يُبصرْه غيرُه؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

في قصة السامري لماذا كان السامري هو الوحيد الذي رأى الرسول؟

 

ولماذا قام النبيُّ موسى (عليه السلام) بمعاقبة أخيه ولم يُعاقب السامريَّ أو يقتله على فعله عندما قام بصناعة العجل من الذهب؟

 

الجواب:

ليس في القرآن الكريم ما يدلُّ دلالةً بيِّنة على أنَّ السامريَّ هو وحدَه الذي رأى الرسول (جبرئيل) فالمذكور في القرآن هو أنَّ موسى (ع) حينما سأل السامريَّ موبِّخاً له: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾(1) أجابه متذرِّعاً ومبرِّراً لما فعله من تضليل بني إسرائيل: ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُول﴾(2) فهو مَن يدَّعي أنَّه أبصر ما لم يُبصره غيرُه، فلعلَّه كان كاذباً أو لعلَّه كان واهماً مُعتقِداً -خلاف الواقع- أنَّ غيره لم يُبصِر ما أبصره هو، والقرآن لم يُثبِت دعواه أنَّ غيرَه لم يُبصر ما كان قد أبصرَه كما أنَّه لم ينفِ ذلك بل سكت عنه، وعليه فلا طريقَ للتثبُّت من صدقِ دعوى السامريِّ أنَّ غيره لم يُبصر ما أبصره هو.

 

هذا لو كان المراد من الإبصار هو الرؤية بجارحة العين، وأمَّا لو كان الإبصار بمعنى البصيرة والمعرفة والتفطُّن فإنَّ مفاد قوله حينئذٍ: "بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ" أنَّه تفطَّن لِما لم يتفطَّنوا له، أي علِمَ أنَّ لأَثر أقدام الرسول أو أثر أقدام ما يركبُه خاصِّية خارقة للعادة، لذلك قبض قبضةً من أثر أقدامه ليتوسَّل بها إلى تضليل بني إسرائيل، فغايته كانت هي التضليل كما يُشعر به قوله بعد ذلك: ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾(4).

 

فبناءً على الاحتمال الثاني لا يكون في قوله: ﴿بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ نفيٌ لرؤية غيرِه للرسول (جبرئيل)، غايته أنَّه اختصَّ -بحسب زعمِه أو وهمِه- عن سائر بني إسرائيل أنَّه تفطَّن إلى إمكانيَّة الاستفادة من آثار قدمي الرسول لغرض التضليل أو التميُّز عن سائر الناس، لذلك بادرَ إلى أخذ قبضةٍ من أثر الرسول والاحتفاظ بها. 

 

وليس في القرآن أيضاً ما يدلُّ على أنَّ دعواه عدم تفطُّن غيره كانت صحيحة، فلعلَّ غيره قد تفطَّن أيضاً إلى ما تفطَّن هو له ولكنَّه لم يفعل ما فعله السامريُّ خشيةَ أنَّ ذلك ليس مرضيَّاً لله تعالى أو لمانعٍ آخر.

 

ثم إنّ الإبصار الذي ادَّعاه السامريُّ سواءً كان بمعنى الرؤية البصرية أو كان بمعنى البصيرة والمعرفة فإنَّه ليس في الآيات ما يدلُّ على أنَّ ما رآه أو تفطَّن له كان له التأثير في صياغة العجل، فهو قد صاغ العجل من الحِلي والذهب أو مع إضافة موادّ أُخرى كما يصوغُ النحَّاتون التماثيل، وأمَّا إلقاؤه القبضة التي قبضها من أثر الرسول، فلم يثبت أنَّها كانت المؤثِّرة في صيرورتِه عجلاً له خوار، فهو إنَّما فعل ذلك بعد صياغة العجل ليُوهِم بني إسرائيل أنَّ خواره كان بسبب القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وهذا واضحٌ من قول بني إسرائيل لموسى اعتذاراً لِما اِجترحوه من عبادتهم للعجل: ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَار﴾(5).

 

فإنَّ الظاهر من الآية المباركة أنَّ السامريَّ ضلَّل بني إسرائيل، وذلك بالإيعاز إليهم أنْ يجمعوا الحِليِّ الذي غنِموه من قوم فرعون ليصوغَ لهم منه العجل فيكون مَظهَراً للإله -بحسب زعمِه- حيثُ إنَّه سوف يمزجُ ذلك الحِلي بما قبَضه من أثر الرسول، وهكذا ألقى السامريُّ ما قبضه من أثر الرسول فأخرج لهم العجل فكان جسداً له خوار، فكان خواره مبعثاً لإذعانهم وتصديقِهم أنَّه الإله أو هو المظهَر للإله، لذلك قالوا: "مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا".

 

فدعوى أنَّ الخوار كان مِن أثر القبضة التي قبضها السامريُّ من أثر الرسول كانت من تضليل السامريِّ ولم يثبت من القرآن أنَّها كانت واقعاً هي المؤثِّرة في صدور الخوار من العجل، والذي يؤكِّد أنَّ السامريَّ كان قاصداَ للتضليل من قذف القبضة في جسد العجل قوله: ﴿فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ فكان مُدرِكاً لكونه كاذباً مضلِّلاً كما يقتضيه إقراره بأنَّ نفسه قد سوَّلت له ذلك.

 

سبب صدور الخوار من عجل السامري:

وأمَّا ماهو سبب الخوار الذي كان يصدرُ من العجل إذا لم يكن من أثر القبضة فجوابُه أنَّ سبب ذلك هوالكيفيَّة التي صِيغ على هيئتها جسدُ العجل، وذلك ليس عزيزاً على المهَرة من الصنَّاع كما هو مُشاهدٌ في العصر الحاضر.

 

أو كان منشأ صدور الصوت هي حيلةٌ احتالها السامريُّ فأوهمَ السوقة من بني إسرائيل أنَّ صوت الخوار كان يصدر من العجل، أو لعلَّ الصوت الذي كان يخرج من جسد العجل كان من فعل إبليس أو بعض جنوده كما كانوا يفعلون ذلك مع عرب الجاهليَّة، فقد كانوا يُصدِرونَ أصواتا بجانب أصنامهم فيتوهَّم المشركون أنَّها صادرةٌ من الأصنام.

 

وعلى أيِّ تقدير فلم يثبتْ أنَّ الخُوار الذي كان يصدر من العجل ظاهراً كان من أثر القبضة التي قبَضها السامريُّ من أثر الرسول، فليس من الثابت أنَّ أثر الرسول كانت له خاصيَّة خارقة للعادة كما توهَّم السامريُّ أو كما أراد انْ يُوهِم بذلك بني إسرائيل، فإنَّ المعجزة إنَّما تكون لهداية البشر لا لإضلالهم، فحتى عصى موسى (ع) لو كانت بيد السامري أو غيره من أهل الضلال فإنَّها لا تصير بيده حيةً تسعى، ولا تفلقُ بحراً، ولا ينبع من ضربِها الماء.

 

ويُؤكِّد ما ذكرناه من أنَّ الخوار لم يكن لخاصيَّةٍ اعجازية ما أفاده القرآن من أنَّ العجل لم يكن سوى تمثالٍ مصوغٍ من الذهب، فلم تكن له حياة قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ﴾(6) فهو مصوغٌ من الحِلي كما أفادت الآية، ولم يكن سوى جسد، والجسد إنَّما يُطلق في اللغة والعرف في مقابل الروح، فهو لم يكن عجلاً حقيقةً، وإنَّما كان على صورة عجل، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا﴾(7) أي عجلاً صفتُه ونعتُه أنَّه جسد، وكذلك فإنَّ إعراب "جسداً" في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا﴾ بدل من كلمة "عِجْلاً" ومعنى ذلك أنَّ العجل الذي اتَّخذوه من حليِّهم كان جسداً ولم يكن عجلاً حقيقة.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ رؤية السامريِّ للرسول ليس شيئاً ذا بال لو فُرض تحقُّقه، ولم يثبت أنَّه وحده الذي رآه، وأنَّ ما اعتقده من التفطُّن إلى أنَّ لأثرِ الرسول خاصيَّةً خارقة للعادة لم يكن سوى وهمٍ توهَّمه، فإنَّ أثر الرسول لو كانت له خاصيَّة اعجازية فإنَّها لا تظهرُ إلا على يد من انتجبه اللهُ واصطفاه، وأمَّا الخُوار الذي كان يصدرُ من العجل فلم يكن سوى صوتٍ نشأ إمَّا عن الكيفية التي صِيغ على هيئتها العجل أو عن حيلةٍ احتالها السامريُّ أو كانت من فعل الشيطان وجنودِه، فلم تكن القبضةُ التي قبضها السامريُّ من أثر الرسول هي المؤثِّرة في صيرورة العجل ذا خُوارٍ، وإنَّما كانت هذه الدعوى من تضليل السامريِّ حيث ألقى القبضة في سبك الذهب الذي صاغ منه العجل وادَّعى -اعتقاداً أو إيهاماً كما هو الأرجح- أنَّ خواره كان من تأثير القبضة.

 

عقوبةُ السامري:

ثم إنَّ موسى (ع) قد عاقب السامريَّ -بعد أنْ أحرق عجلَه ونسَفَ رمادَه وبقاياه في البحر- وكانت العقوبةُ هي عزلُه ونفيه عن مجتمعه والأمر بقطيعته وهجرانه، وتلك أشدُّ وقعاً على قلبِه من قتله، ذلك لأنَّه كما يظهر من سلوكِه أنَّه كان يطمحُ في التميُّز والوجاهة بين بني أسرائيل فإذا به يجدُ نفسه منبوذاً مستحقَراً بينهم.

 

ويظهرُ من قولِه تعالى: ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ﴾(8) أنَّ عُزلة السامري كانت شاملة بحيث لا يقربه من أحد، فهو محرومٌ من تمام صور الاقتراب منه والمخالطة له، فلا يُؤاكَل ولا يُباع ولا يُزوَّج ولا يُكلَّم ولا يأويه من أحد في دارٍ أو ظلال.

 

وقد ورد في بعض المأثورات وكذلك استظهر بعضُ المفسِّرين من قول موسى (ع): ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ﴾ أنَّه كان ذلك دعاءً منه على السامريِّ، فكان أثرُه انَّه ابتُلي بداءٍ غريب حيث كان إذا مسَّه أحدٌ ازداد هو وجعاً من مسِّه ويُصابُ مَن مسَّه في ذات الوقت بحمَّى شديدة، لذلك كان يفرُّ من الناس ويفرُّ الناس منه. وقيل إنَّه ابتُلي بمرضٍ نفسي فكان يستوحشُ من الناس وينفرُ منهم، فما أنْ يلمحَ من أحدٍ حتى يفرَّ منه بعيداً، ولهذا هام على وجهه في البراري والقفار كما يتَّفق ذلك لبعض أصنافِ ذوي الجنون.

 

فهذه العقوبة أيَّاً كانت ممَّا ذكرناه هي أشدُّ وقعا وأقسى على قلبِ السامريِّ من القتل،على أنَّ من المحتمل قويَّاً أنَّ موسى (ع) علِم من طبيعة أتباع السامريِّ أنَّه لو كان قد قتله لتحوَّل عندهم إلى رمزٍ مقدَّس كما يُستشعر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾(9) لذلك كان بقاؤه منبوذا أو معتوهاً يهيمُ في القفار أوقع في إزالة الشبهة التي علقتْ في أذهانِهم من قتله.

 

وأمَّا ما فعله موسى (ع) مع أخيه هارون (ع) فلم يكن عقوبةً، إذ لم يكن هارون مستحقَّاً للعقوبة، نعم ما فعلَه موسى (ع) كان انسياقاً مع الغضب الذي انتابه ممَّا اجترحه بنو أسرائيل لذلك ألقى ألواح التوراة، فكان كلُّ ذلك مخالفاً لما هو الأولى ولم يكن معصية، وعذرُه فيما فعل أنَّ الأمر الذي شاهده كان عظيماً شديداً على قلبه، فنفَّس عن ذلك بتلويم أحبِّ الناس إليه وأقربِهم إلى قلبه كما يفعل المحبّون إذا انتابهم خطبٌ جليل لذلك حين هدأ الغضبُ عن موسى ناجى ربَّه بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾(10).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة طه / 95.

2- سورة طه / 96.

4- سورة طه / 96.

5- سورة طه / 87.

6- سورة الأعراف / 148.

7- سورة طه / 88.

8- سورة طه / 97.

9- سورة البقرة / 93.

10- سورة الأعراف / 151.