﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ .. لماذا وهو لم يفعل؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

المعروف أنَّ النبيَّ ابراهيم (ع) هو من كسَّر الأصنام إلا أنَّه حين سُئل عن ذلك أجاب قائلاً: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ فهل كذبَ ابراهيمُ (ع) لينجوَ من الهلاك؟ وهل يخافُ الأنبياء في اللهِ لومةَ لائم؟!

 

الجواب:

ليس في جواب إبراهيم (ع) لقومه ما هو كذب، لأنَّه علَّق الإخبار عن نسبة تكسير الأصنام إلى كبيرهم على نطقِهم، وهذا معناه أنَّ كبيرهم ليس هو من حطَّمهم إذا لم ينطقوا، فهو لايدَّعي انَّ كبيرَهم قام بتحطيمهم.

 

فمساق جواب إبراهيم (ع) هو مساقُ إخبارنا عن التارك للصلاة: إنَّ زيداً هذا يُصلِّي لو كان إبليسُ يُصلِّي، فلأنَّ المخَاطَب يعلم أنَّ إبليس يستحيلُ في حقِّه أنْ يُصلِّى لذلك لا يكون إخبارنا بأنَّ زيداً يُصلِّي كذباً، رغم أنَّه لا يصلِّي واقعاً، ومنشأ عدم صحَّة وصف هذا الخبر بالكذب هو أنَّه عُلّق على أمرٍ معلوم الانتفاء.

 

وكذلك لو قال البريىء المتَّهم بالقتل: إنَّه قتل زيداً لو كان الذئب أكلَ يوسف، فإنَّ إخباره عن وقوع القتل منه لا يُعدُّ كذباً ولا إقراراً بالقتل لانَّه علَّق إخباره بإرتكاب القتل على أمرٍ معلوم الانتفاء وعدم الوقوع، وهو أكلُ الذئبِ ليُوسف (ع).

 

وكذلك لو قال نبيٌ من الأنبياء: إنَّه كافر بالله تعالى لوكان لله تعالى ولد، فإنَّ إخباره بأنَّه كافر لايكون كذباً لانَّه عُلِّق على أمرٍ مستحيل التحقُّق.

 

والمتحصَّل: إنَّ قول نبيِّ الله إبراهيم (ع): ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾(1) صِيغ على نهج القضية الشرطيَّة، ومِن الواضح أنَّ القضايا الشرطية يكون فيها الجزاء معلَّقاً وموقوفاً على تحقُّق الشرط، ومعنى ذلك أنَّه متى ما كان الشرط منتفياً فإنَّ الجزاء يكون مثلُه منتفياً.

 

والشرط في الآية المباركة هو نطق الأصنام، والجزاءُ هو الإخبار عن كبيرهم انَّه مَن قام بتحطيمهم، وحيث إنَّ الشرط وهو نطق الاصنام منتفٍ ومستحيل التحقُّق لذلك فإبراهيم(ع) لايدَّعي أنَّ كبير الأصنام هو مَن حطَّمهم.

 

وبتعبير آخر: إنَّ إخبار إبراهيم(ع) عن تكسير كبير الأصنام للاصنام لم يكن إخباراً فعلياً وإنَّما كان إخباراً معلَّقاً، وهذا يقتضي أنَّه لا يدَّعي تحقُّق مضمون خبره إذا لم يكن المُعلَّق عليه متحقِّقاً، وحيث إنّ المعلَّق عليه وهو إمكانيَّة نطق الأصنام ممتنع التحقُّق لذلك فهو لا يدَّعي وقوع مضمون خبره حتى يكون خبرُه كاذباً.

 

وهذا الذي ذكرناه هو معنى ما رُوي عن الإمام الصادق (ع) حين سُئل عن قول الله عزَّ وجلَّ في قضيَّة إبراهيم (ع): ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ قال: ما فعلَه كبيرُهم، وما كذبَ إبراهيم (ع)، قيل وكيف ذاك؟ فقال: إنَّما قال إبراهيم (ع) ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ فإنْ نطقوا فكبيرُهم فعل، وإنْ لم ينطقوا فكبيرُهم لم يفعل شيئاً، فما نطقوا و ما كذَبَ إبراهيمُ (ع)"(2).

 

ففي الآية تقديمٌ وتأخير ومؤدَّاها هو فاسئلوهم: إنْ كانو ينطقون فقد فعلَه كبيرهم.

 

وأمَّا لماذا خاطب إبراهيمُ قومَه بهذه الكيفيَّة ولم يعترف لهم بأنَّه مَن كسَّر الاصنام إبتداءً فذلك لغرض تحفيز عقولِهم على التنبُّه إلى أنَّهم يعبدون مالا ينطق وهو ما يُنافي التعقُّل، ولذلك حينما خاطبهم بهذا الخطاب فهموا غرضَه وما يرمي إليه ولم يفهموا من كلامه الإنكار قال تعالى: ﴿فَرَجَعُوا إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ / ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ﴾(3).

 

فهو إذن لم يكن بجوابه الذي ردَّ به عليهم خائفاً من الإقرار بتكسيرِ الاصنام، لانَّهم كانوا يعلمون بأنَّه هو مَن كسَّر الأصنام، وكان قد هدَّدهم صريحاً بأنَّه سوف يُحطِّم أصنامهم كما قال الله تعالى مُخبِراً عنه: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾(4).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأنبياء / 63.

2- الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج2 / ص104.

3- سورة الأنبياء / 64-65.

4- سورة الأنبياء / 57.