معنى: (إنَّما الحرام ما حرَّمه الله في القرآن)

المسألة:

هل العبارة الواردة في مجموعة من الروايات "إنَّما الحرام ما حرَّم اللهُ في كتابه أو في القرآن" محمولة على التقية؟ وذلك لأنَّ هذا المضمون لا يتناسبُ مع كون أهل البيت (ع) مصدراً لمعرفة الحكم الشرعي -ولا أقول التشريع- وذلك لأنَّه من الواضح أنَّ أكثر الأحكام التحريميَّة وغيرها، مأخوذةٌ عن أهل البيت (ع)، فهذه العبارة أشبهُ بمقولة: حسبُنا كتابُ الله فتكون قرينة على التقية؟

 

الجواب:

إنَّ ممَّا لا ريب فيه عند عموم المسلمين انَّ المحرَّمات -وكذا سائر الاحكام- لا تنحصرُ فيما أوردَه القرآنُ الكريم بل إنَّ أكثرها تمَّ التعرُّف عليها عن طريق النبيِّ الكريم (ص) وأهلِ البيت (ع) وهم قد تلقَّوه عن النبيِّ (ص).

 

ولذلك لابدَّ من صرف روايات "إنَّما الحرام ما حرَّمه الله في القرآن" عن ظهورها الاولي أو ردِّ علمِها إلى أهلها نظراً لمنافاة ظهورِها الاولي لما هو المقطوع بمنافاتِه للواقع الخارجيِّ، فانَّ الكثير من المحرَّمات عُرفتْ عن طريق النبيِّ (ص) بنحو التواتر الاجماليِّ ولم يكن القرآنُ قد تصدَّى لبيانَّ حرمتها.

 

والظاهرُ انَّه لا يصحُّ حمل شيءٍ منها على التقية، إذ لا يلتزمُ أحدٌ من المسلمين بانَّحصار المحرَّمات فيما حرَّمه الله عزَّوجل في كتابه، هذا مضافاً إلى انَّ بعض الروايات التى اشتملت على فقرة "انَّ الحرام ماحرَّمه الله في القرآن" وقعت في سياق بيانَّ حكم منافٍ لما عليه العامَّة، وهى معتبرة زرارة ومحمَّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) أنَّهما سألاه عن أكل لحم الحمر الاهليه فقال: "نهى رسولُ الله (ص) عن أكلِها يوم خيبر وإنَّما نهى عن أكلِها في ذلك الوقت لأنَّها كانَّت حمولةً للناس وإنَّما الحرام ما حرَّمه اللهُ في القرآن"(1)، فهذه الرواية لايصحُّ حملُها على التقية وذلك لانَّ ما عليه العامَّة هو حرمة الحُمُر الأهليَّة ومفاد الرواية هو حلِّيتها.

 

وعليه فهنا احتمالان لما هو المراد من الفقرة المذكورة:

الاحتمال الاول: انَّ مراد الائمة (ع) من قولهم: "إنَّما الحرام ما حرَّمه الله في كتابه" "أو في القرآن" هو انَّ كلَّ شيءٍ أدُّعيت حرمتُه فكان مورداً للخلاف بين المسلمين فالمرجعُ فيه هو كتابُ الله تعالى، فانْ كان كتابُ الله قد حرَّمه فهو حرام وإلا فلا يصحُّ البناء على حرمتِه، فالحرامُ في موارد عدم التثبُّت من الحرمة هو خصوص ما حرَّمه اللهُ تعالى في كتابه، فالحصر هنا بالاضافة إلى الشيء الذي لم يُتثبَّت من حرمته.

 

وهذا الاحتمال يتناسب مع معتبرة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفرٍ (ع)، فالعامَّة كانت تدَّعى حرمة الحمُر الاهليَّة والإمام (ع) أفاد انَّه لم تثبت الحرمة عن النبيِّ (ص) وأمَّا نهيُه عنها في خيبر فكان لمصلحةٍ وقتية وحيثُ انَّ العامَّة يدَّعون غير ذلك فالمرجعُ في فصل هذا الخلاف هو كتابُ الله، فالحرامُ في كلِّ هذه الموارد هو ما حرَّمه اللهُ في كتابه.

 

الاحتمال الثاني: انَّ مرادَهم (ع) من القول: "إنَّما الحرام هو ما حرَّمه الله في كتابه" هو انَّ الحرام من الأطعمة هو ما وردت حرمتُه في القرآن إمَّا بالتنصيص عليه بعنوانه أو لكونِه داخلاً تحت أحد العمومات كقوله تعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾ أو كان واجداً لأحد مِلاكات الحرمة المُستنبَطة من مفاد الأيات.

 

فالحصرُ الذي اشتملت عليه فقرة: "إنَّما الحرام ما حرَّمه الله في كتابه" ليس مطلقاً وإنَّما هو بالاضافة إلى خصوص الأطعمة وذلك بقرينة انَّ هذه الفقرة لم تردْ إلا في سياق السُؤال عن حكم بعض الأطعمة.

 

وأمَّا القول إنَّ بعض الأطعمة التى ثبتت لها الحرمة لايحُرز دخولُها تحت أحد العمومات الواردة في القرآن فجوابُه انَّه لو صحَّ هذا الاحتمال لكان هذا الاشكال غير واردٍ نظراً لاحتمال إرادة دخولها واقعاً تحت أحد العمومات، غايته انَّ إدراك ذلك لايتيَّسر لغير النبيِّ (ص) واهلِ بيته (ع) فوحدُهم مَن يعلم بتمام المرادات الواقعيَّة للقرآن وأما غيرُهم فحظُّهم من فهم مرادات الكتاب الواقعيَّة هو بعضها، فقد ينشأُ الجهل عند غيرهم من عدم وضوح سعة المفهوم الذي جُعلت علية الحرمة، وقد ينشأ من عدم القدرة على استنباط المِلاكات الواقعيَّة للحرمة من الآيات، وقد ينشأُ عن الجهل بواقع المصداق الذي يقع البحث في دخولِه وعدم دخولِه تحت أحد العمومات، فلو اتَّفق لهم العلم بما عليه هذا المورد لأحرزوا دخوله تحت أحد العمومات.

 

وهذه المناشئ للجهل منتفيةٌ عند النبيِّ (ص) وأهلِ بيته (ع) لذلك لا مانع من الالتزام بأنَّ جميع المحرَّمات من الأطعمة قد أورده اللهُ عزَّوجل في كتابه، غايتُه انَّ بعضَها يمكن استظهارُه للعارفين بضوابط الاستنباط العقلائيَّة، وبعضُها لا يُتاح التعرُّف عليها إلا بواسطة النبيِّ (ص) وأهلِ بيتِه (ع) نظراً لكونِهم العارفين بتمام مُرادات الكتابِ المجيد.

 

وهنا احتمالٌ ثالث: وهو انَّ الحصر ليس إضافياً من جهة الأطعمة فالمُراد من الحرام هو مُطلق الحرام من الأطعمة وغيرها، ويترجَّح هذا الاحتمال على الثانَّي من جهة انَّ الأصل عند استعمال أحد أدوات الحصر هو إرادة الحصر المُطلق وأنَّ إرادة الحصر الاضافي يفتقر للقرينة، فإذا لم تكن القرينة المذكورة في الاحتمال الثاني على إرادة الحصر الإضافي تامَّة فلا مانِع من بالإلتزام بالحصر المُطلق وانَّه ليس من مُحرمٍ إلا ما حرَّمه اللهُ تعالى في كتابه.

 

والإشكال من جهة انَّ بعض ما ثبتت له الحرمة في الشريعة لا يُحرز دخولُه تحت أحد العمومات أو لا نجد عليه دليلاً في كتاب الله عزَّوجل يتَّضح جوابه ممَّا تقدَّم في الاحتمال الثاني.

 

وأمَّا الإشكال على الاحتمال الثاني والثالث بدعوى أنَّ فقرة: "إنَّما الحرامُ ما حرَّمه اللهُ في القرآن" وردت في سياق روايات نفت الحرمة عن أشياء ثبتتْ حرمتُها في مذهبنا وهو ما يقتضي حملُها على التقية.

 

فجوابُه انَّه لا مانَّع من حمل النفي لحرمة هذه الاشياء على التقية مع الالتزام بمطابقة هذه الفقرة للواقع، فيكونُ سَوقها ضمن ما يُعلم إيراده تقيةً كان لغرض المداراة وتأكيد نفي الحرمة لنفي التُهمة، فالمتلقِّي من العامَّة لكلام الامام (ع) يفهم منه انَّ الامام (ع) كان بصدد الاستدلال على نفي الحرمة فيطمئن من ذلك انَّ فتوى الامام مطابقة لفتواهم.

 

فمثل معتبرة محمد بن مسلم قال: سألتُ أبا عبدالله (ع) عن الجرِّي والمارماهي والزمير وما ليس له قشر من السمَك أحرامٌ هو؟ فقال لي: "يا محمد اقرأ هذه الأية التى في الإنعام: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾(2) فقرأتُها حتى فرغتُ منها فقال (ع): إنَّما الحرامُ ماحرَّم اللهُ ورسولُه في كتابه ولكنَّهم قد كانوا يعافون أشياء فنحنُ نعافُها"(3).

 

فمثل هذه الرواية وإنْ كان نفيُ الامام (ع) فيها الحرمةَ عن الاشياء المذكورة قد صدر منه تقيةً نظراً لثبوت حرمتِها عنهم إلا انَّ ذلك لا يقتضي أنْ تكون فقرة: "إنَّما الحرام ما حرَّم اللهُ ورسولُه في كتابه" غير مرادةٍ جدَّاً وغير مطابقةٍ للواقع، نعم إيرادها في سياق التأكيد على نفي الحرمة نشأ عن التقية ولكنَّ ذلك لا يقتضي أنْ يكون مضمونُها منافياً للواقع كما هو حال الحرمة في منافاته للواقع.

 

فسَوقُها في مقام نفي الحرمة عن الاشياء المذكورة وإنْ كان قد صدر تقيًةً إلا أنَّ ذلك لا يُلازِم منافاة مضمونِها للواقع كما هو الحال في سَوق الأية المباركة في مقام نفي الحرمة، فهو قد أراد من سوق الآية التأكيد تقيةً على نفي الحرمة وكذلك هو مراده ظاهراً من سَوق الفقرة المذكورة الظاهرة في حصرِ الحرام فيما حرَّمه اللهُ تعالى في كتابِه.

 

والمتحَّصل أنَّه لا مانع من الالتزام بحصر الحرام فيما حرَّمة اللهُ تعالى، في كتابِه إلا أنَّ الوقوف على كلِّ ما حرَّمة اللهُ في الكتاب ليس متيسَّراً لكلِّ أحد.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج6 / ص246.

2- سورة الانعام / 145.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج24 / ص.