﴿نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ﴾ .. هل هو نصف الموت؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

اذا كان الحكم على المحصنات الرجم حتى الموت وليس الحكم القرآني المنصوص عليه في سورة النور وهو الجلد مائة جلدة .. ونرى الحكم على الامَة النصف ممَّا على المحصنة المحمية بالزواج فهل هناك معيار يُقسم الموت إلى نصف الموت فما هو؟!

 

والله من وراء القصد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الجواب:

الآية التي تُشيرون إليها هي قوله تعالى: ﴿.. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾(1) والمراد من المُحصنات في هذه الآية هي الحرائر غير المتزوِّجات في مقابل الفتيات وهنَّ الإماء في الآية، ونصفُ ما على الحرائر غير المتزوجات هو الخمسين جلدة وليس نصف الموت!!

 

والدليل على انَّ المراد من المُحصنات في الآية المباركة هو الحرائر غير المتزوِّجات هو صدر الآية المباركة وسياقها قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2).

 

فمفاد صدر الآية أنَّه مَن لم يكن متمكناً من نكاح المُحصنات فلينكِح الفتيات وهنَّ الإماء، فوصف القرآن في هذه الآية المباركة غير المتزوِّجات من الحرائر بالمُحصنات، إذ لا يمكن أن يكون مرادُه من المُحصنات هو الحرائر المتزوِّجات، لأنِّ الحرائر المتزوِّجات لا يصحُّ نكاحهنَّ والتزوُّج منهن، فالآيةُ كما هي ظاهرةٌ جداً تدعو وتحثُّ على الزواج من المُحصنات دون الفتيات في ظرف القدرة، وهذا يقتضي أنْ يكون المراد من المُحصنات هو الحرائر غير المتزوِّجات.

 

ثم انَّه لابدَّ من الالتفات إلى أنَّ القرآن استعمل مادَّة الإحصان وكلمة المحصنات في معانٍ عديدة، وكلُّ معنىً يُعرف بواسطة القرائن المُكتنفة به، وتبادر معنى المتزوِّجة من كلمة المُحصنة إنَّما نشأ عن الاصطلاح الفقهي وإلا فكلمة المُحصنة استُعملت في القرآن في معانٍ عديدة:

 

منها: قولة تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ..﴾(3) فالإحصان في هذه الآية يعني العفَّة، لوضوح أنَّ السيدة مريم (ع) لم تكن متزوِّجة.

 

ومنها: قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ..﴾(4) فهذه الآية استَعملت المُحصنات من المؤمنات والمُحصنات من أهل الكتاب في غير المتزوِّجات من الحرائر، لأنَّ مَن يحلُّ نكاحُهن والتزوُّج منهنَّ هو خصوص غير المتزوِّجات، والقرينة الأخرى على إرادة غير المتزوِّجات هي قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ومعنى الأجور هو المهور، فالآية تتحدَّث عمَّن يحلُّ نكاحهن، فيتعيَّن أنَّ مراده من المُحصنات هو غير المتزوِّجات. ثم قال تعالى: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ ومعنى الإحصان هو العفَّة عن الزنا، وذلك بقرينة المقابلة مع السفاح والذي هو الزنا كما هو واضح.

 

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ لا يصلح نقضاً على ما هو ثابت من أنَّ حدَّ الزانية المتزوِّجة هو الرجم، وذلك لأنَّ المقصود من ثبوت نصف الحدِّ على الأمة الزانية هو نصف الحدِّ الثابت على الزانية الحرَّة غير المتزوِّجة، وحيثُ إنَّ الحدَّ الثابت على الزانية الحرَّة غير المتزوِّجة هو الجلد مائة جلدة فيكون نصفُ الحدِّ هو الخمسين جلدة، وليس هو نصف الموت.

 

وأمَّا الإشكال بأنَّ القرآن الكريم لم يتعرَّض لحدِّ الرجم فهو اشكال واهٍ، إذ انَّ أكثر تفاصيل الأحكام لم يتصدَّ القرآن لبيانها وإنَّما أوكلَ ذلك للرسول الكريم (ص) فقال جلَّ وعلا: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(5) وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ..﴾(6) وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(7) وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ..﴾(8) فكما يجبُ على المكلَّف التعبُّد والامتثال للتشريعات الواردة في القرآن فكذلك يجبُ عليه التعبُّد والامتثال للتشريعات الصادرة عن الرسول الكريم (ص) لأنَّ مصدر كلِّ من القرآن والسنَّة النبويَّة الشريفة هو الوحي الإلهيُّ كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى / إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(9).

 

وأمَّا أنَّ القرآن أفاد في سورة النور أنَّ حدَّ الزانية هو الجلد مائة جلدة وهو يشمل المتزوِّجة وغير المتزوِّجة فدلالةُ الآية على الشمول إنَّما هو بالإطلاق والعموم القابل للتخصيص، وحيثُ إنَّ السنَّة الشريفة الثابتة أفادت أنَّ حدَّ المتزوِّجة هو الرجم لذلك يكونُ مقتضى الجمع العرفي بين النصِّ القرآنيِّ والنصِّ النبويِّ هو أنَّ حدَّ الزانية هو الجلد إلا أنْ تكون الزانية متزوِّجة يغدو عليها زوجُها ويروح فإنَّ حدَّها الرجم.

 

وتخصيصُ عمومات واطلاقات القرآن بالسنَّة الشريفة ليس عزيزاً، ولا يختلفُ علماء المسلمين قاطبة في وقوعه، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(10) فإنَّ مقتضى إطلاق هذه الآية هو عدم حرمة شيءٍ من الأطعمة غير هذه الأربعة الأصناف المذكورة في الآية والحال أنَّ الثابت بالضرورة أنَّ السنَّة الشريفة قد حرَّمت من اللحوم -مثلاً- غير هذه الطعوم المذكورة مثل لحم الكلب ولحوم السباع، ومعنى ذلك أنَّ مقتضى الجمع بين النصِّ القرآنيِّ والنصِّ النبويِّ أنَّ كلَّ طعامٍ من غير الأصناف المذكورة في الآية فهو غيرُ محرَّم إلا ما ثبتتْ حرمتُه من السنَّة الشريفة مثل لحم الكلب ولحوم السباع، وهذا هو التخصيص والتقييد لعمومات وإطلاقات القرآن والذي مآلُه إلى تفسير القرآن بالسنَّة الشريفة، فحينما يردُ عمومٌ قرآنيُّ فإنَّ هذا العموم قد يكون مُراداً على سعتِه، وقد تكون دائرةُ العموم غيرَ مرادةٍ على سعتِها بل إنَّ المراد أضيق من ذلك، وذلك يُعرَف من معلِّم القرآن وهو الرسولُ الكريم (ص) فهو الذي يعلمُ بمفادات ومُرادات القرآن كما قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(11) وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(12)، فإذا قال معلِّم القرآن (ص) أنَّ حدَّ الزانية المتزوِّجة هو الرجم فإنَّ معنى ذلك هو أنَّ دائرة العموم في قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ..﴾(13) ليست مُرادة على سعتها، وإلا لزم من ذلك أنَّ الرسول (ص) يُخالف القرآن!! لذلك يتعيَّن البناء على أنَّ مُراد الآية هو الزانية غير المتزوِّجة التي يغدو عليها زوجُها ويروح.

 

نعم إذا لم تتصدَّ السنَّة الشريفة في بعض الموارد لإخراج بعض أفراد العموم القرآنيِّ من حكم العموم فإنَّ المتعيَّن هو البناءُ على إرادة العموم القرآنيِّ على سعته.

 

يمكنكم مراجعة مقالنا: حد الرجم ضرورة فقهية

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 25.

2- سورة النساء / 25.

3- سورة التحريم / 12.

4- سورة المائدة / 5.

5- سورة الحشر / 7.

6- سورة الأنفال / 24.

7- سورة المائدة / 92.

8- سورة النساء / 80.

9- سورة النجم / 3-4.

10- سورة الأنعام / 145.

11- سورة البثرة / 151.

12- سورة الجمعة / 2.

13- سورة النور / 2.