المنافاةُ بين العصمة وبين توعُّد النبيِّ (ص) بالمُثلة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في بعض التفاسير أنَّ النبيَّ (ص) لمَّا وقف على مصرع حمزة (ع) ورأى ما فعلتْه قريشٌ به، قال (ص): "لئن ظفرتُ لأُمثِّلـن ولأُمثِّلـن ولأُمثِّلـن"(1)، وفي روايةٍ أُخرى قال (ص): "لأُمثِّلـن بسبعينَ منهم"، فنزلت الآية: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ فقال رسولُ اللّه (ص): "أصبرُ أصبر"(2).

 

ما رأيُكم في هذه الرواية، ألا تُعتبَر خدْشاً في عصمة النبيِّ (ص)، وهل يصحُّ أنْ يَخرجَ الغضب والاِنفعال لدى النبيّ (ص) عن حدِّ السيطرة أم هو غضبٌ لأجلِ الله، والنبيُّ (ص) يقول بنفسِه: "المُثلة حرام، ولو بالكلب العقور"(3).

 

الجواب:

الرواية الأولى وكذلك الثانية كلٌّ منهما ضعيفةُ السند، فالأولى أوردها العياشي  مرسلةً عن الحسين بن حمزة عن أبي عبد الله (ع) فلا يُعلم طريق العياشي إلى الحسين بن حمزة، لذلك فهي ساقطة عن الاعتبار، والرواية الثانية وردت في تفسير القمي مرسلةً أيضاً لذلك فيه ساقطة عن الاعتبار، وقد وردت رواية أخرى قريبةٌ من مضمون الروايتين عن أبي الجارود (4) ضعيفةٌ أيضاً لكونها مرسلة دون سند، لذلك لا يصحُّ الاحتجاج بشيءٍ من هذه الروايات المرسلة.

 

وبقطع النظر عن ذلك فإنَّه لا ريب في حرمة المُثلة ولو بالكافر ، نعم مَن قطع ساقاً فجزاؤه أنْ تُقطعَ ساقُه قصاصاً، ومَن سمَل عيناً تُسملُ عينُه، ومَن جدَعَ أنفاً يُجدعُ أنفُه، ومَن قَطع أُذُنَ أحدٍ قُطعتْ أذنُه، ومن كسَرَ لأحدٍ سنَّاً كُسرتْ سِنُّه قصاصاً قال الله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(5).

 

فالمقصود من التمثيل -لو صحَّ الخبر- هو القصاص، والذين توعَّدهم النبيُّ (ص) بالقصاص والتمثيل بهم تجاوزوا أصول الحرب وأعرافها فكانوا مستحقِّين لما توعَّدهم به النبيُّ (ص)، فقد أجهزوا على جرحى المسلمين وقتلاهم ومثَّلوا بهم حتى ورد أنَّهم مثَّلوا بجميع الشهداء إلا واحداً(6)، وكان عددُهم سبعين شهيداً أو يزيدون قليلاً(7)، ولعلَّهم مثَّلوا بهم قبل أنْ تُزهق أرواحُهم، فجدعوا آنافهم، وقطعوا آذانهم وأصابِعَهم، وبقروا بطونَهم وأخرجوا أحشاء بعضِهم وسمَلوا عيون آخرين، وكان لحمزةَ سيِّدِ الشهداء(ع) الحظُّ الأوفر من ذلك فقد مثَّلوا بجثمانِه الطاهر أبشعَ تمثيل حتى ورد أنَّ هنداً زوجة أبي سفيان بقَرتْ بطنَه وأخرجتْ كَبِدَه ولاكتْها بأسنانِها واتَّخذت من أُذنيه وانفِه وأجزاء من جثمانِه قلادةً طوَّقت به جيدَها(8).

 

فالنبيُّ (ص) وإنْ كان قد عزَّ عليه ما فعلَه المشركون في جُثمانِ عمِّه وسائرِ الشهداء إلا أنَّه لم يقُل إلا حقَّاً ولم يتوعَّدهم إلا بما هم مُستحقُّون له.

 

والذي يُؤكِّد ذلك هو إمضاءُ الآية المباركة لما توعَّدهم به النبيُّ (ص) حيثُ قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾(9).

 

فالآية المباركة تُصحِّح المجازاة بالمِثْل، وتصحيحُ المجازاة بالمثل يعني جواز التمثيل بمَنْ مثَّل بالمسلمين إلا أنَّ الصبر والعفو خيرٌ للصابرين ولذلك اختار النبيُّ (ص) الصبر.

 

وهو حين توعَّدهم بالتمثيل بهم -بناءً على تماميَّة سند الرواية- لم يتوعَّدهم بأكثر ممَّا صنعوا ولم يكن يقصدُ قطعاً ايقاع المُثلة بغير مَن مثَّل بالمسلمين منهم حتى يُقال إنَّ انفعاله خرج عن سَمتِ الحقِّ والصواب.

 

على انَّ من المُحتمل قويَّاً أنَّ منشأ قولِ النبيِّ (ص): "لأُمثلنَّ ولأُمثِّلن" -لو ثبت ذلك- هو التسليةُ للمسلمين وبيان أنَّ الفاعلين مستحقُّون للقصاص وإلا فهو مُضمِرٌ من أول الأمر للعفو إنْ أراد اللهُ له ذلك.

 

فيكون قد عبَّر بتوعُّده عن موقعِ الشهداء من نفسِه وأنَّهم أهلٌ لأنْ يُقتصَّ لهم وأهلٌ لأنْ يُثأر لهم.

 

ففي توعُّدِه بيانٌ لسموِّ موقعِهم في نفسِه وتسليةٌ لذويهم وإرهابٌ للمشركين وبيانٌ لاستحقاقِهم هذا الجزاء ثم يكون عفوُه تعبيراً عن الحِرصِ على اختيار الأرجح وهو العفو وإنْ كان ذلك يشقُّ على النفس إلا أنَّه التعالي على مشاعر الحُزن رعايةً لما هو الأحظى عند الله تعالى.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- تفسير العياشي -محمد بن مسعود العياشي- ج2 / ص274.

2- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج1 / ص123.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج29 / ص128 باب63 من أبواب القصاص ح6.

4- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج1 / ص 392.

5- سورة المائدة / 45.

6- أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص192، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج6 / ص52.

7- التنبيه والإشراف -المسعودي- ص211، إعلام الورى بأعلام الهدى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص178، السيرة النبوية -ابن كثير- ج3 / ص92.

8- الاستيعاب -ابن عبد البر- ج1 / ص373، أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص192، تفسير البغوي -البغوي- ج3 / ص91، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج6 / ص52، سيرة ابن إسحاق -محمد بن إسحاق بن يسار- ج3 / ص312، السيرة النبوية -ابن هشام الحميري- ج3 / ص607، عيون الأثر -ابن سيد الناس- ج1 / ص424.

9- سورة النحل / 126.