إطلاق وصف الخالق على غير الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
السؤال:
قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(1) ألا يدلُّ على أنَّه يمكن وصف غير الله تعالى بالخالق؟
الجواب:
معنى وصف الخالق لغة:
لا محذور في وصف غير الله جلَّ وعلا بالخالق، ذلك لأنَّ معنى لفظ الخالق لغةً وعُرفًا هو مطلق مَن يصنع شيئاً عن تقدير، فهو بالإضافة إلى ذلك الشيء خالقٌ، وذلك الشيء مخلوقٌ له.
فالنجَّار حينما يصنعُ سريراً يتصوَّر هيئته في ذهنه ويتصوَّرُ ما يحتاجه من أدواتٍ ومواد من أجل إيجاده خارجاً -وهذا هو معنى التقدير- هذا النجار يصحُّ توصيفه بخالق السرير، وهكذا حينما ينحت أحدُهم حجرًا فيشكِّل منها صورةَ أسدٍ مثلاً فإنَّه يكون خالقًا لهذه الصورة، ذلك لانَّه قد تصوَّرها في ذهنه وخطَّط لها قبل أن يشرع في العمل على ايجادِها خارجًا.
إسناد الخلق لغير الله في القرآن:
فهو خالقٌ لتلك الصورة وذلك المجسَّم ولا محذور في وصفِه بذلك، ولهذا أسند القرآن الكريم الخلق لهيئة الطير إلى عيسى بن مريم (ع) فقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾(2) وقال تعالى: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ﴾(3).
فاسناد الخلق لهيئة الطير إلى عيسى (ع) دليلٌ على صحَّة وصف غير الله جلَّ وعلا بالخالق.
وبذلك يتَّضح أنَّ مقتضى قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(4) هو أنَّ ثمة مَن يصحُّ وصفه بالخالق غير الله تعالى إلا أنَّ الله تعالى هو أحسنُ الخالقين، فمساقُ هذا الوصف هو مساق ما وصف الله تعالى به نفسَه بقوله: ﴿ثُمَّ رُدُّواْ إلى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾(5) وبقوله تعالى: ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾(6).
وقد ورد وصفُه تعالى في روايات أهل البيت (ﻉ) بأنَّه ابصرُ الناظرين، واسمعُ السامعين، وأحكمُ الحاكمين(7).
فلا محذور في أنْ يُوصف غير الله تعالى بالراحم والحاكم والباصر والناظر ذلك لأنَّ الاتِّصاف بهذه النعوت له مراتب متفاوته ومتباعدة، فمن كان واجدًا لاضعفِ مرتبةٍ منها يصحُّ وصفه بها، ولا ينافي ذلك وصف مَن كان واجدًا لمرتبةٍ أعلى منها بذات الوصف، وكذلك فإنَّ وصفَ اللهِ جلَّ وعلا بنفس تلك الصفة لا ينافيه اتِّصاف مَن هو دونه بها، ولهذا نجدُ القرآن الكريم قد أسند العزة للرسول (ص) وللمؤمنين وفي ذات الوقت أسندها لله جلَّ وعلا ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾(8) ومعنى ذلك أنَّه كما يصحُّ وصف الجليل جلَّ وعلا بالعزيز كذلك يصحُّ وصف الرسول (ص) بالعزيز بل ويصحُّ وصف المؤمن بالعزيز رغم التفاوت البيِّن بين عزَّة الرسول (ص) والعزَّة الثابتة لسائر المؤمنين، والتفاوت الذي لا يرقى اليه وهمٌ بين عزَّة الله جلَّ وعلا وسائر عباده المؤمنين.
فالعزَّة الثابتة لله عزَّة مطلقة لا ترقى اليها عزَّة مهما تعاظمت، فهي العزَّة غيرُ المتناهية قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا﴾(9) وقال جلَّ وعلا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(10).
وهكذا الحال في كلِّ نعتٍ ووصفٍ يليقُ بشأنه تعالى فإنَّه يكون واجدًا لأكملِ ذلك الوصف وأتمِّه، ويكون معنى اتِّصاف غيره به هو أنَّه واجد لمرتبةٍ منه وإنْ كانت دانية، على أنَّ اتِّصاف غير الله بذلك الوصف يكون بتخويلٍ من الله جلَّ وعلا فهو تعالى وحده الذي يمنحُ لعباده القدرةَ ومحاسِنَ الصفات وسجايا الخير، وليس لاحدِهم أنْ يتأهَّل لشيءٍ منها بذاته.
وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾(11) فهو خالقٌ لهيئة الطير ولكن باذن الله وتأهِّيله، وغيره مالك لما تحت يدِه ولكنَّ الله تعالى هو مَن ملَّكه ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(12).
وقد وصف اللهُ تعالى نبيَّه الكريم (ص) بالرؤوف الرحيم فقال: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾(13) وأفادت آيةٌ اخرى أنَّ الرحمة التي انطوى عليها قلب النبيِّ محمَّد (ص) كانت منحةً من عند الله جلَّ وعلا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ..﴾(14).
والحمد لله رب العالمين
من كتاب: شؤون قرآنية
الشيخ محمد صنقور
1- سورة المؤمنون / 14.
2- سورة المائدة / 110.
3- سورة آل عمران / 49.
4- سورة المؤمنون / 14.
5- سورة الأنعام / 62.
6- سورة يوسف / 64.
7- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص556، وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج13 / ص538، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج79 / ص64.
8- سورة المنافقون / 8.
9- سورة النساء / 139.
10- سورة الصافات / 180.
11- سورة المائدة / 110.
12- سورة آل عمران / 26.
13- سورة التوبة / 128.
14- سورة آل عمران / 159.