﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ ..﴾ مناقشة في الإطلاق

 

بسم االله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(1).

 

كيف نوفِّق بين هذه الآية الكريمة التي مدحتْ عموم الصحابة وبين ما يذهب إليه الشيعةُ من عدم عدالة بعض الصحابة؟

 

الجواب:

عدم إرادة الإطلاق من الآية:

الآيةُ المباركة وإن كانت ظاهرةً في مدح مَن كان مع النبيِّ (ص) من الصحابة إلا أنَّه لا إطلاق لها يقتضي ثبوت المدح لعموم الصحابة، وذلك لأنَّ الإطلاق لا يمكن استظهارُه من كلام المتكلِّم لو كان ثمة قرينةٌ على عدم إرادتِه الجدِّية للإطلاق.

 

لذلك فالإطلاقُ غير مرادٍ جزمًا من الآية المباركة نظراً لوجود قرائن كثيرة على عدم إرادتِه، منها ما هو مستفاد من القرآن الكريم، ومنها ما هو ثابتٌ بالسُنَّة القطعية، ومنها ما يمكن التعبير عنه بالقرائن التاريخيَّة.

 

القرائن الدالَّة على عدم الإطلاق:

أولا: القرائن المستفادة من القرآن الكريم:

أما ما هو مستفاد من القرآن الكريم: فثمة آياتٌ كثيرة وصفت بعض الصحابة أو أخبرت عن أحوالِهم بما لا ينسجمُ مع اتِّصافهم بالنعوت المذكورة في الآية المباركة، وذلك يُعبِّر بما لا مجال معه للشك عن أنَّهم لم يكونوا مقصودين بالمدح الوارد في هذه الآية المباركة، إذ لا يصحُّ أن يكونوا مشمولين للمدح الوارد في الآية وهم على ما وصفهم به القرآن في آياتٍ أخرى.

 

وبتعبير آخر: إنَّ التعرُّف على محصَّل ما يُريده المتكلِّم من كلامه لا يتمُّ إلا بملاحظة مجموع خطاباتِه وإلا لزم البناء على وقوع التهافت بين خطاباته، وهذا لو كان يتناسب مع سائر المتكلِّمين فإنَّه لا يتناسب قطعًا مع القرآن الكريم الذي وصفَه اللهُ تعالى بقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(2).

 

ولتوثيق ما ذكرناه نستعرضُ بنحو الإيجاز الشديد نماذجَ من الآيات الواردة في وصفِ أو بيان أحوال بعض الصحابة بما لا يتناسبُ جزمًا مع إرادة العموم من الآية المباركة.

 

النموذج الأول: الفارُّون من الزحف!

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾(3).

 

فهذه الآية المباركة تُخبر عن أنَّ جمعًا من الصحابة قد ولَّوا الأدبار وفرُّوا من الزحف يوم حنين.

 

ولا يختلفُ أحدٌ من المسلمين في أنَّ الفرار من الزحف هو من كبائر الذنوب بل هو من المُوبِقاتِ المُستوجبةِ لدخول النار.

 

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ / وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(4).

 

ولم يكن الفرارُ من الزحف يومَ حُنين هو الفرار الأول من الحرب عن رسول الله (ص) بل وقَع ذلك منهم يوم أحد.

 

قال تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(5).

 

فكيف يصحُّ أنْ نصف مثل هؤلاء بقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ﴾(6) وهم قد فرَّوا من زحف الكفار يوم حُنينٍ ويوم أحد، وكيف يصحُّ وصفُهم بذلك وقد أخبر القرآن الكريم عن حالِهم يوم فرارِهم عن رسول الله (ص) في أحد، فهم يُصعِدون ويجدُّون في الفرار ولا ينعطفون على أحدٍ مشغولين بأنفسِهم رغم أنَّ رسولَ الله (ص) كان يدعوهم إلا أنَّ دعوتَه ومناشدتَه لم تكن لتلقى منهم أذنًا صاغية، فهي لا تكادُ تبلغ أوائل الفارِّين حتى تصل إلى أخراهم، وذلك تعبيرٌ عن تسابقِهم في الفِرارِ عن رسولِ الله (ص).

 

النموذج الثاني: الموالون للكفار!

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾(7).

 

فهذه الآية المباركة تكشفُ عن انَّ بعضاً من الذين آمنوا ممَّن كان مع رسول الله (ص) كان يُكنُّ الولاء والود للكافرين، وقد أكَّدت الروايات الواردة في أسباب نزول الآية المباركة على ذلك(8)، وعليه كيف يصحُّ القول بأنَّ أمثال هؤلاء مشمولون لقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ﴾ وهم يُسِّرون إليهم بالمودَّة، بل لم يكن الأمرُ مقتصراً على حمل هؤلاء لمشاعر المودَّة والولاء للكافرين رغم انَّه كافٍ لخروجهم عن التوصيف بالأشدَّاء على الكفار بل قد كانوا يُلقون إليهم بالمودَّة كما أفادت الآية المباركة، وهذا معناه أنهم يُمارسون من الأفعال ما يستدعي انتباه الكافرين إلى أنَّهم يحملون لهم مشاعر الولاء والمودَّة، وقد أفادت الروايات الواردة من طرق العامَّة بأسانيد معتبرة أنَّ بعضهم بعث لمشركي مكة برسالةٍ يكشفُ فيها عن أسرارِ المسلمين وحين فضحته هذه الآيةُ المباركة اعتذر عن ذلك بأنَّه إنَّما فعل ما فعل حياطةً لأهلِه بمكة(9).

 

النموذج الثالث: المفترون على نساء النبيِّ (ص)!

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(10).

 

هذه الآية صريحة في أنَّ جمعاً من أصحاب الرسول (ص) افتروا على بعض نسائِه زوراً وبهتاناً واتَّهموها بالفاحشة، فأنزل اللهُ تعالى في هذه الآية وما بعدها براءتَها، وقد أجمع المفسِّرون والمحدثون على ذلك(11).

 

فهل يصحُّ وصف هؤلاء بالرحماء بينهم والحال أنَّهم لم يتورَّعوا حتى عن حرم رسول الله (ص) فلم تُدركهم شفقةً برسول الله (ص) وعرضه؟! وإذا قيل إنَّ هؤلاء منافقون وهم غير مشمولين للآية المباركة قلنا: إنَّه لا ريب أنَّهم غير مشمولين للمدح الوارد في الآية المباركة إلا أنَّهم كانوا من أصحاب الرسول بمقتضى تعريف علماء أهل السنة للصحابي(12)، على أنَّ المنافقين لم يكونوا متميِّزين، وإذا كان بعضُهم معروفاً بالنفاق فإنَّ أكثرهم لم يكونوا معروفين بذلك، ولو تمَّ التسليم بأن الصحابة كانوا يُميزِّون المنافق من غيره فإن مَن جاء بعدهم لم يكن كذلك، ولهذا لا يصح الحكم على كلِّ صحابي بالعدالة تمسُّكاً بالآية المباركة بعد قيام العلم الإجمالي على أنَّ جمعاً منهم كانوا من أهل النفاق.

 

هذا وقد صرَّح القرآنُ الكريم بعدم تشخُّص المنافقين جميعاً فقال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾(13).

 

النموذج الرابع: المتثاقلون عن الجهاد!

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾(14).

 

الخطاب في الآية المباركة موجَّه للمؤمنين وليس للمنافقين، وعليه كيف يستقيمُ وصف مَن نعتتهم هذه الآية بالتثاقل عن الجهاد والخلود إلى الدِّعة والمتاع، كيف يستقيمُ وصف مثل هؤلاء بالأشدَّاء على الكفَّار، وكيف يكون مثل هؤلاء المتقاعسين هم المثل الذين أشاد الله تعالى بهم في التوراة والإنجيل ووصفهم بالزرع الذي أخرج شطأه فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزراع، فالمتعيَّن هو أنَّ مَن وصفهم بالتثاقل عن الجهاد والمعصية لأمر رسوله الله (ص) واستنفاره هم غير أولئك الذين وصفهم القرآن بالأشدَّاء على الكفار، إذ لا يستقيم أن يكون المعنيُّ بالمدح والثناء والمعنيُّ بالذم والتقريع جماعة واحدة بعد أن كان متعلَّق المدح هو الشدَّة على الكفار وكان متعلَّق الذم هو التثاقل عن جهاد الكفَّار.

 

النموذج الخامس: المنشغلون باللهو والتجارة عن الصلاة!

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾(15).

 

روى البخاري في صحيحه عن جابر قال: أقبلت عير ونحن نصلِّي مع النبيِّ (ص) فانفضَّ الناس إلا اثني عشر رجلاً فنزلت هذه الآية ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا﴾(16).

 

وروى ابن حبَّان في صحيحه بسنده عن جابر قال: بينا النبيُّ (ص) يخطب يوم الجمعة، وقدمت عيرٌ المدينة فابتدرها أصحابُ رسول الله (ص) حتى لم يبقَ معه إلا اثنا عشر رجلاً، فقال رسول الله (ص): "والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم احد لسال لكم الوادي نار"، فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾(17).

 

والروايات في ذلك كثيرة ذكرها أكثر المحدِّثين وهي تعبِّر عن عدم تميِّز أصحاب النبي (ص) عن غيرهم، فهم كسواد الناس يشغلُهم اللهو والتجارة عن العبادة والصلاة، ومثل هؤلاء لا يصحُّ وصفهم بما ورد في قوله: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾(18).

 

وكذلك لا يصح وصفهم بقوله تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(19).

 

فقولُه تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ يعبِّر عن أنَّ ذلك هو ديدنُهم كما هو مقتضى التعبير بالفعل الماضي بعد أداة الشرط، إذ انَّ ظاهر ذلك هو انَّهم كلما رأوا تجارة أو لهواً تبادروا إليها غير عابئين بالصلاة وبقيام النبيِّ (ص) فيهم خطيباً، فإذا كان هذا شأنُهم والنبيُّ (ص) قائماً خطيباً أو إماماً فما عساه يكون شانُهم حين لا يكون الرسول (ص) هو الخطيب والإمام.

 

والذي يؤكِّد ذلك ما ورد في بعض الروايات من أن هذه الحالة قد تكررت منهم وبعد ذلك نزلت الآية الكريمة، فقد نقل الثعلبي عن قتادة ومقاتل قالا: بلغنا انَّهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، وكلُّ مرَّة بعير من الشام وكل ذلك يوافق يوم الجمعة(20).

 

وقال جابر بن عبد الله: كان الجواري إذا نُكحوا يمررن بالمزامير والطبل فانفضُّوا إليها فنزلت هذه الآية(21).

 

وورد في بعض الروايات أنَّ الذين يخرجون بعضهم يُريد ان يشتري وبعضهم يريد أنْ ينظر(22).

 

وكلُّ ذلك يُؤكِّد ما هو مستظهر من الآية المباركة وهو انَّ في أصحاب الرسول (ص) مَن يستخفُّهم اللهو وتشغلُهم التجارة عن الصلاة وإنَّ فيهم من لا يهمُّه كثيراً مقام النبيِّ (ص) وحديثه، ومثل هؤلاء ليسوا مشمولين جزماً لقوله تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(23).

 

النموذج السادس: الفاسق في آية النبأ!

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(24).

 

فقد ذكر أكثرُ المفسِّرين والمحدِّثين(25) انَّ الآية المباركة نزلت في الوليد بن عقبة بعد أن ادَّعى كذباً على بني المصطلق انَّهم منعوه الزكاة التي بُعث من قبل الرسول (ص) لقبضها منهم وادَّعى انَّهم أرادوا قتله وانَّهم ارتدُّوا والحال انَّه لم يذهب إليهم وإنَّما ادّعى عليهم ذلك كذباً وبهتاناً.

 

فهل يصحُّ بعد ذلك أن نقولَ إنَّ مثل هذا الرجل الذي هو من الصحابة مشمولٌ للمدح الوارد في قوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ فأيُّ رحمةٍ وشفقة انطوت عليه سريرة هذا الرجل وقد كاد يُهلك بادِّعائه قوماً من الصحابة لم يكونوا قد اجترحوا الذنب الذي افتراه عليهم.

 

فإذا لم يكن مثل الوليد مشمولاً للمدح الوارد في الآية المباركة فذلك يقتضي أن لا يكون الإطلاق مُراداً منها، إذ انَّ الموجبة الكلية تنتقض بالسالبة الجزئيَّة.

 

النموذج السابع: الكارهون للجهاد!

قوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ / يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ / وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ..﴾(26).

 

هذه الآيات نزلت بعد ما عقد النبيُّ (ص) العزم على مواجهة قريش في بدر، وهي صريحةٌ في أنَّ فريقاً من المؤمنين ممَّن كان مع النبيِّ (ص) كانوا كارهين للحرب وانَّ كراهتهم لها بلغت حداً بحيث صحَّ وصفُهم بأنَّهم يشعرون وكأنهم يُساقون إلى الموت وهم ينظرون، وذلك تعبيرٌ عن الخوف الذي تمكَّن من قلوبهم، فرغم انَّ النبيَّ (ص) قد أوضح لهم انَّ مواجهة قريش حقٌّ وانَّ لهم النصر في هذه الحرب(27) إلا انَّ ذلك لم يبعث الطمأنينة في قلوبِهم لذلك أخذوا يُجادلون الرسول (ص) ليصرفوه عن قرار الحرب، فهل يستقيمُ وصف هؤلاء بالأشدَّاء على الكفَّار، وهل الشدَّة تعني العنف بعد الغلبة؟! أو هي شدَّةُ البأس والجلَد ورباطةُ الجأش والصبرُ على مقارعة الأعداء والحرصُ على إلحاقِ الهزيمة بهم وإدخالِ الوهن عليهم، فإذا كان الأمر كذلك فما هو نصيب هؤلاء من هذه الخصال وقد كانوا يودُّون انَّ غير ذات الشوكةِ تكون لهم، فلم تكن لهم في الحرب رغبة رغم تبيُّن الحقِّ ورغم الوعد الإلهيِّ بالنصر المُفضي بطبعِه لوهن الكافرين.

 

فالرغبةُ في الدِّعة واغتنام القافلة كانت أحظى عندهم من ايقاع الهزيمة بالكافرين، فأين هي الشدَّة التي مدح اللهُ تعالى بها مَن كان مع النبيِّ الكريم (ص)، وهل يصحُّ وصفُ الرعديد الذي يرى الحرب سَوقاً للموت صبراً هل يصحُّ وصفُ مثلِ هذا بالشدَّة؟!.

 

ثانيا: القرائن المستفادة من الروايات:

وأما القرائن المُستفادة من السُنَّة القطعيَّة فنذكر لها نماذج:

النموذج الأول: روايات الحوض

وهي رواياتٌ كثيرةٌ وصريحةٌ تبلغ حدَّ التواتر، مفادُها أنَّ جمعاً من أصحاب النبيِّ (ص) سوف يُحال دون وصولِهم للحوض يوم القيامة وسيُمنعون من ورودِه والشرب منه، وذلك لانَّهم أحدثوا بعد رسول الله (ص) وبدَّلوا وغيّروا فاستوجبوا الحرمانَ من ورود الحوض.

 

فمن هذه الروايات: ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس عن النبيِّ (ص) قال: "ليرِدنَّ عليَّ ناس من أصحابي الحوضَ حتى عرفتُهم اختلجوا دوني فأقولُ أصحابي فيقولُ: لا تدري ما أحدثوا بعدك(28).

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن سهل بن سعد قال: قال النبيُّ (ص): "إني فرَطُكم على الحوض مَن مرَّ عليَّ شرِب، ومَن شرِب لم يظمأ أبداً، ليرِدنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني ثم يُحال بيني وبينهم"، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: هكذا سمعتَ من سهل؟ فقلتُ: نعم، فقال: أشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعتُه وهو يزيد: "فأقولُ إنَّهم مني فيُقال إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سُحقاً لمن غيَّر بعدي .."(29).

 

ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): "ترِدُ عليَّ أمتي الحوض وأنا أذودُ الناس كما يذودُ الرجل إبلَ الرجل عن إبله: قالوا: يا نبيَّ الله أتعرفُنا؟ قال: "نعم لكم سيما ليست لأحدٍ غيركم، ترِدون عليَّ غرَّاً محجَّلين من آثار الوضوء وليُصدَّن عني طائفةٌ منكم فلا يَصلون، فأقول يا ربِّ هؤلاءِ أصحابي فيُجيبني ملكٌ فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك"(30).

 

ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله (ص): "أنا فرَطُكم على الحوض ولانازِعنَّ أقواماً ثم لأُغلبنَّ عليهم فأقول يا ربِّ أصحابي، فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك"(31).

 

ومنها: ما رواه البخاري بسنده عن ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال النبيُّ (ص): "إنِّي على الحوض حتى أنظر مَن يَرِد عليَّ منكم، ويُؤخذ ناسٌ دوني، فأقول: يا رب منِّي ومن أمتي، فيقال: هل شعرتَ ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابِهم".

 

فكان ابنُ أبي مليكة يقول: "اللهمَّ إنَّا نعوذُ بك أنْ نرجع على أعقابِنا أو نُفتنَ عن دينِنا"(32).

 

ومنها: ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة أنَّه كان يُحدِّث أنَّ رسول الله (ص) قال: "يرِد عليَّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيُحلَّئون عن الحوض، فأقولُ: يا ربِّ أصحابي، فيقول: إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنَّهم ارتدُّوا على أدبارِهم القهقرى"(33).

 

وليس المراد من الإرتداد هو الشرك بعد الإيمان وإنَّما هو الانصراف عن مقتضيات الإيمان كما تدلُّ على ذلك رواياتٌ عديدة كالتي رواها البخاري بسنده عن عقبة ابن عامر قال: صلَّى رسول الله (ص) على قتلى أُحد بعد ثماني سنين كالمودِّع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال: "إنِّي بين أيديكم فرَطٌ وأنا عليكم شهيدٌ، وإنَّ موعدَكم الحوض وإنِّي لأنظر إليه من مقامي هذا وإنِّي لستُ أخشى عليكم أن تُشركوا ولكنِّي أخشى عليكم الدنيا أنْ تنافسوها" قال: فكان آخر نظرةٍ نظرتُها إلى رسولِ الله (ص)(34)، ورواه مسلم بسنده عن عقبة إلا أنَّه ورد في ذيله: "إنِّي لست أخشى عليكم ان تُشركوا بعدي ولكنِّي أخشى عليكم الدنيا ان تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم"(35).

 

فهل يصحُّ وصفُ هؤلاء الذين أحدثوا وبدَّلوا وغيَّروا بأنَّ: ﴿مثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ..﴾(36).

 

النموذج الثاني: روايات الفئة الباغية

ما ورد بأسانيد صحيحة عن النبيِّ (ص) أنَّ عمَّار بن ياسر تقتلُه الفئةُ الباغية وإنَّه يدعوهم إلى الجنَّة ويدعونَه إلى النار.

 

منها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عكرمة قال: قال لي ابنُ عباس ولابنه انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يُصلحُه فأخذ رداءَه فاحتبى ثم أنشا يُحدِّثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد فقال: كنَّا نحمل لَبِنة ولبنة وعمار لَبِنتين لبنتين فرآه النبيُّ (ص) فينفضُ التراب عنه ويقول: "ويح عمار تقتلُه الفئةُ الباغية يدعوهم إلى الجنَّة ويدعونه إلى النَّار" قال: يقول عمار: أعوذُ بالله من الفِتَن(37).

 

ورواه بسندٍ آخر ورد في ذيله "مسح عن رأسِه الغبار وقال (ص): "ويح عمَّار تقتلُه الفئةُ الباغية يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النَّار"(38).

 

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسسندٍ وصفَه بالصحيح على شرط الشيخين عن أبي بكر بن حازم قال: لما قُتِل عمَّار بن ياسر دخل عمرو بن حازم على عمرو بن العاص فال: قُتِل عمار، وقد قال رسولُ الله (ص) تقتلُه الفئةُ الباغية، فقام عمرو بن العاص فزِعاً حتى دخل على معاوية، فقال: له معاوية ما شأنُك؟ قال: قُتِل عمار، فقال معاوية: قُتِل عمار فماذا؟ فقال عمرو: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: تقتلُه الفئةُ الباغية، فقال معاوية: دَحضِتَ في بولك أَوَنَحنُ قتلناه؟ إنَّما قتله عليٌّ وأصحابُه جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا أو قال: سيوفنا(39).

 

وقد روى أحمد بن حنبل في مسنده أكثر من خمس روايات بطرق متعدِّدة اشتملت على انَّ عمار تقتلُه الفئةُ الباغية(40).

 

ورواه كذلك ابن حبَّان في الصحيح والبيهقي في دلائل النبوَّة والطبراني في المعجم الكبير وغيرهم كثير(41).

 

النموذج الثالث: رواياتُ الأثَرة والظلم

ما ورد بأسانيدَ صحيحة ومعتبرة عن الرسول (ص) أنَّه أخبر عن انَّ الأنصار سيلقَون بعده أَثرَةً وظلماً وانَّ الأُمَّة ستغدُرُ بعليٍّ (ع) بعد وفاته وانَّ أقواماً انطوت صدورهم على ضغائن لعليٍّ (ع) لن يبدوها إلا بعد وفاته (ص) وأنَّه عَهِد إلى عليٍّ (ع) أنْ يُقاتل الناكثين الذين ينكثون بيعته والقاسطين وهم الفئة الباغية، وكلُّ هؤلاء الذين نعتَهم الرسولُ (ص) بالظلم والغدر وأخبر عن ضغائنهم وإنَّهم ينكثون ويقسطون، كلُّ هؤلاء فيهم من الصحابة بل كانوا الروَّاد والمؤلبين والمؤازرين على الظلم واستباحة الدمِ الحرام.

 

فمن هذه الروايات: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك عن رسولِ الله (ص) أنَّه قال للأنصار: "إنَّكم ستلقون بعدي أثَرَةً شديدةً فاصبروا حتى تلقوا اللهَ ورسولَه على الحوض"، قال أنس: فلم نصبر(42).

 

وروى قريباً منه عن زيد بن عاصم إلا انَّه ورد في ذيلِه: "إنَّكم ستلقون بعدي أثَرَةً فاصبروا حتى تَلقوني على الحوض"(43).

 

وروى أيضاً بسنده عن أنس بن مالك انَّ رسول الله (ص) أرسل إلى الأنصار فجمعَهم في قبَّةٍ وقال لهم: "اصبروا حتى تلقوا اللهَ ورسولَه فإنِّي على الحوض"(44).

 

وقد روى البخاري في صحيحه أكثر من ستِّ روايات بأسانيد مختلفة اشتملت على خطاب الأنصار بالقول: "ستلقون بعدي أَثَرَةً فاصبروا"(45).

 

وروى ذلك مسلم في صحيحه وأخرج ثلاث روايات اشتملت على هذا الخطاب(46) وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده أكثر من خمس روايات اشتملت على هذا الخطاب(47).

 

ومنها: ما رواه الحاكمُ النيسابوري بسنده عن حيّان الأسدي قال: سمعتُ عليَّاً يقول: قال لي رسولُ الله (ص) إنَّ الأُمَّة ستغدرُ بك بعدي وأنت تعيشُ على ملَّتي وتُقتلُ على سُنَّتي، مَن أحبَّك أحبَّني ومن أبغضَك أبغضني، وإنَّ هذه ستُخضبُ من هذا يعني لحيتَه من رأسه.

قال الحكام النيسابوري: صحيح(48).

 

وصحَّحه الذهبي(49)، ورواه البيهقي عن ثعلبة الحمَّاني قال: سمعتُ عليَّاً على المنبر يقول: "واللهِ إنَّه لعهدُ النبيِّ (ص) إليّ إنَّ الأمة ستغدرُ بِكَ بعدي"(50).

 

ورواه في تذكرة الحُفَّاظ بسنده عن إبراهيم بن علقمة ورواه في تاريخ بغداد بسندِه عن أبي ادريس وكذلك ابنُ كثير في البداية والنهاية(51).

 

وروى الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي ادريس الأودي عن عليٍّ (ع) قال: "إنَّ ممَّا عهد إليَّ النبيُّ (ص) انَّ الأُمة ستغدرُ بي بعدَه".

 

قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد(52).

 

ومنها: ما رواه الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن ابن عباس قال: خرجتُ أنا والنبيُّ (ص) وعليٌّ في حشان المدينة فمررنا بحديقةٍ فقال عليٌّ: "ما أحسنَ هذه الحديقة يا رسولَ الله".

 

فقال: "حديقتُك في الجنَّة أحسنُ منها" ثم أومأ بيده إلى رأسِه ولحيتِه ثم بكى حتى علا بكاؤه، قيل: ما يُبكيك؟!، قال (ص): "ضغائنُ في صدور قومٍ لا يُبدونها لك حتى يفقدوني"(53).

 

وروى في مجمع الزوائد عن عليٍّ (ع) قريباً من هذا النصِّ إلا أنَّه ورد فيه: "فلمَّا خلا لي الطريق اعتنقني ثم أجهشَ باكياً، قلتُ: يا رسول الله ما يُبكيك؟ قال: ضغائنُ في صدور أقوام لا يُبدونها لك إلا بعدي، قال: قلتُ يا رسول الله في سلامةٍ من ديني؟ قال: في سلامةٍ من دينك"(54).

 

أقول ذكر الهيثمي انَّ رجال هذا الحديث ثقاةٌ إلا انَّ فيه الفضل ابن عميرة وقد وثَّقه ابنُ حبَّان، وروى ابنُ عساكر في تاريخ دمشق قريباً منه عن أنس بن مالك ورواه ابنُ عدي في الكامل وغيرُهم(55).

 

ومنها: ما رواهُ الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي أيُّوب الأنصاريِّ في خلافة عمر بن الخطاب قال: أمرَ رسولُ الله (ص) عليَّ بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين(56).

 

وروى الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن مِحنف بن سليم قال: أتينا أبا أيُّوب الأنصاري وهو يعلفُ خيلاً له بصنعبى فقِلنا عنده، فقلتُ له: أبا أيُّوب قاتلتَ المشركين مع رسول الله (ص) ثم جئتَ تُقاتل المسلمين، قال: إنَّ رسول الله (ص) أمرني بقتال ثلاثة الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قاتلتُ الناكثين وقاتلت القاسطين وأنا مقاتلٌ إنْ شاء اللهُ المارقين بالشعفات بالطرقات بالنهراوات وما أدري ما هم(57).

 

ورواه الحاكمُ النيسابوري في المستدرَك على الصحيحين(58).

 

وروى أبو يعلى بسنده عن عمَّار بن ياسر قال: "أُمرت أنْ أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين"(59).

 

وروى قريباً منه بسنده عن عليِّ بن ربيعة قال: سمعتُ عليَّاً على منبرِكم يقول: "عَهِدَ إليَّ النبيُّ (ص) أنْ أُقاتلَ الناكِثينِ والقاسطينَ والمَارقين"(60).

 

والمرادُ من الناكثين -كما أفاد ابنُ الأثير في النهاية- أصحابُ الجمل لأنَّهم نكثوا بيعتَهم، والقاسطين أهلُ الشام لأنَّهم جاروا في حكمِهم وبغوا عليه، والمارقين الخوارج لأنَّهم مرقوا من الدين كما يمرقُ السهمُ من الرمية(61).

 

ثالثا: القرائن التاريخيَّة:

وأما القرائنُ التاريخيَّة فيكفي أنْ نقفَ على ما وقع من فتنةٍ أودتْ بحياة الخليفة عثمان، وقد كان في المؤلِّبين عليه صحابةٌ مثل طلحة بن عبد الله وعمرو بن العاص وغيرهما، وما وقع في حربِ الجمل فقد كان فيمَن خرج على الخليفة الشرعيِّ صحابةٌ مثل طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير، وقد قُتل في هذه الحرب جمعٌ غفير من الطرفين، وكذلك ما وقع في حرب صفِّين فقد كان يقودُ الحرب على إمام الزمان صحابيٌّ هو معاوية بن أبي سفيان ومعه جمع من الصحابة مثل عمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو بن العاص والوليد بن عقبة والمغيرة بن شعبة والنعمان بن بشير وغيرهم(62).

 

فكيف يستقيمُ وصفُ هؤلاءِ بقولِه تعالى: ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾(63) وأنَّ ﴿مثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ..﴾(64).

 

هذه مجموعة من القرائن حرصنا فيها على الإيجاز الشديد وهي مقتضية للقطع بعدم إرادة الإطلاق من قوله تعالى: ﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(65).

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الفتح / 29.

2- سورة النساء / 82.

3- سورة التوبة / 25.

4- سورة التوبة / 25.

5- سورة آل عمران / 153.

6- سورة الفتح / 29.

7- سورة الممتحنة / 1.

8- لاحظ صحيح البخاري -البخاري- ج5 / ص89، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص83، المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص485، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص168، صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج14 / ص425، تفسير القرآن -عبد الرزاق الصنعاني- ج3 / ص286، جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج28 / ص73، أحكام القرآن -الجصاص- ج3 / ص582، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج3 / ص399، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص290 وغيرهم كثير.

9- لاحظ الهامش السابق وما أغفلناه أكثر مما ذكرناه.

10- سورة النور / 11.

11- تفسير ابن أبي حاتم -ابن أبي حاتم الرازي- ج8 / ص2543، أحكام القرآن -الجصاص- ج3 / ص355، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج2 / ص502، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج7 / ص72، تفسير البغوي -البغوي- ج3 / ص330، أحكام القرآن -ابن العربي- ج3 / ص262، زاد المسير -ابن الجوزي- ج5 / ص346، تفسير الرازي -الرازي- ج23 / ص176، تفسير القرطبي -القرطبي- ج12 / ص195، التسهيل لعلوم التنزيل -الغرناطي الكلبي- ج3 / ص61، الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج5 / ص24، لباب النقول -السيوطي- ص157، التبيان -الشيخ الطوسي- ج7 / ص414، تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج7 / ص227، تفسير نور الثقلين -الشيخ الحويزي- ج3 / ص581، تفسير الميزان -العلامة السيد الطباطبائي- ج15 / ص87.

12- أفاد ابن حجر العسقلاني في الاصابة في تعريف الصحابي انه من لقي النبي (ص) في حياته مسلمًا ومات على اسلامه) ج1 ص8 فبناءً على هذا التعريف يكون المنافقون الذين لم يكونوا معروفين بالنفاق من الصحابة لانهم كانوا في حياة رسول الله (ص) على ظاهر الاسلام وماتوا على ظاهر الاسلام فلأنَّهم لم يكونوا معروفين بالنفاق لذلك لابدَّ من البناء على انهم من الصحابة بناءً على عنوان الصحابي من الوثاقة وحجية خبره وقوله دون الحاجة من التثبت من واقع حاله. وقال الواقدي: ورأيت أهل العلم يقولون: كل مَن رأى رسول الله (ص) وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي (ص) ولو ساعة من نهار) الإصابة -ابن حجر- ج1ص87. اقول: وهذا التعريف كسابقه لا يخرج المنافق الذي بقي على ظاهر الاسلام الى ان مات. وبذلك لا يخرج من المنافقين إلا من عُرف بالنفاق وهم لا يتجاوزون عدد الاصابع ويبقى الآخرون وهم كثر في عداد الصحابة قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ فمثل هؤلاء كيف يصح عدُّهم من الممدوحين في الآية المباركة ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ..﴾ لا يقال انهم غير مقصودين بالمدح في الآية فإنه يقال ان التعريف يقتضي دخولهم كما ان العمل جارٍ على ذلك فكلُّ من لقي رسول الله تُقبل روايته ويحرم القدح فيه كائنًا من كان.

13- سورة التوبة / 101.

14- سورة التوبة / 38.

15- سورة الجمعة / 11.

16- صحيح البخاري -البخاري- ج225، ج3 ص7، ج63،6، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج3 / ص270، السنن الكبرى -البيهقي- ج3 ص182، سنن الدارقطني -الدارقطني- ج2 / ص4.

17- صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج15 / ص300، مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج3 / ص468، صحيح ابن خزيمة -ابن خزيمة- ج3 / ص174، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص10، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص78، الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج6 / ص220.

18- سورة النور / 37.

19- سورة الفتح /29.

20- تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص318، تفسير القرطبي -القرطبي- ج18 / ص11، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز -ابن عطية الأندلسي- ج5 / ص309.

21- تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص318.

22- الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج6 / ص220، فتح القدير -الشوكاني- ج5 / ص229، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص87، تحفة الأحوذي -المباركفوري- ج9 / ص149، صحيح ابن خزيمة -ابن خزيمة- ج3 / ص174، تفسير الآلوسي -الآلوسي- ج28 / ص104.

23- سورة الفتح / 29.

24- سورة الحجرات / 6.

25- مسند احمد -احمد بن حنبل- ج4 / ص279، مجمع الزوائد -الهيثمي- قال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، ورواه أيضًا بطرق أخرى وألسنة مختلفة ج7 / ص108، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص275، ج23 / ص401، الاستيعاب -ابن عبد البر- ج4 / ص1553، تفسير مجاهد -مجاهد بن جبر- ج2 / ص606، تفسير مقاتل بن سليمان -مقاتل بن سليمان- ج3 / ص259، تفسير القرآن -عبد الرزاق الصنعاني- ج3 / ص231، جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج26 / ص162،159، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج3 / ص308، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص77، أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص261، تفسير السمعاني -السمعاني- ج5 / ص217، الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج6 / ص88، وغيرهم كثير.

26- سورة الأنفال / 5-7.

27- وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾.

28- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص207.

29- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص208،207.

30- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج1 / ص150.

31- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص68.

32- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص209.

33- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص208.

34- صحيح البخاري -البخاري- ج5 / ص29.

35- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص67.

36- سورة الفتح / 29.

37- صحيح البخاري -البخاري- ج1 / ص115.

38- صحيح البخاري -البخاري- ج3 / ص207.

39- المستدرك -الحاكم النيسابوري- قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ج2 / ص155.

40- مسند احمد -احمد بن حنبل- ج2 / ص206،164، ج3 / ص91،22، ج4 ص199،197، ج6 / ص289.

41- صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج15 / ص554، السنن الكبرى -البيهقي- ج8 / ص189، المعجم الكبير -الطبراني- ج23 / ص363.

42- صحيح البخاري -البخاري- ج4 / ص60.

43- صحيح البخاري -البخاري- ج5 / ص104.

44- صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص184.

45- صحيح البخاري -البخاري- ج3 / ص80، ج4 / ص225،64،60، ج5 / ص104، ج8 / ص88،87.

46- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص109، ج6 / ص19.

47- مسند احمد -احمد بن حنبل- ج3 / ص171،167،166،111،57، ج4 / ص351،292،42، ج5 / ص304.

48- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص140، طريق آخر وصفه بالصحيح ج3 / ص142.

49- الإكمال في أسماء الرجال -الخطيب التبريزي- قال صححه الحاكم والذهبي ص68.

50- دلائل النبوة للبيهقي ج6 / ص440، البداية والنهاية- ابن كثير- ج7 / ص360.

51- البداية والنهاية- ابن كثير- ج7 / ص360، تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر- ج42 / ص447، تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي- ج11 / ص216.

52- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص142،140.

53- المعجم الكبير -الطبراني- ج11 ص61.

54- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص118.

55- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص118، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج26 / ص337، الكامل -عبد الله بن عدي- ج7 ص173، مسند أبي يعلى -أبو يعلى المو صلي- ج1 ص427.

56- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص139، مجمع الزوائد -الهيثمي- قال رواه البزاز والطبراني في الاوسط وأحد اسنادي البزاز رجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعيد ووثقه ابن حبان ج7 / ص238.

57- المعجم الكبير -الطبراني- ج4 / ص172.

58- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص140.

59- مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج3 / ص194.

60- مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج1 / ص397، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج5 / ص186. قال: رواه البزاز والطبراني في الأوسط وأحد اسنادي البزاز رجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعيد ووثقه ابن حبان، البداية والنهاية -ابن كثير- ج7 / ص338 أورد الحديث بطرق متعددة، أسد الغابة- ابن الأثير -ج4 / ص33.

61- النهاية في غريب الحديث -ابن الأثير- ج4 / ص60.

62- ضع يدك على ما شئت من كتب المؤرخين والمحدثين ممن تصدى للحديث عن هذه الوقائع.

63- سورة الفتح / 29.

64- سورة الفتح / 29.

65- سورة الفتح / 29.