﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ .. كيف صار شرطاً قبل صدوره؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

يقولُ اللهُ تعالى: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾(1) فالكلام من الملائكة يحتاج إلى إذن الحقِّ سبحانه، فكيف يأتي بعده فعل ماضٍ: ﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ هل هناك اتِّساق في البناء الزمني لأحداث الآية المباركة؟

 

الجواب:

يتَّضح الجواب بملاحظة سياق الآية المباركة فإنَّه يقتضي ظهورها في أنَّ ضمير الفاعل: ﴿لَّا يَتَكَلَّمُونَ﴾ ليس عائداً على خصوص الملائكة بل هو عائدٌ على جميع الخلق من الملائكة والإنس والجن المُستفاد من قوله تعالى في الآية التي سبقت هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾(2) فالمراد من الذين لا يتكلَّمون هم الذين لا يملكون خطاباً في الآية السابقة.

 

فجملة: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ بيانٌ لقوله تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾(3) ظرفٌ متعلِّقٌ بقوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾ فأهلُ السماوات والأرض لا يملكون خطاباً يوم يصفُّ الروح والملائكة أي أنَّه حين يصفُّ الروح والملائكة في مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة حينها لا يملك أهلُ السماوات والأرض خطاباً عند الله أي أنَّ أحداً منهم لا يملكُ أنْ يشفع أو أن يدعو أو شبه ذلك، فهم حينذاك لا يتكلَّمون إلا مَن أذن له الرحمن وكان هذا المأذون قد قال صواباً في الدنيا، فهذا الذي يأذن له الرحمن بالكلام والخطاب.

 

فمؤدَّى مجموع الآيتين هو أنَّ أهل السماوات والأرض لا يملكون عند الله خطابا، فهم لا يتكلَّم منهم أحدٌ في محضر القيامة حين تصفُّ الملائكة إلا مَن أذن له الرحمن وكان هذا المأذون قد قال صواباً في الدنيا، فقوله: ﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ شرطٌ في المأذون له بالكلام والخطاب. فالمأذون هو المستثنى، والمستثنى منه هم جميعُ أهل السماوات والأرض من الإنس والجن والملائكة، فليس فيهم من سيُؤذن له بالكلام في ذلك المشهد إلا مَن كان متَّصفاً منهم بأنَّه قد قال صواباً في الدنيا.

 

فليس المراد من قوله: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ هو أنَّ أحداً لا يتكلم إلا من اتَّصف كلامه بالصواب في ذلك المشهد أي أنَّه إذا قال صواباً يُؤذن له في أن يتكلَّم، فإنَّ هذا المعنى غير مرادٍ قطعاً من الآية، إذ أنَّ اتِّصاف الكلام بالصواب فرع وجود الكلام أولاً فكيف يجعل شرط الإذن بالكلام متوقِّفاً على أمرٍ لا يتحقَّق إلا بعد صدور الكلام؟! فحين يصدر الكلام يتَّصف بالصواب أو بعدم الصواب لذلك لا يمكن انْ يُجعل الإذن بالتكلُّم مشروطاً بوصفٍ لا يتحقَّق إلا بعد التكلُّم. ولهذا فإنَّ الظاهر من الآية أنَّ الإذن بالتكلُّم سوف يتحقَّق لمن توفَّر على شرط الإذن في مرحلةٍ سابقة على الإذن، فالذي سيُؤذن له بالكلام هو مَن قال صواباً في مرحلةٍ سابقة وليست هي إلا الدنيا، فمن كان قولُه صواباً في الدنيا أُذن له بالكلام يوم يصفُّ الروح والملائكة.

 

وبذلك يتَّضح الإتَّساق الزمني لأحداث الآية -بحسب تعبير السائل- فثمة عبادٌ لله تعالى كان قولهم صواباً في الدنيا، وثمة عبادٌ لم يكن قولهم كذلك وكلُّ هؤلاء يُجمعون يوم يصفُّ الروحُ والملائكة وكلُّهم لا يملكون عند الله تعالى خطاباً فلا يتكلمون باستثناء مَن يؤذن له منهم، ولا يُؤذن لأحدٍ منهم بالتكلُّم إلا إذا كان قوله في الدنيا صوابا، فإنَّ هؤلاء يُؤذَن لهم فيتكلَّمون، فالتكلُّم مشروطٌ بالإذن من الرحمن، والإذن مشروطٌ باتَّصاف قول العبد في الدنيا بالصواب.

 

وأمَّا لماذا لم تقل الآية وقال في الدنيا صوابا فذلك لوضوح المراد، فإنَّه بعد أنْ كان الفاعل للفعل الماضي "قال" هو المأذون وبعد ظهور الآية في أنَّ التكلُّم في مشهد القيامة مشروطٌ بالإذن فإنَّ من البديهي أن يكون تحقُّق القول الصائب من الفاعل المأذون في مرحلةٍ سابقة على الإذن وليس هناك مرحلةٌ تسبق مشهد القيامة إلا الدنيا، فهي المرحلة التي يصدر فيها القول فيكون إمَّا صائبا أو غير صائب. فالاستغناء عن ذكر الظرف الذي وقع فيه القول الصائب نشأ عن الوضوح.

 

وهنا احتمالٌ آخر لمفاد الآية وهو انَّ الخلائق بعد جمعهم -يوم تصفُّ الروحُ والملائكة- لا يملكون عند الله خطاباً فلا يتكلمون إلا مَن أذن له الرحمن بالكلام وسبق في علمه تعالى انَّه لن يقول بعد الإذن له بالكلام إلا صوابا.

 

فقوله تعالى: ﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ بناء ًعلى هذا الاحتمال بيانٌ لمن سيُؤذن له بالكلام، فالذي سيُؤذن له بالكلام في ذلك المشهد هو من عُلم أنَّه إذا تكلم قال صوابا، فظرفُ القول هنا وإنْ كان بعد الإذن إلا أنَّ اتَّصافه بالصواب كان محرَزاً في مرحلةٍ سابقة، فالصواب ليس هو شرط الإذن بالكلام حتى يُقال كيف يتَّصف الكلام بالصواب قبل صدوره بل إنَّ شرط الإذن بالكلام هو علم الله تعالى بصوابيَّة ما سيقوله المأذون ولذلك أُذن له بالكلام، وذلك في مقابل مَن سبَق في علم الله تعالى أنَّه إذا تكلَّم لم يقل صوابا.

 

وما قد يُقال لو كان هذا المعنى هو المراد من الآية لكان المناسب أنْ يُصاغ الفعل بصيغة المضارع فيقال لا يتكلَّمون إلا لمَن أذِنَ له الرحمن وأنَّه سيقول صوابا.

 

فجوابه إنَّ العدول عن صيغة المضارع إلى صيغة الفعل الماضي نشأ عن تنزيل المستقبل منزلة ما وقع في الماضي لإفادة حتميَّة وقوعه وأنَّه لن يتخلَّف، كما يتَّفق كثيراً أنْ يقول السلطان لأحد رعيته بعد أنْ يطلب منه قضاء حاجةٍ له، يقول له السلطان: قُضيتْ حاجتُك رغم أنَّها بعدُ لم تقضَ، فكان المناسب أنْ يقول: سأقضي حاجتك لكنَّه لوثوقه بالقدرة على قضائها ولأنَّ إرادته قد تعلَّقت بقضائها، ولأنَّه أراد طمأنة السائل بالاستجابة لهذا نزَّل ما سيقع في المستقبل منزلة الواقع، فكأنَّ الفعل قد تمَّ وقد أُنجز وأصبح شيئاً من الماضي، فالسلطانُ أراد من ذلك التعبير عن حتميَّة وقوعه في المستقبل.

 

فالمقام من هذا القبيل فلأنَّ الله تعالى قد سبَق في علمه وقضائه المُبرَم أنَّ هذا الذي سيُؤذن له بالكلام سيقول صوابا لذلك نزَّل ما سيقوله في المستقبل منزلة ما وقع في الماضي.

 

وهذا النحو من الاستعمال ورد كثيراً في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ / وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ / وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ / وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ / قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ / وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا ..﴾(4). 

 

فهذه الآيات تُخبر عن أحداثٍ ستقع عند وبعد قيام الساعة ولكنَّها صِيغت وكأنَّها قد وقعت في الزمن الماضي فأخبرت انًّه قد نُفخ في الصور وأنَّه قد صعق بعد النفخ كلُّ من في السماوات ثم وقع نفخٌ آخر في الصور فانبعث الخلق بعد موتهم وأشرقت الأرض بنور الله تعالى وأُحضر الأنبياء والشهداء وتمَّ القضاء بالحق بين العباد فنالت كلُّ نفس ما تستحقُّه ثم سِيق الذين كفروا إلى جهنم وهناك وقعت محاورة بينهم وبين خزَنةِ جهنم تمَّ فيها توبيخهم وبعدها قيلَ لهم ادخلوا أبواب جهنم وأما الذين اتَّقوا فساقوهم إلى الجنَّة. فكلُّ هذه الأحداث تمَّ صوغها على هيئة الفعل الماضي رغم انَّها لم تقع إلا انَّه لمَّا كان الغرض هو التعبير عن حتميَّة وقوعها في المستقبل صحَّح ذلك أنْ تُصاغ بهيئة الفعل الماضي لإفادة انَّ وقوع هذه الأحداث من القضاء المُبرم الذي لا ريب في تحقُّقه فهو باعتبار تحقُّقه في مستقبل الزمان بمثابة تحقُّقه في الزمان الماضي، فكما انَّ الفعل الذي وقع في الماضي لا يُمكن تغييره فكذلك هي الأحداث التي أخبرت هذه الآيات عن وقوعها في المستقبل فإنَّها غير قابلة للتغيير.

 

وبذلك يتضح -بناء على الاحتمال الثاني- منشأ قوله تعالى: ﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ فرغم انَّ الاتِّصاف بالصواب لا يُعرف إلا بعد صدور القول، إلا انَّ الله تعالى لما كان عالماً بما سيقوله المأذون وانَّه لن يقول إلا الصواب لذلك عبَّرت الآية بصيغة الفعل الماضي لإفادة انَّ علم الله تعالى غير قابلٍ للتخلُّف عن الواقع. 

 

والمتحصَّل أنَّ المراد من الآية المباركة بناءً على الاحتمال الثاني هو أنَّ أهل السماوات والأرض لا يتكلَّمون في محضر القيامة إلا من أذن له الرحمن ولن يأذن الرحمن إلا لمَن سبق في علمه أنَّه سيقول صوابا، ولأنَّ علمه تعالى لا يتخلَّف لذلك صحَّ أنْ يُصاغ الفعل بصيغة الماضي تعبيراً عن حتميَّة وقوعه، فاتِّصاف قول المأذون بالصوابٌ حتميٌّ بعد أنْ كان كذلك في علم الله تعالى.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النبأ / 38.

2- سورة النبأ / 37.

3- سورة النبأ / 38.

4- سورة الزمّر / 68-73.