هلاك قوم عاد في يومٍ أو ثمانية؟

شبهة مسيحي:

اختلفت آياتُ القرآن في مقدار الوقت الذي استغرقه العذاب الواقع من الله على قوم عاد، فسورةُ القمر ذكرت أنَّه يوم واحد، وأمَّا سورة فصِّلت فذكرت أنَّه امتدَّ لأيام، ومعنى ذلك أنَّها تزيد على اليوم واليومين ولا تقل عن ثلاثة، وأمَّا سورة الحاقَّة فذكرت أنَّه وقع في سبع ليالٍ وثمانية أيام، أليس ذلك من التناقض؟!

 

وأخيراً هل كان قوم عاد صرعى (واقعون على الارض) أم مثل أعجاز نخلٍ خاوية (واقفة)؟؟؟

 

الجواب:

لا تناقض بين التفصيل والإجمال

ليس بين الآيات المُشار إليها تناقض، وذلك واضحٌ لمَن له حظٌ من فهمٍ بالكلام العربي، فالآيةُ من سورة الحاقَّة، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ / سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾(1) متصدِّية لتحديد مقدار الوقت الذي استغرقه العذاب الواقع من الله تعالى على قومِ عاد، وقد أفادت أنَّه استغرق ثمانية أيام وسبع ليال، واليوم في استعمال العرب يُطلق ويُراد منه النهار، فعليه يكون العذاب قد بدأ وقوعه على قوم عاد نهاراً واستمرَّ إلى ثمانية أيام، فلو كان قد بدأ في يوم الأربعاء -كما أفادت ذلك بعض الروايات- فنهايته تكون في نهاية يوم الأربعاء الثانية أي أنَّه انقطع قبل دخول ليلة الخميس.

 

فتكون ليلة الخميس الأولى داخلة والثانية خارجة، وهذا هو معنى أنَّ العذاب امتدَّ سبع ليالٍ وثمانية أيام أي نهارات.

 

وأمَّا الآية من سورة فُصِّلت وهي قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ﴾(2) إلى قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾(3) فهي لم تتصدَ لتحديد مقدار الوقت -الذي استغرقه العذاب الواقع على قوم عاد- تفصيلاً إنَّما أفادت أنَّه وقع في أيامٍ وأجملتْ مقدار هذه الأيام، والأيام تصدق على ما لا يقلُّ عن الثلاثة ولا يزيد على العشرة أي أنَّ كلمة أيام تقع تمييزاً للعدد ثلاثة إلى العدد عشرة، فيصحُّ أنْ يُقال ثلاثة أيام، وخمسة أيام، وثمانية أيام، وعشرة أيام، ولا يصحُّ تمييز المفرد والمثنى بالأيام، ولا تمييز ما زاد على العشرة.

 

وعليه فعدم التنافي بين الآية من سورة فصلت والآية من سورة الحاقَّة واضح، لأنَّ الآية من سورة فصلت أفادت انَّ العذاب الذي وقع على قوم عاد إستغرق أياماً ولم تتصدَّ لبيان المقدار التفصيلي لهذه الأيام، وأما الآية من سورة الحاقَّة فتصدَّت لتفصيل ما أجملته الآية من سورة فصلت فأفادت انَّ تلك الأيام كانت ثمانية.

 

وهذا الأسلوب متعارفٌ في المحاورات العرفيَّة، فقد يتعلَّق غرض المتكلِّم ببيان التفصيل وقد يتعلَّق غرضه بالإجمال، فيُخبر الرجل عن نفسه انَّه سافر أياماً فيقول: سافرتُ إلى بغداد أياماً، ثم يُخبر في مجلسٍ آخر فيقول انَّه سافر إلى بغداد ثمانية أيام مثلاً، ولا يجد العرف المتلقِّي للخبرين تنافياً بينهما بل يرون الخبر الثاني مفسِّراً للخبر الأول.

 

بيان المُراد من الـ (يوم) في سورة القمر

وأما الآية من سورة القمر وهي قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ / إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾(4) فهي ليست متصدِّية لبيان مقدار الوقت الذي استغرقه العذاب الواقع على قوم عاد لا تفصيلاً ولا إجمالاً، بل هي بصدد الإخبار عن أنَّ العذاب قد وقع عليهم في وقت ما دون أنْ تتصدَّى لتحديد مقداره، فليس المراد من اليوم في الآية المباركة هو تلك القطعة الزمنية المتخلِّلة ما بين طلوع الشمس إلى غروبها بل المراد من اليوم هو الظرف الزماني الذي قد يطول وقد يقصر كما هو معنى قوله تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(5).

 

فإنَّ المراد من اليوم في هذه الآية ليس هو الزمن المستغرِق ما بين الشروق والغروب بل المراد منه وقتَ وُلد، ووقت يموت، ووقت يُبعث حيَّا، ووقت الولادة لا يستغرق تمام مابين الشروق والغروب بل هو لا يمتدُّ لأكثر من بضع ساعةٍ أو أكثر بقليل، وكذلك هو وقت الموت.

 

وكذلك هو معنى اليوم في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ﴾(6).

 

فمعنى الآية أنَّ الله تعالى جعل من جلود الأنعام مثل الإبل والبقر والغنم ما يصلح للإنتفاع به لصناعة بيوت متنقلة يُمكن حملها بيسرٍ ونصبها وقت النزول في طريق السفر، وكذلك يمكن الإنتفاع بها وذلك بنصبها على هيئة بيوت في وقت الإقامة بعد الوصول إلى المقصد.

 

فالآية المباركة أطلقت كلمة اليوم على وقت السفر الذى قد يطول فيمتدُّ لشهرٍ أو أكثر، فمجموع هذا الوقت سمَّته الآيةُ يوم الظعن "السفر"، وكذلك أطلقت كلمة اليوم على وقت الإقامة الذي يمتدُّ غالباً زمناً طويلا قد يتجاوز الشهور. فكلمة اليوم في الآية استُعملت وأُريد منها الوقت محضاً بقطع النظر عن أمدِه الذي قد يطول وقد يقصر، فهي ليست بصدد تحديده.

 

نماذج من استعمال الـ (يوم) بمعنى الوقت

هذا وقد استَعمل القرآنُ الكريم كلمة اليوم بهذا المعنى في مواضعَ كثيرة بحيث لو أردنا إستقصاءَها لخشينا السأمَ على القارئ، ولذلك سنذكر نماذج قليلة استئناساً:

 

النموذج الأول:

قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(7).

 

ففي هذه الآية استُعملت كلمة اليوم في غير القطعة الزمنيَّة الممتدَّة من شروق الشمس إلى غروبها بل استُعملتْ بمعنى الوقت الفعلي الممتدُّ ولكنَّه مبهمٌ من حيثُ المنتهى.

 

فمفاد الآية المباركة انَّ مؤمن آل فرعون يُحذِّر قومه فيقول لهم إنَّ لكم الملك والهيمنة على الأرض في هذا الوقت ولكن مَن ينصرُنا من بأس الله وعذابه لو قُدِّر فوقع علينا، فاستَعملت الآية كلمة اليوم في القطعة الزمنية الممتدة مابين كلام مؤمن آل فرعون إلى حين وقوع العذاب الذي لايعلم المتكلِّم متى يحين، فهو قد استَعملَ كلمة اليوم في مجموع هذا الوقت الذي سيتجاوز حتماً مابين الشروق والغروب إلى أمدٍ مبهم.

 

النموذج الثاني:

قوله تعالى: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ / اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾(8) فاليوم في هذه الآية المباركة أيضاً ليس بمعنى الوقت مابين الشروق والغروب بل هو الوقت الممتدُّ للأبد أو إلى المقدار الذي قُدِّر لهم أنْ يمكثوه في جهنَّم، وذلك أمرٌ بيِّنٌ مفروغٌ عنه، على أنَّه لو كان اليوم بمعنى الوقت مابين الشروق والغروب لكان من الميسور الصبر عليه -لا أقل في ظنِّهم- ولما صلح للتحذير والإنذار.

 

وهكذا هو المراد من اليوم في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾(10) فإنَّ الظاهر من الآيتين أنَّ المراد من العذاب العظيم والكبير هو عذاب جهنم الذي يقع بعد الحساب يوم القيامة، فيكون المراد من اليوم هو مدةُ المكث في جهنَّم.

 

النموذج الثالث:

قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾(11) وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾(12) وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(13) وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾(14).

 

فكلمة اليوم في هذه الآيات الأربع -ولها نظائر- استُعملت واُريد منها هذا الوقت، ففي هذا الوقت يئس اللذين كفروا من دينكم، وفي هذا الوقت اُحلَّ لكم الطيبات، وفي هذا الوقت أكمل اللهُ لكم دينكم ورضيَ لكم الإسلام ديناً، وفي هذا الوقت أعلن ملكُ مصر عن قراره بتمكين يوسف (ع) وجعله أميناً على شؤون دولته، فغرضُ الآيات هو بيان أنَّ هذه الشئونات المذكورة قد تمَّ وقوعها فعلاً، وأما أنَّه هل لهذه الشئونات امتدادٌ في عمود الزمن فذلك يُعرف من ملاحظة طبيعة كلِّ شأن من هذه الشئونات، وعلى كلِّ تقدير فكلمةُ اليوم لم تُستعمل في الوقت المتخلِّل مابين الشروق والغروب.

 

النموذج الرابع:

قوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾(15) إلى قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود﴾(16) ففي هذه الآية استعملت كلمة الليوم في الوقت الممتد إلى الأبد، حيث إنَّ ذلك هو معنى الخلود الذي وقع نعتاً لكلمة اليوم، فيكون اليوم قد استعمل في الوقت الذي له مبدأ وليس لأمده غاية ومنتهى.

 

النموذج الخامس:

قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ / مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾(17).

 

ففي هذه الآية استُعملتْ كلمة اليوم واُريد منها مجموع القطع الزمنية المتفرِّقة التي وقع فيها عذابٌ مشهودٌ من الله عزَّوجل على عددٍ من أقوام الأنبياء مثل قوم نوحٍ وقوم عادٍ وقوم ثمود واللذين من بعدهم، فأطلقت الآية على مجموع الأوقات المتفرِّقة- التي كانت ظرفاً للعذاب الواقع من الله- كلمة يوم الأحزاب، وهذا استعمال متعارَف في كلام العرب حيث تُطلِق على مجموع الوقت الذي يكون ظرفاً لحدثٍ عظيم كلمة يوم وإنْ إمتدَّ ذلك الوقت طويلاً، ولذلك اشتهر في كلمات المؤرخين والأدباء عنوان أيام العرب، ويُؤرخ تحت هذا العنوان الأحداث المشهودة والملاحم والحروب التي وقعت في الجاهلية ويُعبَّر عن كلِّ حدثٍ بيوم كذا رغم امتداده لوقتٍ ليس بالقصير بل إنَّ بعض هذه الأيام امتدَّ لأكثر من حول، فمن أيام العرب مثلا يوم النِسار، ويوم الفجار، ويوم بُعاث، ويوم ذي قار، وكذلك تعارف اطلاق لفظ اليوم على الحروب التي وقت في الإسلام، فيُقال مثلاً يوم صفين رغم أنَّ حرب صفين قد امتدَّت لسنة وشهور، ويوم القادسية للمعركة التي وقعت بين المسلمين والفرس، ويوم اليرموك للمعركة التي وقعت بين المسلمين والروم في الشام.

 

وقد استعمل القرآن ذلك أيضاً حيث قال: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ / ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾(18) فحنين منطقة تقع بين مكة الشريفة والطائف، وكانت موضعاً لحربٍ وقعت بين المسلمين وقبيلة هوزان والقبائل المتحالفة معها. وقد أطلق القرآن كلمة يوم حنين على مجموع الوقت الذي استغرقته غزوة حنين، والذي بدأ من حين تعبئة الرسول (ص) للمسلمين اللذين كان عددهم يربو على العشرة آلاف إلى حين وقوع الهزيمة عليهم ثم التعبئة لهم من جديد ومعاودتهم للحرب حتى وقوع النصر لهم وتمكُّنهم من أسر وسبي مايزيد على الألف من المشركين مضافاً إلى الغنائم التي قُدِّرت بأربعة آلاف من الماشية ثم تحصُّن من تبقَّى من المشركين في الجبال، كلُّ هذا الوقت الذي امتدَّ لأيام أطلق عليه القرآن كلمة يوم حنين.

 

هذا وقد عبَّر القرآن عن الأزمنة التي كانت ظرفاً لعقوبات الله تعالى على أقوام الأنبياء عبَّر عنها بأيام الله، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾(19).

 

فأيام الله التي أُمر موسى (ع) في الآية بأنْ يُذكِّر بها قومه ويُحذِّرهم من أنْ يُعاقبوا بمثلها هي مثل يوم الطوفان الذي وقع لقوم نوح والعذاب الذي أصاب قوم عاد والعذاب الذي أتى على قوم ثمود ويوم الظلَّة الذي أهلك قوم شعيب وكذلك ما وقع لقوم لوط وغيرهم من أقوام الأنبياء (عليهم السلام).

 

فكلُّ عقوبة إلهيَّة وقعت على هؤلاء الأقوام اللذين سبقوا موسى (ع) عبَّر القرآن عن ظرف وقوعها الزماني بيوم الله رغم أنَّ بعض هذه العقوبات امتدَّ وقتها لأكثر مما بين الشروق والغروب، فيوم الطوفان لم ينته إلا بعد وقتٍ مديد، وكذلك يوم الظلَّة.

 

خلاصة:

والمتحصَّل إنَّ لفظ اليوم يُستعمل كثيراً ويُراد منه غير اليوم الذي يحدُّ مبدأه الشروق ويحدُّ نهايته الغروب، وذلك يُعرف من ملاحظة سياق الكلام الذي استُعمل فيه لفظ اليوم أو ملاحظة القرائن المُتَّصلة بالكلام أو المنفصلة عنه، فلا يصحُّ البناء على إرادة الوقت المتخلِّل ما بين الشروق والغروب من لفظ اليوم قبل ملاحظة ما يقتضيه السياق أو تقتضيه القرائن المكتنفة بالكلام.

 

ولهذا قلنا بأنَّ الآية من سورة القمر لم تَستَعمِل لفظ اليوم في الوقت الذي يحدُّ طرفيه الشروق والغروب وإنَّما استعملته في إفادة معنى الوقت محضاً أي بقطع النظر عن حدِّه من حيثُ المبدأ والمنتهى، إذ أنَّ ملاحظة مساقها يقتضي ذلك، فهي لم تكن بصدد التحديد للمقدار الذي استغرقه العذاب الواقع على قوم عاد، وإنَّما كانت بصدد بيان نوع وكيفيَّة العذاب الذي وقع على قوم عاد لمَّا كذَّبوا نبيَّهم، إذ أنَّ الآية المذكورة جاءت جواباً للآية التي سبقتها وهي قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾(20) فأفادت في مقام جواب السؤال عن كيفية العذاب الواقع عليهم: إنَّ الله تعالى سلَّط عليهم ريحاً صرصراً في زمانٍ صار شديد النحوسة عليهم لعظم ما وقع فيه من البلاء.

 

فليس للآية غرضٌ في تحديد مقدار ذلك الزمان بل كان غرضها متعلِّقاً ببيان نوع العذاب بعد الإشارة إلى منشأ وقوعه، فمنشأ وقوعه هو تكذيبهم لنبيِّهم، وأما نوعه فهو انَّه تعالى سلَّط عليهم ريحاً شديدة البرودة شديدة الهبوب في ظرفِ وقتٍ مشؤومٍ عليهم لفرط قساوته ولاستمراره، قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ / إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾(21).

 

وعليه فحيثُ إنَّ مراد الآية من لفظ اليوم هو الوقت الذي وقع ظرفاً للعذاب بقطع النظر عن مداه لذلك لا تكون الآية منافية لما ورد في سورة الحاقَّة، لأنَّ الآية من سورة الحاقة كانت قد تصدَّت لبيان مقدار الوقت الذي استغرقه العذاب وأنَّه كان سبع ليال وثمانية أيام، وأمَّا الآية من سورة القمر فلم يكن ذلك مورداً لغرضها، لذلك لم تتصدَّ إلا للإشارة إلى أنَّ وقتاًما وقع ظرفاً للعذاب الذي أصابهم.

 

فليس بين الآيتين تنافٍ أصلاً، نظراً لكون إحداهما متصدِّية لبيان مقدار الوقت الذي كان ظرفاً للعذاب الواقع عليهم، وأمَّا الأخرى فهي ساكتة عن ذلك.

 

فنظير العلاقة بين الآيتين هو مالو قال القاضي: لقد حبسنا زيداً في طامورةٍ مظلمة عشر سنين، وقال في مجلس آخر: لقد حبسنا زيداً في طامورةٍ مظلمةٍ ردحاً من الزمن، فإنَّ العرف لا يجد تنافياً بين الخبرين، ذلك لأنَّ الخبر الثاني لم يكن غرضه متعلِّقاً ببيان مقدار الوقت الذي تمَّ فيه الحبس لزيد، وكان غرضه متمحِّضاً في بيان نوع العقوبة التي تمَّ إيقاعها على زيد وهي الحبس في طامورة مظلمة، ولذلك ذكر الوقت مهمَلاً دون بيان حدِّه، وهو معنى سكوته عمَّا تصدَّى الخبرُ الأول لبيانه، والعرف في مثل هذا الفرض مضافاً إلى أنَّه لا يجد تنافياً بين الخبرين يرى أنَّ الخبر المتصدِّي للبيان مفسِّراً للخبر الآخر الذي اقتضى غرضه الإهمال للبيان.

 

أخيراً .. من قال أنهم ماتوا وقوفا؟!

وأما أنَّ قوم عاد هل كانوا بعد موتهم صرعى متوسِّدينَ الأرض أم أنَّهم ماتوا وقوفاً؟

 

فالجواب هو أنَّهم كانوا بعد موتهم صرعى على صعيد الأرض كما قال تعالى: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى﴾(22) وليس في الآيات ما يُوهم أنهم ماتوا قياماً على أرجلهم، نعم توهَّمَ صاحب الشبهة أنَّ مفاد قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾(23) هو أنَّهم كانوا على هيئة القيام حال موتهم إلا أنَّ ذلك محض توهُّم.

 

ومنشؤه أنَّ النخلة قد يسقط سعفها فتبقى جذعاً قائماً لا رأس له، فهو قد توهَّم أنَّ الآيه تُشبِّه قوم عاد بعد موتهم بجذوع النخل القائمة بعد سقوط السعف عنها، فيكون ذلك مقتضياً أنَّهم ماتوا قياماً على أرجلهم إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، فالآية أولاً بيَّنت الحالة التي كان عليها قوم عاد حين موتهم فقالت: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى﴾ بعدئذٍ شبَّهتهم بأعجاز النخل الخاوية فقالت: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ وهذا يقتضي أنْ يكون المُشبَّه به هو جذوع النخل البالية التي هي واقعة على الأرض، لأنَّ ذلك هو المناسب لحال المشبَّه "صرعى".

 

على أنَّ الآية لم تصف أعجاز النخل بالواقفة حتى يُدَّعى منافاتها لتوصيف قوم عاد بالصرعى وإنَّما وصفت أعجاز النخل بالخاوية، ومعنى الخاوية هو النخِرة البالية، فالجذع الخاوي وإنْ كان قد يظلُّ قائماً بعد تساقط السعف عن رأسه ولكنَّ الجذع قد يُصبح خاوياً بعد اقتلاعه ورميه على الأرض فكلا الحالتين تتفقان للجذع، فما هو المعيِّن لإستظهار أنَّ الجذوع المُشبَّه بها في الآية هي الجذوع القائمة رغم أنَّ كلا الحالتين تتفقان للجذع البالي، على أنَّ الحالة الثانية وهي أنْ يُصبح الجذع بالياً بعد قلعه وسقوطه على الأرض أكثر وقوعاً، هذا مضافاً إلى أنَّ في الآية مايقتضي تعيُّن المراد في الحالة الثانية، فهي قد شبَّهت قوم عاد وهم صرعى بأعجاز النخل، وذلك معناه أنَّ المشبَّه به هو جذوع النخل المقتلَعة والمطروحة على الأرض، لأنَّ ذلك هو مقتضى التناسب بين المُشبَّه أعني قوله: "صرعى" وحال المشبَّه به وهي أعجاز النخل الخاوية.

 

تفسير الخاوية

وأما تفسيره الخاوية بالواقفة فهو من الجهل باللغة أو هو من تعمُّد التضليل لمَن لا فهم له باللغة، فإنَّ ذلك ليس من معاني الخاوية ولا هو من موارد استعمالها، فكلمة الخاوية في المدلول اللغوي تعني الفارغة، فالمعدةُ الخاوية هي المعدة الفارغة من الطعام، والنخلة الخاوية هي المجوَّفة التي انتخر وتآكل ما بداخلها من طلعٍ وعروقٍ ولُباب فأصبحت كالمجوَّفة، وهذا لا يتَّفق إلا بعد مضي زمنٍ على موتها، لذلك يُطلق وصف الخاوية على النخلة بعد ان تُصبح بالية نَخِرة.

 

ويُمكن أنْ يكون المراد من أعجاز النخل الخاوية هي أصول النخل المقتلَعة، ومنشأ التعبير عنها بالخاوية هو أنَّ مكانها يُصبح بعد إقتلاعها خاوياً خالياً منها.

 

وعلى كلا المعنيين يكون المشبَّه به في الآية المباركة هو النخل المقتلَع والمطروح أرضاً، أما بناءً على الثاني فواضح، إذ أنَّ وصف الخاوية إنَّما يُطلق علىالنخل المقتلَع المطروح أرضاً، وأما بناءً على المعنى الثاني فلأنَّ تشبيه الصرعى بأعجاز النخل البالية يقتضي أنْ يكون المراد منها خصوص المطروحة أرضاً، فحال المشبَّه وهو كلمة صرعى يكون قرينةً بيِّنة على ما هو المراد من حال المشبَّه به، وهذا أمرٌ متعارفٌ مأنوسٌ عند العقلاء وأهل المحاورة، فحينما يقال: هندٌ نضِرةٌ كالدرهم الفضِّي، ومن المعلوم انَّ للدرهم الفضِّي حالتين، الحالة الأولى يكون فيها الدرهم ناصعاً وضيئاً، والحالة الثانية يكون فيها الدرهم كَدِراً مُعتِماً لكثرة استعماله وتداوله في الأسواق، فأيُّ الحالين يقصد المتكلم تشبيه هندٍ به؟

 

إنَّ الوقوف على معرفة مراد المتكلم يتمُّ بملاحظة حال المشبَّه، فلأنَّ المتكلِّم وصف المشبَّه وهي هند بالنَضِرة فهذا يقتضي حتماً أنَّ مراده من المشبَّه به هو خصوص الدرهم الناصع الوضيئ وليس الدرهم الكدِر.

 

وهكذا هو الشأن في الآية المباركة، فإنَّها وصفت المشبَّه وهم قوم عاد بالصرعى، وهذا يقتضي أنَّ المراد من المشبَّه به هو خصوص أعجاز النخل البالية المطروحة أرضاً، لأنَّ ذلك هو المناسب لحال المشبَّه وهم قوم عاد الموصوفون بالصرعى.

 

ختام:

ويُؤكِّد ذلك رغم وضوحه ما ورد في سورة القمر، قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ / إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ / تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾(24) فوصفت المشبَّه به وهي أعجاز النخل بالمنقعِر أي المقتلَع من الأرض.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحية


1- سورة الحاقة / 6-7.

2- سورة فصلت / 15.

3- سورة فصلت / 16.

4- سورة القمر / 18-19.

5- سورة مريم / 33.

6- سورة النحل / 80.

7- سورة غافر / 29.

8- سورة يس / 63-64.

9- سورة الزمر / 13.

10- سورة هود / 3.

11- سورة المائدة / 3.

12- سورة المائده / 5.

13- سورة المائده / 3.

14- سورة يوسف / 54.

15- سورة ق / 31.

16- سورة ق / 34.

17- سورة غافر / 30-31.

18- سورة التوبة / 25-26.

19- سورة إبراهيم / 5.

20- سورة القمر / 18.

21- سورة القمر / 18-19.

22- سورة الحاقة / 7.

23- سورة الحاقة / 7.

24- سورة القمر / 21.