المتشابهات لا تنفي عن القرآن وصف المُبين

شبهة مسيحي:

يصف القرآن نفسه في سورة النحل بقوله: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾(1) والمُبين هو الذي لا يحتاج إلى تأويل ..!

لكنَّه يقول في سورة آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾(2) ويقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾(3) طيب مبين أو غير مبين، وكيف يكون مبيناً وقابلاً للتفسير وفيه آيات متشابهات؟

وإن لم يكن مُبيناً فما الجدوى من نزوله ومَن العارف بالتأويل، ومن يقول إنَّ هذا التأويل هو السليم، وماذا لو اختلفت التآويل؟؟؟

الجواب:

المحور الأول: المتشابهات لا تنفي صفة المبين

هذه الشبهة إنَّما ترد لو كان المراد من المتشابَه في الآية المباركة هو المجمل من الكلام الذي لا يُمكن الوقوف على مراد المتكلِّم منه، فحينئذٍ يمكن القول بأنَّه إذا كان في القرآن آياتٌ مجملة ولا يمكن الوقوف على ما هو المراد منها فذلك يقتضي أنْ لا يكون القرآن مُبيناً كما وصف نفسه.

إلا أنَّ هذا الفهم لمعنى المُتشابَه الوارد في الآية من سورة آل عمران خاطئٌ جداً وإنْ توهَّمه البعض، فليس في القرآن آيةٌ واحدة لا يمكن الوقوف على مفادها وما هو المراد الجدِّي منها، غايته أنَّ في القرآن آياتٍ كثيرة لا يُمكن الوصول إلى ما هو المراد منها بالنظر إليها مستقلَّة عن الآيات الأخرى أو عن القرائن التي يعتمدها العقلاء للتفهيم والتفهُّم، فهي لا تستقلُّ في الدلالة على ما هو المراد منها لكنَّ هذا المراد من هذه الآيات يُصبح ظاهراً بيِّناً عند ملاحظتها منضمَّةً إلى الآيات الأخرى البيِّنة في نفسها، أو عند ملاحظتها في سياق القرائن التي يعتمدها العقلاء في مقام التفهيم والتفهُّم.

فهذه الآيات التي لا يتبيَّن المراد منها عند ملاحظتها مستقلَّةً هي الآيات المُتشابهة، والآيات التي تكون بيِّنةَ المعنى في نفسها حتى مع قطع النظر عن الآيات الأخرى مثلاً هي الآيات المعبَّر عنها بالمُحكَمات أو بالآيات المُحكَمة.

فالآيةُ من سورة آل عمران تُرشد بعد تصنيف الآيات إلى محكمات ومتشابهات، تُرشد إلى أهمِّ وسيلةٍ من وسائل الوقوف على ماهو المراد الجدِّي من الآيات المتشابهة، وتُشنِّع على مَن يأخذ بما يظهر بدواً من الآيات المتشابهة دون الرجوع إلى الآيات المحكمة للتثبُّت ممَّا هو المراد الجدِّي منها، ولذلك وصفـت المحكمات من الآيات بأُمِّ الكتاب لأنَّها المرجع الأول للتعرُّف على ما هو المراد الجدِّي من الآيات المتشابهة.

فمعنى قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ هو أنَّ الآيات المحكمات هي الأصل والمركز الذي يلزم الرجوع إليه للتثبُّت ممَّا هو المراد من الآيات المتشابهة التي يكون مدلولها محتمِلاً لأكثر من معنى لو قُطع النظر عن الآيات المحكمة.

وعليه فاشتمال القرآن على المتشابه من الآيات لا ينفي عنه صفة المُبين، لأنَّ الكلام المتَّصف بالمُبين -بحسب اللغة والمتفاهم العرفي- هو الكلام الذي يكون معناه واضحاً والمراد منه ظاهراً بقطع النظر عن أنَّ الوضوح والظهور نشأ عن ملاحظة الكلام مستقَّلاً أو نشأ عن ملاحظته منضمَّاً إلى كلامٍ آخر للمتكلِّم نفسه كان قد اعتمده قرينةً على مراده من الكلام اللاحق أو نشأ عن ملاحظة قرائن أُخرى يعتمدها العقلاء المتكلِّمون للتفهيم والتفهم.

مثالٌ للتوضيح:

فحين يقول البائع للمشتري: بعتُك داري بألف دينار، وكان للبائع أكثر من دار فإنَّ كلامه لو لُوحظ مستقلاً فإنَّه لا يكون واضحاً، لأنَّه يحتمل في نفسه أكثر من معنى، ولكنَّ المشتري لو سُئل عن كلام البائع هل هو واضح لكان جوابه: بنعم، وكذلك لو سُئل الحاضرون مجلس البيع هل كان كلام البائع واضحاً لكان جوابهم بالإيجاب أيضاً، وذلك لأنَّ المشتري قد تقاول مع البائع في يومٍ سابق على دارٍ معيَّنة، وكذلك فإنَّ الحاضرين مجلس البيع كانوا قد سمعوا البائع والمشتري يتقاولان على تلك الدار دون سائر دوره أو أنَّه كان قد أخبرهم بأنَّ سائر دوره غير هذه الدار أوقفها على ذريته، لذلك استظهر الجميع من قول البائع للمشتري: بعتُك داري بألف دينار أنَّه أراد تلك الدار المعيَّنة ووصفوا كلامه بالبيِّن والواضح رغم أنَّه ليس كذلك لو كان قد لُوحظ مستقلاً، وكذلك فإنَّ البائع إنَّما سكت عن توصيف الدار التي أنشأ عليها البيع، فلم يأتِ بما يُميِّزها عن سائر دوره إعتماداً على كلامٍ سابق له.

مثالٌ آخر:

وهكذا لو أنَّ قانوناً في الأحوال المدنيَّة لدولةٍ من الدول مشتملاً على المواد التالية:

1- لايحقُّ للطبقة الثانية والثالثة من أقرباء الميِّت أنْ يرثوا من تركته شيئاً مع وجود واحدٍ من الطبقة الأولى.

2- يحقُّ لأولياء القتيل التنازل عن القصاص من الجاني والمطالبة بالدية.

3- إذا إرتكب الصبيُّ جنايةً فإنَّ الدية يستحقُّها المجنيُّ عليه أو أولياؤه على العاقلة.

فإنَّ هذه المواد الثلاث ليست بيِّنة لو لُوحظت مستقلَّةً إلا أنَّه ونظراً لإشتمال القانون على موادَّ أخرى تصدَّت لبيان معنى الطبقة الأولى والثانية والثالثة، وتحديد معنى أولياء القتيل، وتفسير معنى العاقلة وبيان حدودها فإنَّ أحداً لا يصحُّ له نفي وصف الوضوح عن القانون لمجرَّد إشتماله على مثل هذه المواد التي لا يُمكن إستظهار المراد منها دون الرجوع إلى موادَّ أخرى من نفس القانون بل لا يصحُّ وصف هذه المواد بالمجملة بعد أنْ كان الوصول إلى ماهو المراد منها مُتاحاً وبعد أنْ كان المشرِّع للقانون قد اعتمد في بيان مراده من هذه المواد على ما بيَّنه في موادَّ أُخرى، فهذه المواد رغم عدم إستقلالها في الإفادة لما هو المراد منها لكنَّها تُوصف بالواضحةِ المعنى بعد ملاحظتها منضمَّةً إلى ما اعتمده المتكلِّم في بيان مراده.

القرآن اعتمد وسائل التفهيم العقلائية

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ إعتماد المتكلِّم في بيان مراده من كلامه الفعلي على كلامٍ له سابق أمرٌ متعارفٌ يعتمده العقلاء في تفهيم مراداتهم، فهم لا يُفصِّلون في كلِّ مرة مفردات كلامهم بل يعتمدون في ذلك على ماكانوا قد بيَّنوه في كلامٍ لهم سابق ويقتصرون في كلامهم اللاحق على مالم يتم إيراده في الكلام السابق، ولولا ذلك لإحتاج المتكلِّم في كل مرةٍ إلى شرح كلِّ مفردةٍ من كلامه وماذا يقصد منها.

وكذلك يعتمد العقلاء في تفهيم مراداتهم على وسائل عديدة منها القرائن العقليَّة والقرائن العقلائيَّة والقرائن الحاليَّة، ومنها المتفاهم العرفي، ومنها الكلام الذي صدر من المتكلِّم في كلامٍ له سابق، ومنها ما سوف يأتي به من إيضاح في كلامٍ له لاحق رأى من المناسب إرجاءه ثم ضمَّه بعد ذلك إلى كلامه السابق، فكلُّ هذه وسائل عقلائية يعتمدها المتكلِّمون والمشرِّعون والمعلِّمون في بيان مراداتهم، والقرآن الكريم جرى في تفهيم مراداته وفق الوسائل المعتمدة لدى العقلاء، ولذلك فإنَّ آيات القرآن -كما هو كلام العقلاء- منها ما لا يحتاج الفهم لمدلولها والمراد منها لأكثر من النظر في ألفاظها وتراكيبها، ومنها الآيات المحتمِلة في نفسها لأكثر من معنى ولكنَّها بيِّنة المراد عند ضمِّها إلى آياتٍ أخرى أو عند ملاحظتها في إطار الوسائل العقلائية المعتمَدَة في التفهيم والتفهُّم، وهذه هي التي عبَّرت عنها الآية من سورة آل عمران بالمتشابهات.

خلاصة

والمتحصَّل إنَّ إشتمال القرآن على الآيات المتشابهة لا ينفي عن القرآن صفة المُبين بعد إتَّضاح أنَّ المراد من المتشابهات ليس هو ما توهَّمه صاحبُ الشبهة من أنَّها الآيات المجملة التي لا يمكن الوقوف على مفادها والمقصود منها بل المراد من الآيات المتشابهة هي الآيات التي لا تكون بيِّنة المعنى بنفسها، فهي في نفسها محتمِلة لأكثر من معنى ولكنَّها إذا لُوحظت منضمَّةً إلى الآيات الأخرى أو إلى القرائن التي يعتمدها العقلاء في مقام التفهيم والتفهُّم فإنَّها تُصبح بيِّنة المعنى، لذلك فإنَّه ليس في القرآن ما لا يُمكن الوصول إلى معناه.

المحور الثاني: فهم القرآن و تفسيره و تأويله

هل فهم القرآن متاح؟

الوصول إلى معاني آيات القرآن ليس متعسِّرأ بل هو ميسورٌ كما أفاد ذلك قوله تعالى في أربعة مواضع من سورة القمر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾(4) نعم لا يُتاح لأحدٍ فهم معاني آياتِ القرآن دون تدبُّر، ولذلك أوصى القرآن في مواضع كثيرة بالتدبُّر في آياته كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(5) وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾(6) فلو لم يكن الوصول إلى معاني القرآن مُتاحاً فما جدوى الأمر بالتدبُّر في آياته؟على أنَّ الآية الثانية واضحة في أنَّ الإختلاف البدْوي بين بعض الآيات الناشئ عن كون بعضها من المتشابهات أي التي تحتمل في نفسها أكثر من معنى، هذا الإختلاف يزول بالتدبُّر، وذلك لا يتم لولا أنَّ التدبُّر يُنتج الوصول إلى المرادات الجدِّية لمطلق الآيات، فالآيات إمَّا محكمة فهي بيِّنة في نفسها فلا تكون منشأً لتوهُّم الإختلاف، وإمَّا متشابهة وهي التي تحتمل في نفسها أكثر من معنى، فهذه هي التي تكون منشأً لتوهُّم الإختلاف، فهي إذن المعنيَّة في الدرجة الأولى بالتدبُّر الرافع لتوهُّم الإختلاف، فالآية واضحةٌ في أنَّ الآيات المتشابهة مما يُمكن الوصول إلى مراداتها الجدِّية ولكن بالتدبُّر، نعم لا يُتاح لأيِّ أحدٍ أن يتدبَّر آيات القرآن ما لم يملك أسباب التدبُّر فغير العارف مثلاً بعلوم اللغة العربيَّة من النحو والصرف وعلم المعاني والبيان والبديع لا يُتاح له التدبُّر المُفضي لفهم آيات القرآن المحكمة فضلاً عن المتشابهة، وكذلك فإنَّ غير العارف بأصول الكلام ووسائل الإستظهار والتفهيم المعتمدة لدى العقلاء وعند أهل المحاورة لا يسعه التدبُّر المُنتِج للوصول إلى فهم كلِّ معاني آيات القرآن، فالقرآن نزل بلغةٍ لها ضوابطها وأُصولها واعتمد طريقة العقلاء في إيصال مراداته لذلك فمن البديهي انْ لا يصل أحدٌ إلى مرادات القرآن إذا لم يكن واجداً لأسباب الوصول فإذا توفَّر الإنسان على أسباب التدبُّر ثم استفرغ وسعه وأعطى التدبُّر حقَّه فإنَّ معاني الآيات المتشابهة فضلاً عن المحكمة سوف تكون في متناول فهمه، فليس في القرآن ما هو عصيٌّ على الفهم.

والذي يُؤكِّد أنَّه ليس في القرآن أيةٌ مجملة بنحو لا يُمكن الوصول إلى ما هو المراد منها أنَّ القرآن عرض نفسه على انَّه كتاب هداية وليس كتاب طلاسم وألغاز قال تعالى: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ﴾(7) وقال تعالى: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ / هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(8) فكلُّ آيات الكتاب لها شأنيَّة الإيصال للهداية، وكذلك عرضَ نفسه على أنَّه حجَّة على العباد فهو حجَّة على المشركين واليهود والنصارى ومطلق الكافرين والمنافقين والفساق كما هو حجَّةٌ على المؤمنين، وذلك يقتضي أنْ تكون آياته بيِّنة لمن أرد تبيُّنها وإلا لم يكن حجَّة، وذلك ما يُؤكِّد أنَّه لم يقصد من توصيف بعض الآيات بالمتشابهة أنَّها مجملة يتعذَّر أو يتعسَّر الوصول إلى مفادها ومرادها الجدي.

ومن ذلك لا يبقى لتساؤل صاحب الشبهة عن جدوى نزول الآيات المتشابهة محل فإنَّ الغرض من نزول الآيات المتشابهة هو عينُه الغرض من نزول الآيات المُحكمَة وهو الإيصال للهداية وبيان المعارف الإلهيَّة والشرائع الدينيَّة، ذلك لأنَّ الوصول إلى ماهو المراد من كلِّ آيات القرآن أمرٌ ممكنٌ ومتاح، فهي جميعاً قابلة للتفسير، وليس كما توهَّمه صاحب الشبهة من أنَّ الآيات المتشابهة عصيَّةٌ على الفهم والتفسير، فإنَّ ذلك ليس هو معنى الآيات المتشابهة كما اتَّضح مما تقدم.

ضابطةُ فهم القرآن

وأما ضابط الوصول للفهم السليم لآيات القرآن فهو اعتماد الوسائل التي اعتمدها القرآن في إيصال مراداته، فالقرآن كان يُخاطب العقلاء عموماً، وكان قد اتَّخذ اللغة العربية وسيلةً لإيصال مراداته، ولذلك فمَن أراد الفهم لمرادات القرآن فإنَّ عليه أنْ يكون محيطاً بعلوم اللغة العربية وأُصولها وقواعدها، وكذلك لابدَّ وأنْ يكون عارفاً بأصول الكلام وأساليب الخطاب وضوابط التفهيم والتفهُّم عند العقلاء، فحينذاك سوف يكون فهمه واستظهاراته لمعاني الآيات سليماً، ووقوع الخطأ منه أو من غيره المعتمِد للضابط المذكور سوف يكون محدوداً ومتعارفاً، وسوف يكون الخطأ حين يقع ناشئاً عن غفلةٍ أو جهلٍ بوجود قرينةٍ لم يلتفت لها أو لم يعلم بها أو ناشئاً عن نسيانٍ لقاعدةٍ أو أصلٍ من أصول اللغة أو الكلام أو ناشئاً عن تسامحٍ وقلةِ تدبُّرٍ في موردٍ من الموارد أو ناشئاً عن تسرُّب العنصر الذاتي -دون إلتفات- المانع غالباً عن الفهم الموضوعي المعتمِد على الضوابط اللغويَّة والعقلائيَّة، فكلُّ ذلك يتَّفق للباحث عن فهم آيات القرآن ولكنَّ ذلك كلَّه لايكون موجباً لكثرة الخطأ واتَّساع الإختلاف في الفهم.

الاختلاف في تفسير القرآن

نعم يكثر الخطأ عند المفسِّرين والباحثين ويتَّسع الخلاف بينهم إذا حكَّموا مذاهبهم وأهواءهم، فما نجده من الإختلاف الواسع بين المفسِّرين ليس منشؤه إجمال الآيات أو صعوبة الوصول إلى مراداتها بل إنَّ منشأ ذلك هو تحكيم المتمذهبين وأصحاب الأهواء لآرائهم وأهوائهم وتجيير آياتِ القرآن لما يُناسب متبنياتهم، فهم لا يبتغون من البحث في آيات القرآن الوصول إلى ما هو المراد منها وإنَّما يبتغون من ذلك الإنتصار لمذاهبهم، لهذا فهم يحملون آيات القرآن على أفهامهم التي قصدوا من البحث في الآيات تشييدَها والإنتصارَ لها، وتلك هي مصيبةُ المسلمين، ولذلك حذَّر الرسول (ص) وأهل بيته (ع) من تفسير القرآن بالرأي، فهو منشأ الخلاف الواسع بين المفسِّرين، ولو انَّهم تجردوا عن أهوائهم وإعتمدوا الوسيلة التي إعتمدها القرآن لإيصال مراداته لما كثُرَ الخطأ ولما إتَّسع الإختلاف.

المراد من نفي العلم بالتأويل

وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾(9) فمعناه أنَّ أحداً غير الله تعالى والراسخين في العلم لا يُدرك مآلات المعاني المستفادة من آيات القرآن الكريم، فمفادات القرآن ومعانيه ومراداته وإنْ كان متاحاً -لكلِّ من تدبَّر آياته- فهمُها وإدراكُها ومنها تكون الهداية وبها يكون الإحتجاج ولكن هذه المعاني والمرادات المدرَكة بواسطة ألفاظ الآيات وسياقاتها ليست هي تمام الواقع بل إنَّ لهذه المعاني والمرادات القرآنيَّة مناشئ ومغزىً وملاكات، ولها منطبقات وتجليات خارجية وعواقب وآثار، فهذه هي التي لا يُحيط بعلمها إلا الله ومَن أودعهم الله تعالى أسرار آياته وهم اللذين وصفتهم الآية بالراسخين في العلم كالرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع).

فليس المراد من نفي العلم بتأويل القرآن أو تأويل ما تشابه منه هو نفي العلم بمفادات القرآن ومعاني آياته أو بعضها بل المراد من الآية هو نفي العلم بمآلات هذه المعاني وهذه المرادات، وهذا هو المدلول اللغوي والعرفي لمعنى التأويل، فالتأويل مشتقٌ من الأوْل وهو يعني الرجوع، فمآل الشيئ مرجعه وأصله، فإذا قيل آلت الإبل إلى مرابضها فمعنى ذلك انَّها رجعت إلى مقارِّها، ومِن ذلك إطلاق كلمة الآل على قرابة الرجل لأنَّهم أصله وإليهم يعود نسبُه.

مثالٌ للتوضيح:

وهكذا حينما يصدر عن السلطان أمرٌ بقتل زيد فيُقال: ماهو مآل هذا الأمر السلطاني، فإنَّ السؤال هنا ليس عن مدلول ومعنى الأمر ومتعلَّقه وموضوعه فإنَّ كلَّ ذلك واضح، فإنَّ معنى الأمر هو الطلب بنحو الإلزام ومعنى متعلَّقه وهو القتل واضح أيضاً وهو إزهاق الروح وكذلك فإنَّ موضوع الأمر وهو زيد واضح أيضاً، فالأمر ومتعلَّقه وموضوعه بيِّنُ المعنى إلا أنَّ الذي ليس بينِّاً ولا يعلم عنه السائل هو المغزى من هذا الأمر والمنشأ لصدوره من السلطان، وما هو الملاك الذي يرجع إليه هذا الأمر. ففرقٌ بين السؤال عن معنى الشيء والسؤال عن مآله وتأويله، فالأول سؤالٌ عن المفاد والمؤدَّى والمراد، والثاني سؤالٌ عن المِلاك والمغزى والسِرِّ الكامن وراء هذا الشيء.

وهكذا هو الحال بالنسبة لآيات القرآن، فتارةً يكون البحث والسؤال عن معانيها وأخرى يكون السؤال عن مآلاتها، فالسؤال عن معانيها سؤالٌ عن مفاداتها ومؤدَّيات ألفاظها وتراكيبها وما هو المراد منها، وذلك يُعرَف من ملاحظة الألفاظ وتراكيبها وسياقتها والقرائن المعتمَدة عقلائياً في التفهيم، وأما السؤال عن مآلاتها فهو سؤالٌ عن مغزاها والمِلاكات التي ترجع معاني هذه الآيات إليها والمنشأ الذي كان سبباً في إيراد هذه المعاني، وهذا لا يمكن الوصول إليه بواسطة ذات الألفاظ والسياقات والقرائن الكاشفة عن المعاني، فالكاشف عن المعاني والمرادات ليس هو عينُه الكاشف عن مآلاتها، وكثيرا ما تكون المعاني بيِّنة واضحة ولكن تأويلها يكون مبهماً للمخاطب والمشاهد.

نماذج قرآنية لبيان المراد من التأويل

أولاً: موسى (ع) وتأويل الخضر (ع)

ولذلك فإنَّ موسى (ع) في الواقعة الشهيرة التي وقعت له مع العبد الصالح "الخضر" كان واضحاً لديه تفصيلاً ما كان قد فعله الخضر (ع)، فهو قد شاهده وهو يخرق السفينة التي كانت لمساكين، وشاهده وهو يقتل الغلام، وشاهده وهو يُقيم الجدار في قريةٍ أبى أصحابها أنْ يُضيِّفوهما، فما فعله الخضر (ع) كان مشهوداً لموسى (ع) إلا أنَّ الذي لم يكن يعلم به موسى (ع) هو المغزى من هذه الأفعال، فكان سؤاله عن تأويل هذه الأفعال، ولذلك فإنَّ الخضر بعدما أوضح لموسى (ع) المغزى والملاك الذي نشأ عنه خرق السفينة التي كانت لمساكين والمِلاك الذي نشأ عنه قتل الغلام وإقامة الجدار بعد أن أوضح له مِلاكات هذه الأفعال قال: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾(10).

فالذي كان يسأل عنه موسى (ع) لم يكن هو طبيعة ما كان يفعله الخضر فإنَّ ذلك كان واضحاً بيِّناً، والذي لم يكن واضحاً هو المنشأ والملاك الكامن وراء هذه الأفعال، وهذا ما فهمه الخضر (ع) من سؤال موسى المتكرر، ولذلك أجابه الخضر بقوله: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾(11) فالتأويل هو ما كان ينتظره موسى (ع) من الخضر فهو الذي لم يكن مفهوماً عنده، وحين بدأ الخضر بالتأويل وجدناه قد تصدَّى لبيان المِلاكات الكامنة والباعثة على ما كان قد فعله ثم وصف هذه المِلاكات بقوله: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ وهذا ما يكشف عن أنَّ المراد من التأويل ليس هو البيان لطبيعة الفعل الذي صدر عن الخضر وإنَّما هو البيان للسرِّ الكامن وراء ما ظهر من فعله.

ثانياً: يوسف (ع) و تأويل الأحاديث

وكذلك فإنَّ القرآن أفاد بأنَّ الله تعالى قد منح يوسف (ع) تأويل الأحاديث واعتبر ذلك ميزةً اختصَّ بها يوسف(ع) عن سائر الناس وأنَّها ثمرة إجتباء الله تعالى له، فلو كان التأويل للأحاديث معناه القدرة على فهم الأحاديث ومداليلها لما كان ذلك ميزةً يمتاز بها يوسف (ع) عن سائر الناس ولما ناسب أنْ تكون ثمرةً لإجتباء الله تعالى له، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾(12) وقد امتنَّ الله تعالى عليه بهذه الميزة التي منحها إياه وجعلها مساوقةً لتمكينه من مِلْك مصر قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾(13) وقد كان يوسف (ع) يشكر ربَّه على أنْ منحه هذا الإمتياز كما منحه ملْك مصر: ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ﴾(14) كلُّ ذلك يؤكد أنَّ علم يوسف (ع) بتأويل الأحاديث ليس بمعنى فهمه لمداليل الأحاديث وإنَّما هو بمعنى علمه بمآلات الأحاديث والتي منها العلم بتعبير الرؤى، فإنَّ الرؤية تكون واضحة للرائي وإذا قصَّها على أحدٍ فإنَّه يتصورها وكأنَّه قد رآها بعينه إلا أنَّ الذي لا يفهمه الرائي ولا مَن حدَّثه برؤيته هو المغزى من تلك الرؤية والحقائق الكامنة وراء تلك الصور التي شاهدها في المنام.

فرؤية الملك البقراتِ العِجاف يأكلن بقراتٍ سِمان واضحة لدى الرائي وواضحة لمن قصَّ عليهم رؤيته إلا أنَّ الذي لم يكن واضحاً هو السِرُّ الكامن وراء هذه الصورة المشاهدَة من المَلِك، وحين عبَّر يوسف (ع) هذه الرؤية لم يكن لتعبيره إتصال بدلالات هذه الصورة المشاهدة من المَلِك، فليس بين البقرات العجاف وسنين القحط ربطٌ ظاهر يفهمه العقلاء ويعتمدونه، كما ليس للبقرات السِمان وسنين الرخاء ربطٌ ظاهر وإلا لما تحيَّر الملك والملأ اللذين إستفتاهم في تأويلها فما وجد عند أحدٍ منهم جواباً، وكذلك ليس بين حمل الخبز على الرأس وبين قتل الرجل وصلبه وأكل الطير من رأسه ربطٌ ظاهر، ولو كان ثمة إشعار فهو خفيٌّ جداً لا يفهمه العقلاء، وذلك ما يُؤكد أنَّ التأويل لا ربط له بمداليل الألفاظ والسياقات والقرائن العقلائيَّة، فهو لا يُعرف إلا ممَّن أورد هذه المعاني أو أحدث صورها في الذهن.

الجهل بالتأويل لا يُساوق الجهل بالقرآن

وهكذا هو التأويل لآيات القرآن فهو غير مرتبطٍ بمداليل ألفاظ الآيات والوصول إليه لا يتمُّ بملاحظتها وملاحظة السياقات والقرائن العقلائيَّة المكتنفة للألفاظ، ولذلك لا يكون الجهل بالتأويل مساوقاً للجهل بمعاني الآيات ومراداتها، فالتأويل كما أوضحنا ليس بياناً لمعاني الآيات ومراداتها حتى يكون الجهل به جهلا ًبالمعاني وإنَّما هو بيانٌ للحقائق الكامنة وراء هذه المعاني أو التي هي منشأ لإيراد هذه المعاني أو التي ستتنهي إليها هذه المعاني، فعدم العلم بذلك لا يعني عدم العلم بمعاني الآيات وماهو المراد منها، فحين أفادت الآية من سورة آل عمران أنَّ القرآن أو ما تشابه منه لا يعلم تأويله إلا الله فإنَّ العلم المنفي عن غير الله هو العلم بأسرار الآيات وهي الملاكات التي ترجع إليها معاني الآيات وكانت منشأ لإيرادها، وأما المعاني للآيات وما هو المراد منها فذلك ما لم تتصدَّ الآية من سورة آل عمران لنفيه عن غير الله والراسخين في العلم وتصدَّت الآيات الكثيرة لإفادة أنَّ فهمها وإدراكها متاحٌ لكلِّ أحد تدبَّر آيات القرآن.

خلاصة

وبما ذكرناه من معنى التأويل يتَّضح أنَّ إدراكه والإحاطة به مما لا يُتاح لغير مَن أفاد هذه المعاني فهو الذي أورد هذه المعاني فهو إذن وحده الذي يعلم بمِلاكاتها ومناشئ إيرادها والحقائق الكامنة وراءها، ولا سبيل للإطلاع على ذلك، إذ الألفاظ التي تصدَّت للكشف عن المعاني لا تصلح للكشف عن الملاكات، وليس في البين قاعدة منضبطة يمكن التوصُّل بها إلى ما وراء المعاني، فمآلات المعاني القرآنية هي من مكنون الغيب التي لا يعلم بها إلا مَن أوحاها ومَن أطلعهم عليها -وهم الرسول (ص) وأهل بيته- لذلك فمن تأوَّل آيات القرآن من حدسه فهو ممن يرجم في الغيب ويقول على الله تعالى ما لا يعلم.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة


1- سورة النحل / 103.

2- سورة آل عمران / 7.

3- سورة آل عمران / 7.

4- سورة القمر / 17، سورة القمر / 22، سورة القمر / 32، سورة القمر / 40.

5- سورة محمد / 24.

6- سورة النساء / 82.

7- سورة الحجر / 1.

8- سورة النمل / 1-2.

9- سورة آل عمران / 7.

10- سورة الكهف / 82.

11- سورة الكهف / 78.

12- سورة يوسف / 6.

13- سورة يوسف / 21.

14- سورة يوسف / 101.