عصا موسى في الطور وعند فرعون

شبهة لمسيحي:

ورد في القرآن في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء عن موسى: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِين﴾(1) مع انَّه ورد في سورة النمل: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾(2) وكذلك ورد مثلها في سورة القصص. ففي الأولى أصبحت العصا ثعباناً، وفي الثانية هي مجرد عصا تهتزُّ كأنَّها جان .. والعصا المهتزة بالطبع ليست ثعباناً أليس كذلك..؟

 

الجواب الأول: إختلاف المورد:

يتبيَّن الوهن في هذه الشبهة بمجرد الإلتفات إلى أنَّ مورد الآيتين من سورة الأعراف والشعراء مختلفٌ عن مورد الآيتين من سورة النمل والقصص.

 

المورد الأول: عند فرعون:

فمورد الآية من سورة الأعراف هو حين طالب فرعون موسى (ع) ببرهانٍ على دعواه النبوة، فحينذاك ألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين، قال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ / حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ / قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ / فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾(3).

 

وكذلك هو مورد الآية من سورة الشعراء، قال تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(4) إلى أن قال: ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ / قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ / قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ / قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ / فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾(5).

 

المورد الآخر: في جانب الطور:

وأما المورد الذي وُصفت فيه الحيَّة المنقلبة عن العصا بأنَّها تهتزُّ كأنها جانٌّ فهو حين كان موسى في طريقه إلى مصر مع أهله فوجد ناراً فقال لأهله إنِّي آنست ناراً، وكان ذلك في جانب الطور الأيمن قُبيل تكليفه بالرسالة، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ / فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ / يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ / وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُون﴾(6).

 

وكذلك هو مورد الآية من سورة القصص، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ / فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ / وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ﴾(7).

 

ما المانع في إختلاف العصا في الموردين؟!

فإذا كان مورد الآيتين الأوليين مختلفاً عن مورد الآيتين الأُخريين من سورتي النمل والقصص فأىُّ محذورٍ في إختلاف الحال الذي صارت إليه عصا موسى (ع)، نعم لو كانت الآيات تُنبأ عن حدثٍ واحد ورغم ذلك اختلفت الحال الذي صارت إليه عصا موسى (ع) لكان الإشكال متَّجهاً إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك، فالآيتان من سورتي الأعراف والشعراء تتحدثان عمَّا وقع للعصا في محضر فرعون حينما كان موسى (ع) بصدد البرهنة على صدق دعواه.

 

ففي تلك الواقعة أخبر القرآن عن صيرورة العصا ثعباناً مبيناً، وأما وصف القرآن للحيَّة المنقلبة عن العصا بأنَّها تهتزُّ كأنَّها جانٌّ كان في ظرفٍ آخر وواقعةٍ أُخرى حينما كان موسى في جانب الطور الأيمن وقد آنس ثمةَ ناراً فقال لأهله امكثوا إنِّي آنست ناراً، في ذلك الموضع نادى الجليل جلَّ وعلا موسى بقوله: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ / وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُون﴾(8).

 

وليس بمستغربٍ على الله تعالى أنْ يجعل من العصا في ظرفٍ ثعباناً مبيناً عظيماً وأنْ يجعل منها في ظرفٍ آخر حيَّةً تهتزُّ كأنَّها جان.

 

العصا كان لها أكثر من أثر:

بل إنَّ القرآن قد أخبر عن الله تعالى أنَّه جعل للعصا أكثر من أثرٍ إعجازي، فبها قد إنفلق البحرُ فكان كل فرق كالطود العظيم كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(9).

 

وكذلك فإنَّ الله تعالى قد أمر موسى (ع) حين إستسقاه قومه أنْ يضرب بعصاه الحجر فإنفجرت منه إثنتى عشرة عيناً، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾(10) فأيُّ محذورٍ في أنْ تكون لعصا موسى (ع) آثارٌ وحالاتٌ إعجازية مختلفة. هذا أولاً.

 

الجواب الثاني: الحذف والإيجاز:

وثانياً: إنَّ قول مُورِد الشبهة أنَّ العصا التي تهتز ليست ثعباناً فيه تشويشٌ على ما هو المراد من الآية المباركة، فالموصوف بالإهتزاز ليس هو العصا وإنَّما هي الحيَّة المنقلبة عن العصا بقرينة ماورد في آيات أُخرى تصف ذات الواقعة قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى / إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى / فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى / إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى / وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(11) إلى انْ قال تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى / قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى / قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى / فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى / قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾(12).

 

فقوله تعالى: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾(13) فيه إيجاز وحذف يقتضيه الحال وتقديره -كما أفاد الطبرسي مجمع البيان- "وألقِ عصاك فألقاها فصارت حيىَّة تهتز كأنها جان" والحذف و الإيجاز إذا كان مناسباً لمقتضى الحال بأنْ كان معلوماً لمتلقِّي الخطاب أو أقام المتكلم قرينة على إرادته كان ذلك من أوجُه البلاغة التي قد لا يُدركها مُورِد الشبهة لقصوره عن إدراك تصاريف الكلام العربي.

 

مثالٌ آخر على أسلوب الحذف والإيجاز:

هذا وقد استعمل القرآن الكريم إسلوب الحذف والإيجاز في موارد كثيرة لا تخفى على مَن له حظٌ من فهمٍ للأُسلوب القرآني، ولنذكر مثالاً على ذلك، وهو قوله تعالى مخاطباً موسى وهارون: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ / أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(14) ثم قال تعالى مباشرة: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾(15) أي قال فرعون لموسى ألم نربك فينا وليداً، فهنا القرآن لم يذكر لنا أنَّ موسى (ع) بعد التكليف الإلهي ذهب إلى فرعون وكلَّمه وأخبره بأنَّه رسولٌ من ربِّ العالمين بل تصدَّى مباشرةً لبيان جواب فرعون لموسى، وما ذلك إلا لكون الكلام المحذوف مفهوماً بمقتضى السياق، فكان الحذف والإيجاز في مثل المقام هو الأنسب بأوجُه البلاغة من الإطناب.

 

وهكذا هو الحال بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾.

 

وجه تشبيه العصا بالجانِّ:

على أنَّ الآية المباركة إشتملت على قرينةٍ يُعرف منها قصد صيرورة العصا حيَّةً تسعى، وذلك لأنَّه تعالى قد شبهها بالجان، والجانُّ هي الحيَّة السريعة في حركتها، فكانت الحيَّة المنقلبة عن العصا كبيرةً في حجمها إلا انَّها مثل الجان في سرعة حركتها.

 

فطبيعة الحيَّة ذات الحجم الكبير هو البطئ في الحركة إلا أنَّ الحيَّة المنقلبة عن عصا موسى (ع) كانت بقدرة الله تعالى سريعة الحركة لذلك تمَّ تشبيهها بالجان للتعبير عن سرعة إهتزازها وحركتها ولتكون أكثر ظهوراً في أنَّ ذلك شأنٌ إعجازيٌّ مدبَّرٌ مباشرةً عن الله تعالى، ولأنَّها كانت كذلك فإنَّ موسى لما رآها ولَّى تلقائياً مدبْراً ولم يعقِّب.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحية


1- سورة الأعراف / 107.

2- سورة النمل / 10.

3- سورة الأعراف / 104-107.

4- سورة الشعراء / 16.

5- سورة الشعراء / 28 -32.

6- سورة النمل / 7-10.

7- سورة القصص / 29 -31.

8- سورة النمل / 9 -10.

9- سورة الشعراء / 63.

10- سورة الأعراف / 160.

11- سورة طه / 9 -13.

12- سورة طه / 17 -21.

13- سورة النمل / 10.

14- سورة الشعراء / 16 -17.

15- سورة الشعراء / 18.