الحروفُ المقطَّعة لا تنفي عن القرآن وصف المُبين
شبهة مسيحي:
وصفَ القرآنُ نفسه في سورة النحل بقوله: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾(1) لكنَّه كم من الآيات ما هو ليس مُبيناً مثل (الم، ألر، كهيعص، طه .. الخ)، فهل هذا مُبين يا ترى؟؟
الجواب:
تمهيد:
إنَّ نفيَ صفةٍ عن شيءٍ لا يصحُّ إلا في فرض قابليَّة ذلك الشيء للاتَّصاف بتلك الصفة، وأمَّا في فرض عدم قابليَّة ذلك الشيء للاتَّصاف بتلك الصفة فإنَّ نفيها عنه يُعدُّ بنظر العقلاء والمناطقة غلطاً، فوصفُ الحكيم لا يصحُّ نفيه عن الحيوان فيُقال: إنَّ هذا الحيوان ليس حكيماً، وكذلك لا يصحُّ أنْ يُقال هذا الجدار ليس حكيماً، وذلك لأنَّ كلاً منهما ليست له القابليَّة للاتَّصاف بوصف الحكيم حتى يصحَّ نفيُ هذا الوصف عنهما، وهذا بخلاف الإنسان فإنَّه حيث كان قابلاً للاتَّصاف بوصف الحكيم لذلك يصحُّ نفي هذه الصفة عنه في فرض عدم تلبُّسه بها.
وكذلك هو الشأن في نفي وصف المُبين عن شيءٍ فإنَّه لا يصحُّ إلا في فرض قابليَّة ذلك الشيء لأنْ يُوصف بالمُبين، فمثل الكلام الموضوعة ألفاظُه لمعنىً لمَّا كان قابلاً لأنْ يكون مُبيناً لذلك يصحُّ نفي وصف المُبين عنه في فرض إجماله وتحمُّله لأكثر من معنى، فقابليَّة الكلام لأنْ يكون مُبيناً هو الذي صحَّح نفي صفة المُبين عنه في فرض إجماله وعدم وضوحه.
وأمَّا الشيء غير القابل لأنْ يُوصف بالمُبين فإنَّه لا يصحُّ نفيُ وصف المُبين عنه، فالحجر مثلاً لمَّا لم يكن قابلاً للاتَّصاف بالمُبين لذلك لا يصحُّ نفي وصف المُبين عنه فيُقال: هذا الحجر غير مُبين.
ما هو الموصوف بـ (المُبين)؟
ومع إتَّضاح هذه المقدِّمة يتَّضح أنْ وصف المُبين في مثل قوله تعالى: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ لا يتناول الحروف المقطَّعة التي تصدَّرت عدداً من سور القرآن، لأنَّ الحروف المقطَّعة ليس لها قابليَّة الاتصاف بوصف المُبين لذلك لا يصحُّ نفي هذا الوصف عنها، فهي إذن غير مقصودة من هذا الوصف أساساً.
فوصفُ المُبين إثباتاً ونفياً إنَّما يصحُّ إطلاقه على الكلام الموضوع للدلالة على معنى، فهذا الكلام تارةً يكون واضح الدلالة على معناه فحينئذٍ يُوصف بالمُبين، وتارةً تكتنف الكلام الموضوع لمعنىً بعضُ الملابسات فيُصبح مجملاً أي محتمِلاً لأكثر من معنى عند المخاطَب فهذا الكلام يصحُّ نفي وصف المُبين عنه لأنَّه قابلٌ لأنْ يكون مُبيناً ولكنَّه اتَّفق إجماله فصحَّ سلبُ صفة المُبين عنه.
الحروف المقطَّعة لا هي متشابهة و لا موضوعة لمعنى:
وأمَّا الحروف المقطَّعة فهي لم تُوضع أساساً للدلالة على معنىً من المعاني، لذلك فهي غير قابلة للاتَّصاف بالمُبين حتى يصحَّ نفي وصف المُبين عنها في فرض إجمالها، فالحروفُ المقطَّعة في أيِّ حالٍ فُرضت ليس لها معنى، ولذلك فهي لا تُعدُّ من الآيات المتشابهة أيضاً لأنَّ الآيات المتشابهة هي الآيات التي لها معنى ولكنَّها لا تستقلُّ بالدلالة عليه بل لابدَّ من الرجوع إلى آياتٍ أخرى أو إلى القرائن المكتنِفة بالآية للوقوف على ما هو المراد الجدِّي منها كما أوضحنا ذلك مفصَّلاً في بحث: "المتشابهات لا تنفي عن القرآن وصف المبين".
فالآيات المتشابهة لها معنى في نفسها إلا أنَّ وسيلة الوقوف عليه يكون بمراجعة الآيات الأخرى والقرائن المكتنِفة لها والمعتمَدة لدى العقلاء، وأمَّا الحروف المقطَّعة فلم تُوضع لمعنىً أساساً، لذلك فهي كما لا تُوصف بالبيِّنة كذلك فهي لا توصف بالمتشابهة وبغير البيِّنة، فالذي يصحُّ وصفه بكلا الوصفين هو الكلام الموضوع للدلالة على معنى، فإنَّه تارةً يكون ظاهراً في معناه، وتارةً يكون مجملاً، لذلك يصحَّ وصفه في الفرض الأول بالمُبين ويصحَّ نفيُ وصف المُبين عنه في الفرض الثاني.
وصف القرآن بالمُبين لا يُنقض عليه بالحروف المقطَّعة
ومن ذلك يتبَّين أنْ وصف المبين لا يتناول الحروف المقطَّعة، فهي غير معنيَّة بهذا الوصف أساساً لعدم قابليَّتها للاتَّصاف به أو بعدمه، ولهذا لا يصحُّ النقض على مثل قوله تعالى: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ بالحروف المقطَّعة وإنْ كانت الحروف المقطَّعة من آيات القرآن، فالمقام أشبهُ شيءٍ بوصف السراج بالمنير، فإنَّ هذا الوصف لا يتناول مثل فتيلة السراج ولا يتناول وقوده أو زجاجته، وذلك لعدم قابليتها للاتَّصاف بوصف المنير، ولذلك لا يصحُّ النقض على هذا التوصيف بأنَّ فتيلة السراج ووقوده وزجاجته ليست منيرة، فإنَّ هذه الأجزاء وإنْ كانت من السراج إلا أنَّها ليست معنيَّة بوصف المنير لعدم قابليَّتها للاتَّصاف بوصف المنير أساساً حتى يصحَّ سلب هذا الوصف عنها، فوصف السراج بالمنير يكون صحيحاً وغير منتقِض وإن كانت بعض أجزائه غير قابلة للاتَّصاف بوصف المنير، وكذلك فإنَّ وصف القرآن بالمُبين صحيح وغير منتقِض وإنْ كان من آياته الحروف المقطَّعة غير القابلة للاتَّصاف بالمبين، نعم يُمكن الإدِّعاء بصحَّة النقض لو كانت بعض آيات القرآن -التي لألفاظها ومركباتها معنى- غير مُبينة، وذلك لأنَّها قابلة للاتصاف بهذا الوصف، فتكون مقصودة من توصيف القرآن بالمبين، فلو اتَّفق أنْ لم تكن واجدةً لصفة المُبين فإنَّه يمكن النقض بها على توصيف القرآن نفسه بالمُبين إلا أنَّه ليس في آيات القرآن التي هي من هذا القبيل والتي هي كلُّ القرآن ماعدا الحروف المقطَّعة ليس فيها ما يصحُّ سلب وصف المُبين عنها، فهي جميعاً واجدةً لوصف المُبين كما أوضحنا ذلك في بحث: "المتشابهات لا تنفي عن القرآن وصف المبين".
والمتحصَّل أنَّ الحروف المقطَّعة التي تصدَّرت عدداً من سور القرآن لا تصلح نقضاً على وصف المُبين الذي وصف به القرآنُ نفسه، لأنَّ الحروف المقطَّعة ليست معنيَّة ولا مقصودة من هذا الوصف أساساً.
مزيدُ توضيح:
وبتعبير آخر: إنَّ المراد من وصف القرآن ومطلق الكلام بالمُبين هو أنَّه واضح المعنى، وهذا يقتضي أنْ يكون له معنى حتى يتأهَّل لوصفه بالمُبين تارةً وبغير المبين تارةً أخرى، وأمَّا إذا لم يكن ثمة معنىً يكشف عنه اللفظ لأنَّه لم يُوضع أساساً للكشف والدلالة على معنىً من المعاني فما هو الشيء الذي يُوصف حينئذٍ بالمُبين أو غير المبين؟ فألفاظ الحروف المقطَّعة ليست دالَّة ولا كاشفة عن معنىً من المعاني حتى يصحَّ وصف هذه الدلالة وهذه الكاشفيَّة بالبيِّنة تارة وبغير البينة تارةً أخرى. ومن هنا قلنا إنَّ وصف المبين الوارد في مثل قوله تعالى: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ مختص بالآيات التى لألفاظها ومركَّباتها معنىً وُضعت للدلالة عليه، وهذه الآيات هي كلُّ القرآن ما عدا آيات الحروف المقطَّعة التى هي أربعة عشر حرفاً تكرَّر بعضها وتصدَّرت تسعة وعشرين سورةً من سِوَر القرآن، وذلك في مقابل أكثر من ستة آلاف ومائتين آية بيِّنة.
إشكالٌ جانبي:
ولو قيل إنَّه إذا لم يكن للحروف المقطَّعة معنىً قد وُضعت له فإنَّ إيرادها في مطلع هذا العدد من السور يُعدُّ من العبث!!
الجواب:
فإنَّ جواب ذلك هو أنَّنا لم نقل أنَّ إيراد الحروف المقطَّعة لم تكن له غايةٌ وغرض حتى يُتوهَّم استلزام ذلك لعبثيَّة إيرادها في مطلع عددٍ من السور، نعم نحن قلنا إنَّ الحروف المقطَّعة ليست موضوعة لمعنىً من المعاني ولذلك لا يصحُّ وصفها بالمُبين أو سلب وصف المُبين عنها إلا أنَّ عدم كون الحروف المقطَّعة موضوعةً لمعنىً من المعاني لا يقتضي صيرورة ذكرها بلا غايةٍ وغرضٍ عقلائي، فهي وإنْ كانت غير موضوعةٍ لمعنىً إلا أنَّه كثيراً ما يتَّفق اقتضاء العديد من الغايات العقلائية لذكرها وتدوينها، فالعقلاء مثلاً يستعرضون حروف الهجاء لغرض التعليم أو التنويه على أنَّ هذه هي الحروف التي تتألف منها مفردات الكلام العربي أو يذكرونها لغرض التثبُّت أو التصنيف لمخارجها الصوتيَّة أو بيان كيفيَّة رسمها أو غير ذلك من الغايات العقلائيَّة، فكونُ هذه الحروف غير موضوعةٍ لمعنى لا يُلغي وجود غاياتٍ عقلائيَّة لذكرها وتدوينها، ولذلك لايصحُّ الحكم بعبثيَّة ذكرها أو تدوينها حين صدورها عن عاقلٍ مُلتفِت حتى لو فُرض عدم الإدراك لما هو غرض هذا العاقل من ذكرها، فمجرَّد عدم الإدراك لطبيعة غرض العاقل من فعله لا يُصحِّح بنظر العقلاء الحكم بعبثيَّة فعله وإلا ساغ لكلِّ أحدٍ الحكم بسفهيَّة ما يفعله الآخرون لمجرَّد عدم الوقوف على غاياتهم مِمَّا فعلوه، ولكان على كلِّ أحدٍ يخشى من الاتَّهام بالعبثيَّة والسَفَه أنْ يكشف لكلِّ الناس عن الغايات والأغراض التي نشأت عنها أفعالُه، وهذا ما لا يلتزم به منصفٌ يحترم عقله، فما عليه العقلاء هو أنَّهم حين يقفون على فعلٍ صدر عن عاقلٍ ملتفِت وكان هذا الفعل ممَّا يُحتمل في مثله صدوره لغرضٍ عقلائي، إنَّ ما عليه العقلاء في مثل ذلك هو أنَّهم يستظهرون وجود غرضٍ عقلائي نشأ عنه صدور هذا الفعل حتى وإنْ كانوا لا يعرفون تحديداً ما هو ذلك الغرض، وإنْ لم يستظهروا ذلك فلا أقل من أنَّهم يُحجِمون، فلا يحكمون على فعله بالعبثيَّة، نعم لو كان الفعل ممَّا لا يُتعقل في مثله الصدور عن غرضٍ عقلائي فإنَّهم يحكمون بعبثيَّته دون تحرُّج خصوصاً إذا أساؤوا الظنَّ بفاعله. وأمَّا في فرض كون الفعل الصادر مما يُحتمل في مثله الصدور عن غرضٍ عقلائي كما في المقام فإنَّ الحكم بعبثيِّته يكون مجافياً لما عليه بناء العقلاء.
والذي يُؤيِّد تفهُّم أعداء الإسلام في صدر الدعوة من المشركين وعرب اليهود وغيرهم لوجود غايةٍ عقلائية من ذكر الحروف المقطَّعة هو سكوتهم عن التسفيه لذلك رغم حرصهم الشديد على التصيُّد لأيِّ ثغرة يُمكن توظيفها للطعن على الإسلام والقرآن، فهم لم يرتأوا أنَّ ذكر الحروف المقطَّعة في فواتح السِوَر ممَّا يصحُّ الطعن به على القرآن، وذلك ما يُعبِّر عن إدراكهم لوجود غايةٍ عقلائيِّة من ذكرها.
الغاية من ذكر الحروف المقطَّعة في القرآن
وكيف كان فالمستظهَر من حال القرآن نظراً لكونه نزل متحدِّياً الإنس والجن عموماً والعرب المتميِّزين بالفصاحة والبلاغة على نحو الخصوص أنْ يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سورٍ مثله أو حتى بسورةٍ مثله، فإنَّ المستظهَر عند ملاحظة ذلك هو أنَّ من غايات إيراده للحروف المقطَّعة هو الإشارة إلى أنَّ هذا القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بسورةٍ من مثله يتألَّف من حروفٍ هي في متناول أيديكم تستعملونها في خطاباتكم ومحاوراتكم وأشعاركم، فآياتُ القرآن لم تُؤلَّف مفرداتُها وتراكيبها من غير الحروف التي هي مأنوسةٌ عندكم، فعجزُكم عن صياغتها بالنحو الذي صِيغ عليه القرآن ينبغي أنْ يكون منبِّهاً لكم على انَّ هذا القرآن لا يصدر عن رجلٍ نشأ في بيئتكم وأخذ اللغةَ عنكم، ولم يكن له من مصدرٍ تجهلونه كان قد نهِل منه كلَّ هذه المعارف التي تجدونها فيما يتلوه عليكم من قرآن.
فالغاية من إيراد الحروف المقطَّعة هو تأكيد التحدِّي والتذكير به فيما بين الفينة والأخرى، فحتى حينما هاجر النبيُّ (ص) إلى المدينة كان عليه أنْ يُذكِّر بهذا التحدِّي ويُؤكِّده ويُنبِّه مثل اليهود ومشركي الجزيرة على أنَّه قد مضى على صدور التحدِّي بالقرآن مايزيد على العقد من الزمن ولم يتسنَّ لأحدٍ أنْ ينقضه، وكذلك يُنبِّه على أنَّ هذا التحدِّي سيظلُّ سارياً أبد الدهر، فمَن وجد نفسه أهلاً لكسر هذا التحدِّي فليتقدَّم منفرداً كان أو مُستظهِراً بمَن شاء وفي أيِّ وقتٍ شاء، فهذه هي إحدى الغايات من إيراد الحروف المقطَّعة في فواتح عددٍ من سور القرآن.
فاستعراض القرآن للحروف المقطَّعة في فواتح عددٍ من السور أشبهُ شيء بما يفعله بعض المتميِّزين في صياغة الأشكال الهندسيَّة فترى أحدهم يأتي في مجمعٍ من المشاهدين وهو يحمل معه عدداً من الأعواد الخشبيَّة أو النحاسيَّة ثم يأخذ في عرضها للتأكيد على أنَّها مجرَّد أعواد متاحٌ لكلِّ أحدٍ تناولها، ثم يبدأ فيُشكِّل من هذه الأعواد صورةً هندسيَّة رائعةً ومعقَّدة فينبهر من روعتها وتعقيدها وبساطة مكونِّها المشاهدون، ثم يعود فيُفكِّك تلك الهيئة الهندسيَّة ويبدأ بعدها بتشكيل هيئةٍ هندسيَّةٍ أُخرى لا تقلُّ في روعتها وتعقيدها عن الأولى، وهكذا يفعل مرةً بعد أُخرى، وفي كلِّ مرةٍ يستعرض الأعواد ليُؤكِّد على أنَّ هذا الشكل الهندسي الذي سوف يصوغه مؤلَّفٌ من هذه الأعواد التي هي في متناول الجميع.
كذلك هو عرض القرآن لبعض حروف الهجاء في فواتح عددٍ من السور القرآنيَّة، فإنَّ الغاية من ذلك هو التنبيه على أنَّ هذا القرآن الذي أعيى فحول الشعراء وأرباب البيان أن يأتوا بسورةٍ مثله مؤلفٌ هذه الحروف التي هي في متناول الجميع.
هذا الإسلوب مُتَّبع في القرآن الكريم
هذا وقد استعمل القرآن الكريم ذات الأسلوب للتنبيه على عظمة الله جلَّ وعلا فيما خلَق، فأفاد في بعض الآيات أنَّ ممَّا يسترعي التنبُّه والتبصُّر هو أنَّ قطع الأرض المتجاورات المتكوِّنة من تربةٍ ذات خاصيَّةٍ واحدة وتُسقى بماءٍ واحد فيكون الناتج عن ذلك جناتٍ مليئةً بالزروع المختلفةِ الأشكال والخصائص والمُنتِجة لثمراتٍ مختلفةِ الألوان والمذاق والآثار، فمَن الذي أضفى عليها هذه الألوان التي تأخذ -من بهجتها- بالأبصار؟ ومن أين جاءت لها هذه الطعوم المتباينة في مذاقها وأثرها؟ ومَن الذي صوَّر هذه الثمرات على هذه الهيئات البديعة؟ وكيف صارت هذه الثمرات غذاءً يتناسب وحاجات الإنسان والحيوان؟ فليس في البين سوى تربةٍ ذات خاصيَّةٍ واحدة وماءٍ ابتلعته هذه التربة قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(2).
وكذلك قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾(3) فترابٌ كانت هي المادة التي تخلَّقتم منها فكيف صِيغت صوركم وألوانكم وصار لكم أنْ تنتشروا باختياركم في الأرض تُفكِّرون وتتحدَّثون وتسمعون وتُبصرون وتأكلون وتشربون وتتناسلون، ثم لو تأمَّلتم جوارحكم وما اشتملت عليه أبدانكم من بدائع الخلق من عظامٍ وعصَبٍ وعروقٍ وأوردةٍ وشرايين وأجهزةٍ مختلفة الوظائف متقنة الأداء إذن لأذعنتم أنَّ الذي خلقكم من ترابٍ ليس كمثله شيءٌ في عظمته وجليلِ قدرته.
فالتنويه بمبدأ الخلق وبساطته فيه تنبيهٌ على أنَّ الله تعالى يخلق المعجزاتِ القاهرات من بسائط الأشياء ومحقَّراتِها، كذلك هو الله تعالى نظم القرآن الذي لا يُطاول ولا يُحاول من حروفٍ هي أبسط ما يكون في النطق والحفظ والتركيب فأنَّى تُؤفكون وكيف تُكابرون؟!
ما يُؤيِّد الغاية المزبورة:
والذي يؤيِّد أنَّ غايةً من غايات القرآن في إيراده للحروف المقطَّعة هو التنبيه على أنَّ القرآن الذي أعجز المتربِّصين من ذوي الجدال والخصومة عن مجاراته قد صِيغ من هذه الحروف التي هي في متناول الأيدي، الذي يُؤيِّد إرادته التنبيه على ذلك هو أنَّ أكثر سور القرآن التي تصدَّرتها هذه الحروف تعقَّبتها الإشارة إلى أنَّ هذا هو القرآن أو تلك هي آيات القرآن، فكأنَّه أراد من ذلك التنبيه على أنَّ هذا القرآن قد تمَّت صياغتُه من هذه الحروف، وللتثبُّت من ذلك نتيمَّن بنقل عددٍ من هذه الآيات:
منها: قوله تعالى: ﴿الم / ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(4).
ومنها: قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾(5).
ومنها: قوله تعالى: ﴿طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾(6).
ومنها: قوله تعالى: ﴿طسم / تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾(7).
ومنها: قوله تعالى: ﴿الم / تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(8).
ومنها: قوله تعالى: ﴿حم / عسق / كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(9).
ومنها: قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(10).
ومنها: قوله تعالى: ﴿طسم تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾(11).
فهذه الآيات وكذلك أكثر التي لم نذكرها والتي تصدَّرتها بعض حروف الهجاء قد تعقَّبها التنويه بالقرآن أو آيات القرآن أو الوحي بالقرآن كما هو مُلاحَظ مِمَّا نقلناه، وذلك يُؤيِّد أنَّ الغرض من ذكر هذه الحروف هو التنبيه على أنَّ هذا القرآن الذي عجزتم عن مجاراته مؤلَّفٌ من هذه الحروف المتداولة بينكم، فعجزُكم عن الإتيان بمثله دليلٌ قاطع على أنَّه من عند الله جلَّ وعلا.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
من كتاب شبهات مسيحيَّة
1- سورة النحل / 103.
2- سورة الرعد / 4.
3- سورة الروم / 20.
4- سورة البقرة / 1-2.
5- سورة يونس / 1.
6- سورة النمل / 1.
7- سورة القصص/ 1-2.
8- سورة السجدة / 1-2.
9- سورة الشورى / 1-3.
10- سورة هود / 1.
11- سورة يوسف / 1.