التشبيه في آية النور
شبهة مسيحي:
يقول القرآن في سورة الشورى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(1) وهو يعنى أنَّ الله سبحانه لا مثيل له، ليس كمثله إيُّ شيء .. ثم يقول عن الله في سورة النور: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾(2) وهنا يُمثِّل القران الله بمشكاة ومصباح .. وإنْ قالوا المقصود نور الله وليس الله نفسه قلنا: إنَّ بداية الآية تذكر أنَّ الله نفسه هو نور السموات والأرض أي المقصود بالنور هو الله نفسه.
الجواب:
بيانُ المراد من آية النور:
لا ريب في ظهور قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ أنَّ المشبَّه هو نور الله تعالى وليس ذاته جلَّ وعلا، فنورُ الله مثَلُه كمثل المشكاة وليس ذات الله تعالى، والآية صريحةٌ في ذلك حيث قالت: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ ولم تقل مثل ذاته.
وأمَّا أنَّه تعالى وصف نفسه في صدر الآية بأنَّه نور السماوات والأرض فهو لا يعني أنَّ ذات الله عزَّوجل هي نور السماوات والأرض أو أنَّها كمثل السماوات والأرض بل المراد من قوله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو أنَّ الله عزَّ وجل منوِّر السماوات والأرض بمثل الشمس والقمر لو كان المراد من النور هو النور المادِّي، وهو الهادي لمَن في السماوات والأرض لو كان المراد من النور هو النور المعنوي.
الوجه في إسناد النور إلى الله تعالى:
فالتنوير -على أيِّ تقدير- للسماوات والأرض هو فعل الله تعالى، وليس هو ذاته جلَّ وعلا، وإسناد النور إلى الله تعالى هو من إسناد الفعل إلى فاعله، ومساق قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو مساق قوله في مثل سورة فاطر: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(3) إذ أنَّ إسناد إسم فاطر إلى الله تعالى هو من إسناد الفعل -فطَرَ- إلى فاعله، وكذلك هو إسناد إسم الخالق إلى الله تعالى فإنَّه من إسناد الفعل إلى فاعله، ولذلك يُعبَّر عن مثل إسم الفاطر والخالق والرازق والبارئ والمصوِّر وشبهها، يُعبَّر عن مثل هذه الأسماء بالصفات الفعليَّة لله جلَّ وعلا، والصفاتُ الفعليَّة ليست من صفات الذات وإنَّما هي من صفات أفعاله جلَّ وعلا.
بحث في المراد من النور:
1- النور بمعنى الضياء:
والذي يُؤكِّد أنَّ النور هو من فعل الله تعالى وليس عيناً لذاته ولا هو وصف لها قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾(4) فالنور في صريح الآية من جعل الله تعالى، والجعل يعني الخَلْق والإيجاد من العدم والذي هو من الفعل، وعليه فالنور شأنُه في ذلك شأن الإنسان وغيره من سائر المخلوقات، فكما عبَّر القرآن عن خلق الإنسان وإيجاده بالجعل فكذلك عبَّر في هذه الآية عن خلق النور وإيجاده بالجعل قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(5) فالنور كالإنسان مجعولان لله تعالى، وذلك يقتضي المباينة التامَّة بين ذات الله تعالى وبين النور لوضوح أنَّ الجاعل غير المجعول والخالق غير المخلوق. هذا لو كان المراد من النور هو الضياء.
2- النور بمعنى الهداية:
وأمَّا لو كان المراد من النور هو الهداية كما هو مستعملٌ كثيراً في القرآن الكريم فإنَّ معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو أنَّه الهادي للسماوات والأرض أي أنَّه الذي بعث الهداية في السماوات والأرض وما فيها ومَن فيها(6) كما في قوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(7).
فالنور لو كان بهذا المعنى فهو فعلٌ أيضاً من أفعال الله تعالى، كما هو واضحٌ جداً ويُّؤكِّده مقتضى التعبير في آياتٍ كثيرة من القرآن أنَّ الله تعالى يهدي وأنَّه هدى، وعبَّر عن النور بمعنى الهداية أنَّه جاء من عند الله كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾(8)، وعليه فليست الهداية هي عينُ ذات الله تعالى ولا هي وصفٌ لذاته جلَّ وعلا وإنَّما هي وصفٌ لفعله عزَّ جل، فيكون شأنُها شأن سائر الصفات الفعليَّة لله سبحانه.
وأمَّا أنَّه تعالى الهادي لمَن في السماوات والأرض وما فيها فمعنى ذلك انَّه تعالى أودعَ في جِبلَّة كلِّ واحدٍ من خلقه ما يقتضي قيامه بوظيفته التي أُنيطت به تكويناً، فليس شيءٌ من خلق الله تعالى إلا وقد جُبل بالنحو المناسب لخلقه على العمل بوظيفته التكوينيَّة المُناطة به من قِبَل الله تعالى فتعاقبُ الليل والنهار ودورانُ الشمس والقمر والنجوم والكواكب كلٌ في فلكٍ يسبحون وما يترتَّب على ذلك من شئوناتٍ مُنتظِمة، ومراحلُ النمو التي تتدرَّج فيها النباتات والحيوانات وما تفعله الرياح والأمطار، والشئونات التي تكون عليها الجبال والأحجار والبحار وما يترتَّب عنها من آثار، كلُّ ذلك يسير وفقَ قوانينَ مُتقنة ومنضبِطة، فهذه القوانين التكوينيَّة المُودَعة في جِبلَّة هذه الخلائق هي المُعبَّر عنها بالهداية التكوينيَّة لله جلَّ وعلا لذلك فهو نور السماوات والأرض أي هو الهادي لها والمُودِع في مكنون خلقها ما يقتضي انضباطها في إطار نظامٍ مُتقن اقتضته عنايتُه وحكمته وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾.
فالهداية في الآية المباركة هي الهداية التكوينية، وثمة هداية تشريعية أُعطيت لمن منحه الله تعالى إدراكاً وعقلاً، وهذه هي الهداية التي أُشير إليها في مثل قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(10) وقوله تعالى على لسان الجن: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا / يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾(11).
خلاصة:
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ النور في آية النور سواءً كان بمعنى الضياء أو كان بمعنى الهداية فإنَّه فعلٌ من أفعال الله سبحانه، وإسناده إلى الله تعالى في الآية هو من إسناد الفعل إلى فاعله عيناً كما هو إسناد الفاطر والخالق إلى الله تعالى.
بيانُ الوجه البلاغي في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ ..﴾:
وأمَّا التعبير في الآية بالمصدر "اللهُ نور" بدلاً من إسم الفاعل منوِّر أو أنَّه صاحب نور السماوات فمنشؤه أنَّ ذلك أبلغ في التأكيد على عموم نوره واستيعابه وسعته وشدَّته، ومثل ذلك مستعملٌ لهذا الغرض كثيراً في العرف وكلام العرب، فيقال "زيدٌ عدل" بدلاً من القول "زيد عادل"، فإنَّ العدول في المثال من إسم الفاعل إلى المصدر كان لغرض التعبير عن إتصاف زيد بكمال العدل واستيعاب العدل لتمام أفعاله.
أمثلةٌ من كلام العرب:
1- (أنَا نورُ قومٍ) يعني ذوو نور:
ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قول الشاعر شبيب بن البرصاء:
ألم ترَ أنّا نور قومٍ وإنَّما ** يُبيِّن في الظلماءِ للناس نورُها(12)
فهنا أسند الشاعرُ المصدرَ "نور" إلى ضمير الجمع المتكلِّم "أنَّا" ومعنى ذلك انَّه أسند المصدر إلى ذات، فعدلَ عن القول: "أنَّا ذوو نورٍ وأصحاب نور" إلى القول "أنَّا نور" وذلك للتعبير عن شدة نفعهم وكثرته.
2- (أنتِ طلاق) يعني أنتِ طالق:
وقال الشاعر العربي:
فإنْ ترفقي يا هندُ فالرفقُ أيمن ** وإنْ تخرقي يا هندُ فالخرقُ أشأمُ
فأنتِ طلاقٌ والطلاقُ عزيمةٌ ** ثلاثٌ ومَن يخرق أعقُّ وأظلمُ(13)
وهنا أسند الشاعر كلمة "طلاق" وهي مصدر إلى ضمير المخاطَب، فكأنَّه قال: هندٌ طلاق، فأسند المصدر إلى ذات هند وأراد من قوله: هند طلاق أنَّها طالق، فإستعاض عن إسم الفاعل بالمصدر للتعبير عن تأكيد الإنفصال للعلقة الزوجية بينه وبين هند وأنَّ هذا الطلاق لا رجعة بعده أبدا.
3- (هي إقبالٌ وإدبار) يعني ذاتُ إقبالٍ وإدبار:
وقالت الخنساء الشاعرة العربية الشهيرة:
تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حتى إِذا ادَّكَرَتْ ** فإِنَّما هي إِقْبالٌ وإِدْبارُ(14)
وهنا أسندت الشاعرة الإقبال والإدبار وكلٌّ منهما مصدر إلى الذات وهي ضمير الغائب المؤنَّث "هي" وأرادت من ذلك أنَّها ذات إقبالٍ وإدبار أو أرادت من المصدر إسم الفاعل أعني مُقبلِة ومُدبِرة، وعلى كلا التقديرين فالغرض من الإستعاضة عن الإسم بالمصدر هو التعبير عن كثرة الإقبال والإدبار.
الخلاصة:
وبذلك يتبيَّن فساد دعوى التنافي بين قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ وبين قوله تعلى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ فمعنى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ هو أنَّه سبحانه لا مثيل له إطلاقاً، وأما قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ فهو تشبيه لنوره والذي هو فعلٌ من أفعاله وليس تشبيهاً لذاته جلَّ وعلا، وأما أنَّه تعالى نور السماوات فمعناه أنَّه الهادي للسماوات أي المُعطي للهداية التكوينيَّة والتشريعيَّة أو هو المنوِّر للسماوات والأرض بمثل الشمس والقمر، والتنوير وكذلك الهداية كلٌّ منهما فعلٌ من أفعال الله جلَّ وعلا، فليس هو عين ذاته ولا هو شيء شبيهٌ بذاته سبحانه وتعالى.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
من كتاب شبهات مسيحيَّة
1- سورة الشورى / 11.
2- سورة النور / 35.
3- سورة فاطر / 1.
4- سورة الانعام / 1.
5- سورة البقرة / 30.
6- روى الصدوق في كتاب التوحيد ص155، بسنده عن العباس بن هلال، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فقال: هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض. وفي رواية البرقي: هدى مَن في السماوات وهدى مَن في الأرض.
7- سورة طه / 50.
8- سورة المائدة / 15.
9- سورة البلد / 10.
10- سورة الإنسان / 3.
11- سورة الجن الآيتان 1-2.
12- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج7 / ص249.
13- خزانة الأدب -البغدادي- ج3 / ص425.
14- لسان العرب -ابن منظور- ج14 / ص410.