عصمةُ أُوْلِي الأمر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم سماحة الشيخ محمد صنقور

 

قال أحدُهم متَّهماً الشيعة بالغلو بسبب عقيدتهم بعصمة الإمام علي (عليه السلام) والأئمة من آل رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين .. مدَّعياً بأنَّ القرآن ينفي عصمتهم بدليل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾(1).

 

وخلاصة كلامه: أنَّ الامام عليَّاً مثلا يُعدُّ من ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ كما يقول الشيعة بل كلُّ المسلمين باعتبار أنَّه خليفةٌ وإمام، ومع ذلك فالآيةُ الكريمة لم تأمر بالرجوع إلى أُولي الأمر في حال التنازع، وإنَّما أمرت بالرجوع لله وللرسول (ص) فقط وهذا يُثبت العصمة للكتاب والسنَّة وحسب، مضيفاً أنَّ التنازع لا يُمكن أنْ يكون مع الله تعالى ولا مع الرسول (ص) لأنَّ الردَّ والمرجع حينئذٍ إليهما كما نصَّت الآية، فيتعيَّن أنْ يكون التنازع فقط مع أُولي الأمر، وهذا يدلُّ على أنَّ أُولي الأمر غيرُ معصومين، لأنَّ الله تعالى افترض وقوع التنازع معهم ومع ذلك لم يأمر بالردِّ إليهم عند التنازع، وإنَّما أمر بالردِّ للمصدر المعصوم -الكتاب والسنَّة-.

 

فما تقولون سماحة الشيخ في جواب هذا الكلام؟

 

الجواب:

ليس في الآية المباركة دلالةٌ -ولو بنحو الإشعار- على نفي العصمة عن أهل البيت (ع) بل هي على إثبات العصمة لهم أدلُّ، وذلك لأنَّها قرَنت طاعتَهم بطاعة الله ورسوله (ص) وأمرَت بطاعتهم مُطلقاً دون تقييد، وأمَّا الردُّ في فرض التنازع لله تعالى وللرسول (ص) فلأنَّ لهما دون غيرهما التشريع، فشأنُ أُولي الأمر شأنُ غيرهم في لزوم الرجوع إلى ما شرَّعه اللهُ تعالى ورسوله (ص) فليس لأُولي الأمر أنْ يحكموا بغير ما حكمَ به اللهُ ورسوله (ص) ولا أنْ يستحدثوا حكماً شرعيَّاً ولا أنْ ينسخوا حكماً شرعيَّاً، فهم أُولو أمرِ الله ورسوله (ص)، مجعولون من قبلهما وتابعون للشريعة التي صدَع بها الرسولُ (ص) فليس لهما التأسيس على ما جاء به اللهُ ورسولُه (ص) فكيف حينئذٍ يكون الردُّ إليهم وإنَّما هم أئمةٌ موكَّلون على رعاية شريعة الله ورسولِه (ص).

 

لذلك كان الردُّ لله ورسوله (ص) دون غيرهما، لأنَّه ليس لغيرهما حقُّ التشريع ولأنَّ الشريعة كاملة وقد تمَّ تبليغها بتمامها، فعلى كلِّ مسلمٍ الرجوع اليها في تمام الفروض والحالات، فقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ بيانٌ إلى أنَّ المرجعيَّة في التشريع لأحكام الدين تتمحَّض فيما جاء عن الله ورسوله (ص) فليس في البين مرجعيَّة أخرى يصحُّ الرجوع إليها بل هي متمحِّضة فيما جاء عن الله ورسوله (ص) وهذا لا ينافي ما فرضته الآية من لزوم طاعة أُولي الأمر لأنَّ مورد طاعتهم إنَّما هو فيما يرتبط بشؤون الرعاية لشريعة الله في مقام التطبيق وشؤون الحكم والقضاء وما يُعبَّر عنه بالأحكام السلطانية والولائية، ففي هذا الشؤون فرَض اللهُ تعالى طاعة أُولي الأمر وقرَن طاعتَهم بطاعته وطاعة رسوله (ص)، فإذا كانت طاعتُهم في ذلك مفروضةً مُطلقاً حيثُ لم تُقيَّد بقيد فهذا يستلزم عصمتهم، إذ أنَّ الأوامر والقرارات في مثل هذه الشؤون الخطِرة هي في معرَض الخطأ الكثير والفادح الناشئ عن الجهل أو الغضب أو الهوى أو الناشئ عن الغفلة والسهو أو عدم الإحاطة بأوجه المصالح والمفاسد، فلو لم يضمن اللهُ عزَّ وجل عصمة هذه الأوامر عن الخطأ في هذه الشؤون المتعاظمة والخطيرة لمَا فرَض على الناس طاعتها.

 

ولمزيدٍ من التوضيح لإثبات عدم دلالة الآية المباركة على نفي عصمة أُولي الأمر نذكر عدداً من الأمور المتَّصلة بمفاد ومؤدَّى الآية المباركة:

 

الأمر الأول: إنَّ الآية المباركة فرضتْ على كلِّ مسلمٍ الطاعة لأُولى الأمر بل وتصدَّت لبيان عظمة هذه الفريضة الإلهيَّة حيث قرَنت الأمر بالطاعة لأولي الأمر بالطاعة للرسول الكريم (ص) ومن الواضح أنَّ مَن صَام وصلَّى وحجَّ بيت الله الحرام وأقام الحدود والتزم بفرائض الإسلام لا يُقال له بل لا يصحُّ أن يُقال له: إنَّه أطاع أُولي الأمر وإنَّما يُقال له إنَّه أطاع اللهَ ورسوله (ص) لأنَّ نسبة الطاعة لأُولي الأمر في شؤون الدين من اللغو المحض وتأكيد الأقوى بالأضعف، فلا يُقال صلِّ لأنَّ أباك يأمرُك بذلك وطاعةُ الأب واجبة، وكذلك لا يُقال للمسلمين أقيموا الحدود لأنَّ أُولي الأمر يأمرون بذلك فتجبُ طاعتهم، وهذا يُنبِّه على أنَّ الطاعة المفروضة لأُولي الأمر في الآية المباركة لا تتَّصل بشؤون التشريع وإنَّما تتَّصل بشؤون الإمامة والحكم، فكلُّ ما له اتِّصالٌ بشؤون الإمامة فطاعةُ أُولي الأمر فيها مفروضة على كلِّ مسلم بمقتضى الآية المباركة، وكلُّ ماله اتِّصال بشؤون التشريع فالطاعة فيه متمحِّضة لله ورسوله (ص) حتى وإنْ كانت بإرشاد أُولي الأمر أو الفقهاء مثلاً.

 

الأمر الثاني: إنَّ مورد التنازع الذي يجبُ الردُّ فيه إلى الله تعالى والرسول (ص) هو ما يتَّصل بشؤون التشريع، وأما شؤون الإمامة والحكم فالمفروض فيها بمقتضى الآية هو الطاعة لأُولي الأمر، وإلا لو صحَّ التنازع في شؤون الإمامة والحكم والحال أنَّ الطاعة والمرجعيَّة في شؤون التشريع لله والرسول (ص) فما معنى وما هو مورد الأمر بطاعة أُولي الأمر في الآية؟!

 

فافتراض صحَّة مخالفة أُولي الأمر في شؤون الإمامة والحكم يُناقض الأمر بطاعة أُولي الأمر الذي فرضته الآية المباركة، لأنَّه لا يبقى موردٌ تجب فيه طاعة أُولي الأمر، لأنَّ الطاعة في شؤون التشريع طاعةٌ لله ورسوله (ص) فلم تبقَ سوى شؤون الإمامة، فمتى صحَّ منازعة أُولي الأمر فيها والاختلاف معهم فيها أُفرغ الأمر بطاعة أُولي الأمر من معناه ولم يبقَ موردٌ تجبُ فيه طاعة أُولي الأمر خصوصاً مع الالتفات إلى أنَّ مسائل الإمامة والحكم موردٌ لتباين الآراء والاجتهادات في أكثر قضاياها وتفاصيلها حقيرها وخطيرها، وتخصيصُ موردٍ من شؤون الإمامة يجوز النزاع فيه دون مورد تحكُّمٌ يُنافي اطلاق قوله: ﴿تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ وهذا يُنبِّه على أنَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ لا صلة له بشؤون الإمامة التي فرَض اللهُ فيها طاعة أُولي الأمر.

 

وبتعبيرً آخر: إنَّ شؤون الامامة والحكم من الشؤون التي يكثر فيها الاختلاف والاجتهادات بين الناس في مطلق مسائلها العامَّة وتفاصيلها فإذا صحَّت منازعة أُولي الأمر فيها والاختلاف معهم فيها فما هو مورد الأمر بطاعتهم، فهل يُطاعون في شؤون التشريع وما نصَّ الكتابُ على وجوبه وحرمته وصحَّته وفساده ؟! والحال أنَّ الطاعة في شؤون التشريع إنَّما هي لله ورسوله (ص) كان بأمرٍ وارشاد أولي الأمر أو لم يكن.

 

الأمر الثالث: إنَّ التنازع المفترَض في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ مورده أحكام الشريعة كالوجوب والحرمة والصحَّة والفساد، فمفاد الآية أنَّه إذا وقع الإختلاف فيما هو حكم الشريعة في قضيَّةٍ من القضايا إمَّا لكونها حادثة يجهل المتنازعون ما هو حكمها الشرعي أو لأنَّ بعض المتنازعين يجهل بحكم الشريعة في تلك القضية أو أنَّ بعض المتنازعين أو جميعهم يرغبُ كلٌّ منهم في أنْ يكون حكمها بالنحو الذي يُريد، ففي هذه الفروض وشبهها يتعيَّن على المتنازعين الرجوع إلى الله ورسوله (ص) ولا يجوز الاستقلال بالرأي فيها أو التحكيم لغير الله تعالى ورسوله (ص)، ففي حياة الرسول (ص) يجب الرجوع للرسول (ص) -بصفته المشرِّع والمتلقِّي للشريعة عن الله تعالى- للوقوف على حكم الشرع في تلك القضية وفي حال وفاة الرسول (ص) يكون المرجع هو الكتاب والسنَّة الثابتة عن الرسول الكريم (ص).

 

والذي يدلُّ على أنَّ مورد النزاع المفترَض في الآية هو أحكام الشريعة هو نفس الأمر بالردِّ إلى الكتاب والسنَّة فإنَّ ذلك يكشف كشفاً قطعياً أنَّ مورد النزاع هو شأنٌ من شؤون الدين وإلا لم يتم الإرجاع للكتاب والسنَّة -مصدري الدين- فمورد النزاع المفترَض شأنٌ من شؤون الدين وليس من الشؤون التي يصحُّ فيها الاستقلال بالرأي وإعمال النظر وملاحظة المصالح والمفاسد، وهو ما يدلُّ على أنَّ مورد النزاع المُفترَض في الآية خارجٌ عن دائرة الولاية لأُولي الأمر، إذ لا ريب أنَّ ثمة موارد كثيرة لا يكون المرجع فيها في ظرف التنازع أو غيره للكتاب والسنَّة كما هي كما هي دائرة المباحات والدائرة التي فُوِّض فيها الأمر للمكلَّف نفسه في الشؤون الخاصَّة وفُوِّض فيها الأمر للإمام في الشؤون العامة، فللمكلَّف أنْ يُسافر وله أنْ لا يُسافر، وله أنْ يختار هذا الطريق في سفره وله أنْ يختار غيره، وله أن يتناول هذا الطعام وله أنْ يتناول غيره، وله أنْ يختار هذه المرأة زوجةً وله أنْ يختار غيرها، وله أنْ يختار هذا الوقت للنوم وله أنْ يختار وقتاً آخر وهكذا، فإنَّ دائرة المباحات واسعة جداً يكون فيها المرجع هو ما يستصوبه المكلَّف ويختارُه لنفسه حتى لو خالفه في اختياراته غيرُه أو عاتبوه أو حتى هجروه، وكذلك هو الشأن فيما يرتبط بدائرة المباحات للإمام فله أنْ يختار لوظيفةٍ هذا الرجل وله أنْ يعزله بعد اختياره ويُكلِّف غيره، وله أن يُخطِّط لحربه بكيفيَّةٍ وله أنْ ينقضها ويختار كيفيةً أخرى كما له اختيار الزمان والمكان والقادة والجنود، وله اختيار الصلح والموادعة كما له اختيار الحرب، وله أنْ يُقيم سوقاً هنا ويمنع من اقامتها هناك، وهكذا فإنَّ كلَّ موردٍ أباح الشارع فيه للإمام الفعل والترك فإنَّ للإمام اختيار أيِّهما شاء ولا معنى حينئذٍ للرجوع للكتاب والسنَّة لافتراض أنَّ الكتاب والسنَّة قد فوَّضا للإمام اختيار الفعل وتركه، ومن المعلوم أنَّ دائرة الولاية لأولي الأمر هي من قبيل هذه المساحة وهو ما يكشف عن أنَّ مورد التنازع المفترَض في الآية هو خارج دائرة الولاية لأولي الأمر، ولذلك فهو متمحِّض في أحكام الشريعة، فهي التي يكون فيها المرجع للكتاب والسنَّة، وأما ما يرتبط بدائرة الإمامة فالكتاب والسنة قد فوَّضا لوليِّ الأمر اختيار ما يراه مناسباً، ولا معنى لأنْ يفوِّض الله أمراً للإمام ويجعل له اختيار الفعل والترك ويأمر بطاعته فيما يختار ثم يُصحِّح للناس منازعته والاختلاف معه، فلو كان النزاع معه في ذلك سائغاً فالأمر بطاعته بلا معنى بل هو من الأمر بالنقيضين، فكأنَّه قال: طاعةُ أولي الأمر مفروضة عليكم وهي غير مفروضة لأنَّه يصحُّ لكم منازعتهم والاختلاف معهم، وحيث إنَّ ذلك مستهجَن وغير ممكن لذلك فالمتعيَّن في النزاع المفترَض في الآية أنَّه نزاعٌ في شيءٍ من أحكام الشريعة بسبب الجهل وشبهه ولا ربط له بما يتَّصل بدائرة الولاية لأُولي الأمر.

 

الأمر الرابع: إنَّ التنازع المفترض في الآية ليس مع أولي الأمر كما هو ليس مع الله ورسوله (ص) بل هو تنازعٌ بين الناس أي فيما بينهم، وذلك هو ظاهر الآية إذ أنَّ ضمير الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾ يرجع إلى المخاطَبين بالأمر بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، ومِن الواضح أنَّ أولي الأمر ليسوا مخاطَبين بطاعة أولي الأمر، فالمخاطَبون بقوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾ هم المُخاطَبون بأطيعوا أولي الأمر وهم المؤمنون فيما بينهم، والذي يُؤيِّد ذلك مضافاً إلى أنَّه مقتضى ظاهر الآية أنَّ من غير المعقول -كما ذكرنا- أنْ يأمر الله تعالى في صدر الآية بلزوم طاعة أُولي الأمر ثم يُرخِّص في منازعتهم والاختلاف معهم.

 

وأما عدم الردِّ إليهم في ظرف المنازعة واختصاصُ الردِّ إلى الله والرسول (ص) فلِما ذكرناه من أنَّ مورد النزاع إنَّما هو في أمور الدين وأحكام الشريعة، والمرجع في ذلك هو المشرِّع، وأُولو الأمر ليسوا كذلك بل هم أتباعٌ لصاحب الشريعة، لذلك لا يصحُّ أن يكون الردُّ والإرجاع إليهم، إذ ليس لهم أنْ يشرِّعوا حكماً ولا أنْ ينسخوا حكماً شرَّعه الله ورسولُه فكيف يكون الردُّ إليهم والحال أنَّهم ليسوا مشرِّعين، فالردُّ والإرجاع لا يكون إلا لصاحبِ الشريعة.

 

فعدم الردِّ في الآية المباركة لأولي الأمر لا ينفي عصمتهم بعد أنْ لم يكن الأمر المتنازَع فيه داخلاً في دائرة ولايتِهم، فالأمرُ المُتنازَع فيه شأنٌ من شؤون الشريعة والمرجعُ فيه هو المشرِّع، فعدمُ الإرجاع لغير المشرِّع لا يدلُّ على عدم عصمة ذلك الغير، لذلك لا يصحُّ القول انَّ عدم إرجاع الآية الأمر المتنازَع فيه إلى مثل موسى وعيسى (ع) دليلٌ على عدم عصمتهما، وذلك لأنَّ الأمر المتنازَع فيه شأنٌ من شؤون شريعة الإسلام فلا يكون المرجعُ فيها لسوى المشرِّع الإسلامي وهو الله تعالى ورسولُه محمد (ص) فعدمُ الإرجاع إلى مثل موسى وعيسى ليس دليلاً على عدم عصمتهما. وكذلك فإنَّ عدم الإرجاع والردِّ في شؤون الدين والشريعة إلى أولي الأمر أو غيرهم من أبناء الإسلام لا ينفي عصمتهم كما لا يُثبتها، نعم اختصاص الردِّ والإرجاع لله ورسوله (ص) ينفي صلاحية التشريع عن غير الله ورسوله (ص) وهذا أمرٌ لا يرتاب فيه مسلم، وأين ذلك من نفي العصمة عن أُولي الأمر؟! فهل يتوهَّم عاقلٌ أنَّ في البين ملازمةً بين عدم الصلاحيَّة للتشريع وعدم العصمة، بحيث نزعم أنَّ كلَّ مَن ليس له صلاحيَّة التشريع فهو غير معصوم!! فمن أين جاءت هذه الملازمة؟! وما هو المصحِّح لها؟! وهل يسعُ من أحدٍ الاستدلال على ثبوتها؟! كيف والسيدةُ مريم (ع) لم تكن مشرِّعاً ولم يكن لها صلاحيَّة التشريع في شريعة موسى وعيسى (ع) ورغم ذلك فهي معصومةٌ بنصِّ القرآن واجماع المسلمين، وكذلك فهناك الكثير من الأنبياء كانوا أتباعاً لشريعةٍ سبقتهم ليس لهم أنْ يستحدثوا فيها ولا أن ينسخوا منها حكماً وهم رغم ذلك معصومون، فهل يصحُّ أنْ ننفي عنهم العصمة لمجرَّد عدم صلاحيتهم للتشريع ولمجرَّد لزوم اتِّباعهم ورجوعهم لشريعة مَن سبقهم؟!

 

فقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ يدلُّ على اختصاص صلاحيَّة التشريع لله والرسول (ص) وينفي ثبوت هذه الصلاحيَّة لأولي الأمر، إلا أنَّ نفيَ صلاحية التشريع عن أُولي الأمر لا يُلازم نفي العصمة عنهم لوضوح أنَّه ليس من مقوِّمات العصمة أنْ يكون المعصوم مشرِّعاً حتى يقال إنَّ أُولي الأمر لمَّا لم يكونوا مشرِّعين فهم إذن غير معصومين!!.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ دعوى دلالة قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ على نفي العصمة عن أُولي الأمر تثبت لو ثبَتَ أحدُ أمرين:

 

الأول: انَّ الآية تُرخِّص في منازعة أُولي الأمر فيما هو داخلٌ في دائرة ولايتِهم.

والثاني: عند عدم ثبوت الأول هو أنَّ عدم الردِّ لأولي الأمر في شؤون التشريع يُلازم عدم عصمتهم.

 

وكلا الأمرين باطل:

أما الأول: فقد اتَّضح أنَّ من غير المعقول أنْ يأمرَ اللهُ تعالى بطاعة أُولي الأمر في دائرة ولايتِهم ثم يُرخِّص في منازعتهم، فإنَّ ذلك من الجمع بين النقيضين. على أنَّه أساساً لا يُمكن الردُّ للكتاب والسنة في دائرة الولاية لأُولي الأمر، لأنَّ كلاً من الكتاب والسنَّة لم يتصدَّ لبيان ذلك بل فوَّضا ذلك الشأن لأُولي الأمر.

 

فدائرةُ الولاية لأُولي الأمر هي دائرة القضايا السلطانيَّة التي لم يتمَّ النصُّ في موردهاعلى حكمٍ إلزامي أو وضعي مِن وجوبٍ وحرمة وصحَّةٍ وفساد، فموردُ هذه القضايا قد فوَّض فيها الشارعُ للإمام الاستقلال بالرأي وإعمال النظر وملاحظة المصالح والمفاسد المُكتنفة للظروف المتغيِّرة.

 

وكلُّ هذه الشؤون لم يتصدَّ الكتاب والسنَّة لتبيانها وإنَّما فوَّضا فيها الأمر والاختيار لأُولي الأمر فكيف يصحُّ الردُّ إلى الكتاب والسنَّة في شيءٍ لم يتصدَّ الكتاب والسنَّة لبيانه، وإذا كان للكتاب والسنَّة تصدٍّ في هذه الشؤون فهو ما أفاده من وجوب الطاعة في ذلك لأُولي الأمر، فالكتابُ والسنَّة يردَّان الناس في هذه الشؤون لأولي الأمر، فلو وقع التنازع منهم عصياناً فإنَّ الكتاب والسنَّة يردَّانهم إلى أُولي الأمر بمقتضى قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.

 

نعم إذا وقع التنازع في شأنٍ من شؤون الدين فالكتابُ والسنَّة يردَّان الناس فيه إلى الله ورسوله (ص) أي إلى ما بيَّنه اللهُ ورسولُه (ص) في الكتاب والسنَّة، فالطاعة في ذلك تكون إليهما لتمحُّض حقِّ التشريع فيهما، فإليهما في ذلك يكون الردُّ وإنْ كان بإرشاد أولي الأمر أو غيرهم.

 

وأما الثاني: وهو دعوى أنَّ عدم الردِّ إلى أُولي الأمر في شؤون الدين والتشريع يُلازم عدم عصمتهم فهي دعوى فاسدة لوضوح أنَّ صلاحيَّة التشريع ليس من مقوِّمات العصمة، لذلك لم يتوهَّم أحدٌ أنَّ كلِّ معصومٍ فهو مشرِّع، كما اتَّضح مما سبق.

 

بقي الكلام في أنَّه إذا كان أُولو الأمر وهم أهل البيت (ع) معصومين فلماذا لم تأمر الآية المباركة بالرجوع إليهم في شؤون الشريعة لا للتشريع لأنَّه لله ورسوله (ص) وإنَّما للتعريف بأحكام الشريعة؟

 

وبعبارةٍ أخرى: لو قيل بأنَّه بعد التسليم بأنَّ طاعة أولي الأمر مفروضة فيما يتَّصل بدائرة ولايتهم وأنَّ أحكام الدين تُؤخذ من المشرِّع وهو الله تعالى ورسوله (ص) ولذلك كان الردُّ إليهم في فرض التنازع، لو قيل: سلَّمنا بذلك ولكنَّه لماذا لم تأمر الآية بالرجوع إلى أُولي الأمر للتعريف بأحكام الدين في فرض التنازع لو كانوا معصومين ليكون ذلك حاسماً لمادة النزاع؟

 

والجواب: إنَّ الآية لم تكن بهذا الصدد، وليس على الآية أنْ تتصدَّى لبيان كلِّ شيء وإلا كان ذلك نافياً للشيء الذي لم تتصدَّ لبيانه!! فمثلُ هذا لا يتفوَّه به عاقلٌ مُنصف، فالآيةُ كانت بصدد بيان مَن يُؤخذ عنه التشريع في فرض التنازع، وبيانُ الآية كان حاسماً في ذلك، حيث أفادت أنَّ التشريع لا يُؤخذ إلا من الله تعالى ورسوله (ص)، ويدلُّ على أنَّ ذلك هو ما كانت الآية بصدد بيانه أنَّ الآيات التي وقعت آيةُ التنازع في سياقها شنَّعت على اللذين يزعمون الإيمان بما أنزل الله وهم يتحاكمون إلى الطاغوت وشنَّعت على المنافقين الذين يصدُّون عن النبيِّ (ص) صدودا، قال تعالى بعد آية التنازع مباشرةً: ﴿أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا / وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾(2) فهذه الآيات تدلُّ على أنَّ منشأ التنازع ليس هو الجهل بأحكام الشريعة حتى يكون على الآية أنْ تُبيِّن مَن هو المعرِّف بأحكام الشريعة، فالواضحُ من مساق الآيات أنَّ المتنازعين لا يرون ولا يرغبون في أن تكون الشريعة هي المرجع في فصل خصوماتهم، فهم ليسوا من المُذعنين بشرع الله تعالى ورسوله (ص) وينقصهم الفهم أو العلم بما هو حكم الله ورسوله (ص) بل هم ضالُّون ومنافقون يزعمون الإيمان لذلك قالت لهم الآية إنَّكم لن تكونوا مؤمنين حقَّاً إلا إذا رجعتم في إلى حكم الله ورسوله (ص) في حسم تنازعكم ثم إنَّ الآيات خاطبت النبيَّ (ص) بالإعراض عن هؤلاء بعد وعظهم ثم وصفتهم بالظالمين لأنفسهم ودعتهم إلى الاستغفار، وذلك مشعرٌ بل ظاهرٌ في أنَّ تنازعهم لم يكن عن جهلٍ بل كان إعراضاً عن حكم الله تعالى ورسوله (ص) ثم خُتمتْ آية التنازع والآيات التي تليها بالقسَم المغلَّظ بأنَّ هؤلاء لن يكونوا من أهل الإيمان حتى يُحكِّموا رسول الله (ص) فيما شجَرَ بينهم من نزاعٍ وحتى يُسلِّموا بحكم الله ورسولِه تسليما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(3).

 

فسياق الآيات صريحٌ في أنَّ آية التنازع لم تكن بصدد بيان المرجع في التعريف بأحكام الشريعة في ظرف الجهل حتى يُدَّعى أنَّ سكوتها عن الإشارة إلى أولي الأمر يكشف عن عدم عصمتهم.

 

ثم إنَّ الآية المباركة إذا لم تكن قد بيَّنت أنَّ أهل البيت (ع) هم المرجع المعصوم في التعريف بأحكام الشريعة لأنَّها لم تكن بصدد بيان ذلك ولأنَّ الآية اجنبيَّة عن هذا الموضوع، فهي إنْ لم تكن قد بيَّنت ذلك فإنَّ السنَّة الثابتة عن الرسول (ص) قد أفاضت البيان في ذلك بما لم يدع مجالاً للريب، فيكفي حديث الثقلين المتواتر لدى الفريقين لإثبات أنَّ أهل البيت (ع) هم المرجع المعصوم للتعريف بأحكام الله تعالى، فقد قرَن الحديثُ الشريف أهل البيت (ع) بالقرآن المعصوم وأكَّد بأنَّهما لن يفترقا أبداً إلى يوم القيامة "حتى يردا عليَّ الحوض" وأفاد بأنَّ الكتاب والعترة هما خليفتاه في أُمته وما يتركه فيهم بعد موته، وضمِنَ لأمته عدم الضلال أبداً إنْ هم تمسَّكوا بهما وأخذوا عنهما، فهل أدلُّ على عصمة أهل البيت (ع) في بيان الأحكام من هذا البيان النبويِّ لو كان ثمة إنصاف.

 

فمن طرق حديث الثقلين ما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند من طريق أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): "إنِّى قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلُّوا بعدي الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي الا وانَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"(4).

 

ومن طرقه: ما أخرجه الترمذي في سننه من طريق زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (ص): "إنِّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي ; أحدهما أعظم من الآخر; كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(5).

 

ومنه: ما أخرجه النسائي في السُنن الكبرى من طريق أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال لما رجع رسول الله (ص) عن حجَّة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقُممن ثم قال: "كأنِّي قد دُعيتُ فأجبت، إنِّي قد تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنَّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ثم قال: إنَّ الله مولاي وأنا وليُّ كلِّ مؤمن ثم أخذ بيد عليٍّ فقال: مَن كنتُ وليُّه فهذا وليُّه، اللهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، فقلتُ لزيد: سمعتَه من رسول الله (ص)؟ قال: ما كان في الدوحات رجلٌ إلا رآه بعينه وسمع بأذنه"(6).

 

ومنه: ما أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: عن زيد بن ثابت عن رسول الله (ص) قال: "إني تركتُ فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وأنَّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض" قال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات(7).

 

ومنه: ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير من طريق أبي الطفيل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله (ص): إنِّي لكم فرَطٌ، وإنَّكم واردون عليَّ الحوض عرضه ما بين صنعاء إلى بصرى فيه عدد الكواكب من قِدحانَّ الذهب والفضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين فقام رجل فقال: يا رسول الله وما الثقلان؟ فقال رسولُ الله (ص): الأكبر كتابُ الله سببٌ طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسَّكوا به لن تزالوا ولا تضلُّوا، والأصغر عترتي وإنَّهم لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض وسألتُ لهما ذاك ربِّي، فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تعلِّموهما فإنَّهما أعلمُ منكم"(8).

 

قال ابن حجر في الصواعق المحرقة: "وفي رواية صحيحة: كأنِّي قد دعيتُ فأجبت إنِّي قد تركتُ فيكم الثقلين أحدهما آكدُ من الآخر كتاب الله عزَّ وجل وعترتي أي بالمثناة فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنَّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ حوضي، وفي رواية وإنَّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض سألتُ ربِّي ذلك لهما فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلِّموهم فإنَّهم أعلمُ منكم، ولهذا الحديث طرقٌ كثيرة عن بضعٍ وعشرين صحابياً الحاجة لنا إلى بسطها"(9).

 

وليس حديث الثقلين وحده الذي يُمكن التمسُّك به لإثبات عصمة أهل البيت (ع) في بيان الأحكام فثمة الكثير من الأحاديث النبويَّة الدالَّة على ذلك والواردة من طرق العامَّة فضلاً عن الاماميَّة نذكر نزراً يسيراً منها ومن أراد المزيد فليراجع المجاميع الروائية:

 

فمنها: ما أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين من طريق أبي ذر قال: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: "مثلُ أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرق" قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.(10)

 

قال ابن حجر في الصواعق المحرقة: "وجاء من طرق كثيرة يقوِّي بعضُها بعضا مثل أهل بيتي، وفي روايةٍ إنَّما مثل أهل بيتي، وفي أخرى إنَّ مثل أهل بيتي، وفي روايةٍ ألا إنَّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرق، وفي روايةٍ من ركبها سلِم ومَن لم يركبها غرق، وإنَّ مثل أهل بيتي فيكم مثلُ بابِ حطَّة في بني إسرائل من دخله غُفر له"(11).

 

ومنها: ما أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرَك من طريق إلى امِّ سلمة قالت: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: "عليٌّ مع القرآن مع والقرآن مع عليٍّ لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض" هذا حديث صحيح الاسناد وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ثقة مأمون ولم يخرجاه"(12).

 

وعلَّق الذهبي في التلخيص بقوله: صحيح(13).

 

ومنها: ما أخرجه الحاكم في المستدرَك من طريق انس بن مالك: "أنَّ النبيَّ (ص) قال لعليٍّ: "أنت تُبيِّن لأُمتي ما اختلفوا فيه بعدي" قال الحاكم: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه(14).

 

ومنها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق عباد بن عبد الله الأسدي عن علي في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(15) قال عليٌّ: "رسولُ الله (ص) المنذر وانا الهادي" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه(16).

 

قال السيوطي في الدر المنثور: ".. وأخرج ابنُ جرير وابنُ مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابنُ عساكر وابنُ النجار قال: لمَّا نزلت ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ وضع رسول الله (ص) يده على صدره فقال أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب عليٍّ رضي الله عنه فقال: أنت الهادي يا عليُّ بك يهتدى المهتدون من بعدي، وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: "إنَّما أنت منذر ووضع يده على صدر نفسه ثم وضعها على صدر عليٍّ ويقول: لكلِّ قوم هاد، وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال رسولُ الله (ص): المُنذِر والهادي عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قال: رسولُ الله (ص) المُنذِر وانا الهادي، وفى لفظ والهادي رجلٌ من بنى هاشم يعنى نفسه"(17).

 

ومنها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) "انا مدينةُ العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتِ الباب" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد(18).

 

فحديثُ الثقلين المتواتر وهذه الروايات وشبهها المتواترة اجمالاً كافيةٌ لإثبات عصمة عليًّ (ع) وأهل البيت (ع) في فهم وبيان الأحكام فكيف يطلب منصفٌ بعدها أثراً بعد عين؟!

 

ثم إنَّ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(19) وإنْ لم يكن متصدِّياً مباشرة لإثبات عصمة أُولي الأمر في التعريف بالأحكام لكنَّ دلالته على عصمتهم في دائرة ولايتِهم وهي الأحكام السلطانية غير قابلة للإنكار، فإذا ثبتت عصمتُهم فيما يصدر عنهم من أحكامٍ سلطانيَّة فلازم ذلك عرفاً عصمتهم في فهم الأحكام الشرعية والتعريف بها.

 

وبيان ذلك:

أما دلالة الآية على عصمة أولي الأمر فيما يتَّصل بدائرة ولايتهم فتثبت من اطلاق الأمر بطاعتهم في ذلك وسَوقِها مقرونةً بطاعة الله ورسوله (ص)، فلن تجد في كتاب الله تعالى أحداً أطلق الله الأمر بطاعتهم وقرَنَ طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله غير أُولي الأمر، ولا يمكن أنْ يُطلِقَ اللهُ تعالىالأمرَ بطاعة أُولي الأمر ويجلعها على حدِّ طاعة الله ورسوله (ص) لو كانت أوامرهم وقراراتهم في معرض الخطأ خصوصاً مع الالتفات إلى أنَّ منصب الولاية هو المنصبُ الأخطر على الإطلاق بعد منصب النبوَّة، فهو يتَّصل مباشرةً بمصالح العباد ومعائشهم وكلِّ مقدَّراتهم، والخطأ في ذلك تترتَّب عليه مفاسد فادحة قد لا تكون قابلة للتدارك، فمع الالتفات لذلك والالتفات إلى أنَّ طبيعة الأوامر السلطانية هو أنَّها موردٌ لتباين الآراء والاجتهادات فهي من المسائل التي تزلُّ فيها الأقدام وتكثر فيها الأخطاء فإطلاق الأمر فيها بطاعة أحدٍ تُعدُّ مجازفة خطِرة ومُستهجَنة بل ومُستقبَحة لا تصدر عن الله جلَّ وعلا لولا أنَّه ضمِن في المُفوَّض إليه هذا الأمر صواب ما سيتَّخذُه من قرارات وإلا كانت المفاسد والمظالم المترتِّبة على طاعة وليِّ الأمر مستندةً إلى الله جلَّ وعلا نظراً لكونه الآمر بلزوم طاعته في قراراته.

 

فاطلاقُ الآية الأمر بالطاعة لوليِّ الأمر في دائرة ولايته واعتبار طاعته وطاعة الرسول (ص) طاعةً واحدة دون تقييد يكشفُ عن ضمان عصمة وليِّ الأمر فيما هو مفوَّضٌ فيه، فكما أنَّ أوامر الرسول (ص) معصومة فكذلك من جُعلت طاعته وطاعة الرسول طاعةً واحدة تكون أوامره معصومة وإلا كان مقتضى أداء البيان غير المُفضي للإيهام والتغرير والإيقاع في المفسدة تقييدَ طاعة أولي الأمر وعدم جعلها وطاعة الرسول بمنزلةٍ واحدة، فمع عدم التقييد والتمييز بين طاعة وليِّ الأمر وطاعة رسوله (ص) تكون الآية مقتضية لتفويض الأمر لوليِّ الأمر وفرض طاعته مُطلقاً في دائرة ولايته وحينئذٍ إذا لم يكن وليُّ الأمر معصوماً فإنَّ كلَّ مفسدةٍ ومظلمة تصدرُ عنه أو تترتَّب على طاعته تكون مُستندةً لله جلَّ اللهُ عن ذلك وتعالى علوَّاً كبيرا.

 

هذا وقد اعترف الفخر الرازي بدلالة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ على عصمة أُولي الأمر متمسِّكاً في ذلك بالأمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم والقطع قال: ".. والدليل على ذلك أنَّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومَن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدَّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، فهذا يُفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانَّه محال، فثبت أنَّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنَّ كلَّ مَن أمر اللهُ بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدَّ وأن يكون معصوماً .."(20).

 

فهو يعترف قاطعا بدلالة الآية على عصمة أولي الأمر غايته انَّه ادَّعى انَّ أُولي الأمر هم أهل الحلِّ والعقد الذين بهم ينعقد الإجماع بحسب زعمه.

 

وكيف كان فدلالة الآية على عصمة أولي الأمر غير قابلةٍ للإنكار، فإذا كانت الآية مقتضية للدلالة على عصمة أولي الأمر في دائرة ولايتهم فهذا يقتضي دلالتها بالملازمة العرفية على عصمتِهم في فهم الأحكام الشرعية، فمع الالتفات إلى أنَّ عصمة أولي الأمر في دائرة ولايتهم تعني فيما تعني الإدارك التام والواقعي لحدود ولايتهم والقدرة على التمييز الدقيق المطابق للواقع لما هو داخلٌ في ولايتهم حتى لا يتم التعدِّي والتجاوز منهم على حدود الله تعالى، لأنَّ كلَّ ما هو خارجٌ عن دائرة ولايتهم فهو داخلٌ في الحدود الشرعية من وجوبٍ وحرمة وصحةٍ وفساد وشبهها، فإذا لم يكن وليُّ الأمر معصوماً في فهم الأحكام الشرعية فإنِّه يكون في معرض التعدِّي والتجاوز لحدود الله وهو يتوهًّم أنَّ ذلك داخلٌ في الحدود المُفوَّض له فيها الرأي وإعمال النظر وملاحظة المصالح والمفاسد.

 

هذا مضافاً إلى أنَّ من الوظائف المُناطة بوليِّ الأمر هو تطبيق الأحكام الشرعية وحمل الناس على تطبيقها، فلولم يكن معصوماً في فهم الأحكام الشرعية فقد يقع في التطبيق الخاطئ والمنافي للشريعة ويحمل الناس خطأً على ما ينافي أحكام للشريعة وهذا منافٍ لما فرضناه من أنَّه معصوم في حدود ولايته والتي منها تطبيق الشريعة وحمل الناس على تطبيقها.

 

فالعصمة في حدود الولاية تُساوق العصمة في فهم الشريعة.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 59.

2- سورة النساء / 60-61.

3- سورة النساء / 65.

4- مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج3 / ص59.

5- سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص329.

6- السنن الكبرى -النسائي- ج5 ص46، فضائل الصحابة -النسائي- ص15، خصائص أمير المؤمنين -النسائي- ص93.

7- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج1 / ص170.

8- المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص66.

9- الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة -أحمد بن حجر الهيتمي المكي- / ص 228.

10- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج7 / ص451، ج11 / ص27، فضائل الصحابة -أحمد بن حنبل- ج3 / ص381، فضائل الصحابة -النسائي- ج2 / ص785.

11- الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة -أحمد بن حجر الهيتمي المكي- ج2 / ص675.

12- المستدرك على الصحيحين- الحاكم النيسابوري- ج10 / ص434.

13- التلخيص -الذهبي- ج3 / ص134.

14- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج10 / ص427.

15- سورة الرعد / 7.

16- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج10 / ص451.

17- الدر المنثور في التفسير بالمأثور -جلال الدين السيوطي- ج4 / ص45.

18- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج10 / ص442-444.

19- سورة النساء / 59.

20- تفسير الرازي -فخر الدين الرازي- ج10 / ص144.