لماذا ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ وليس كالّذين؟

المسألة:

شيخنا هناك إشكال يعرضه بعض الملحدين حول القرآن الكريم على أنَّه خطأ لغوي وهو في الآية ٦٩ من سورة التوبة: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(1) فيقولون وخضتم كالذي خاضوا خطأ والصحيح وخضتم كالذين خاضوا لأن كلمة الذي لا تستخذم في الجمع وما يستعمل للجمع هو كلمة الذين، فاستعمال كلمة الذي في الآية خطأ!! شيخنا كيف نرد على اشكالهم هذا.

 

الجواب:

سبق الآية المذكورة قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ / وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(2) ثم قال تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

 

فالخطاب في قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ إلى آخر الآية موجَّه للمنافقين والمنافقات والكفَّار المعاصرين للرسول الكريم (ص) ومفاد صدر الآية هو تشبيه المنافقين بمن سبقهم من الكفار ثم تصدت الآية لبيان حيثية التشابه فأفادت أنَّ أولئك استمتعوا بخلاقهم وأنتم كذلك استمتعتم بخلاقكم وهم خاضوا في الكفر والاستهزاء والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وأنتم كذلك خضتم كخوضهم.

 

إذا اتضح هذا الذي أردنا منه إعطاء تصور مقتضب عن أجواء الآية نقول:

إن التشبيه في قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ تشبيه لخوض المنافقين بخوض الكفَّار الذين سبقوهم فمعنى ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ هو خضتم كالخوض الذي خاضوا فالاسم الموصول (الذي) جاء مفردًا لأنَّه وصفٌ للخوض المحذوف المستفاد من فعل خضتم أي أنَّه نعتٌ للمصدر المحذوف الذي دلَّ عليه فعلُ (خُضتم) ولذلك جاء الاسم الموصول مفردًا لأنَّ النعت يتبع منعوتِه في الإفراد والجمع والتذكير والتأنيث.

 

فمفادُ الآية وخضتم كالخوض الذي خاضوا يعني وخُضتم كخوضهم أو وخضتم خوضاً مثل خوضِهم، فالآيةُ تُشبِّه خوضاً بخوض أي تُشبِّه خوضَ المنافقين بخوضِ الكافرين الذين سبقوهم، فالمشبَّه هو خوضُ المنافقين والمشبَّه به هو خوضُ الكافرين الذين سبقوهم، فهو تشبيهُ فعلِ قومٍ بفعل آخرين، لذلك جاء اسمُ الموصول الذي هو نعتٌ للمشبَّه به مفردًا.

 

فالآيةُ لا تقول إنَّ هؤلاء المنافقين كالكافرين السابقين حتى يُقال لماذا لم تقل كالذين؟! أي إنَّ الآية لم تقلْ إنَّ هؤلاء المنافقين كالذين خاضوا من الكفار، فهي لم تكن بصدد تشبيه المنافقين بالكافرين مطلقًا بل هي بصدد تشبيه فعلٍ من أفعال المنافقين -وهو الخوض- بخوض الكافرين الذين سبقوهم، فهو تشبيهُ خوضٍ بخوض، والخوضُ مفردٌ ولذلك جاء الاسمُ الموصول -والذي هو نعت للخوض- مفردًا.

 

وخلاصة القول: إنَّ الآية تُشبه خوض المعاصرين للنبيِّ (ص) من المنافقين والكفَّار بخوض الكافرين السابقين ولذلك جاء الاسمُ الموصول مفردًا لأنَّه نعت للخوض المفرد أي نعتٌ للمصدر المُستفاد من الفعل (خُضتم) هذا أولًا.

 

وثانيًا: لوسلَّمنا جدلًا أنَّ التشبيه في الآية تشبيهٌ للمنافقين بالكافرين الذين خاضوا فهو وإنْ كان خلاف الظاهر إلا أنَّه رغم ذلك لا يقتضي الحكم بخطأ استعمال الاسم الموصول المفرد بدلًا من الجمع لأنَّ الاسم الموصول أعني (الذي) يُستعمل في كلام العرب في المفرد ويستعمل في الجمع أي أنَّ العرب تستعملُ الاسم الموصول (الذي) في الجماعة.

 

ومثال ذلك قول في قول أشهب بن رميلة: 

فإنَّ الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد(3)

 

فقد استعمل الشاعرُ اسم الموصول (الذي) رغم اشتمال صلته على ضمير جمعٍ وهو قوله (دماؤهم) فكان ينبغي أنْ يقول: الذين حانت بفلجٍ دماؤهم لولم يكن استعمال الذي جائزًا.

 

وكذلك يمكن التمثيل بقول عديل بن الفرخ العجلي:

وبتُّ أُساقي القوم إخوتي الذي ** غوايتُهم غيِّي ورشدُهم رشدي(4)

 

فاستعمل الشاعرُ اسم الموصول الذي رغم أنَّه كان ينبغي أنْ يستعمل الذين لو لم يكن اطلاق الذي على الجماعة جائزًا

 

وكذلك يمكن التمثيل بقول الراجزُ:

يا رُبَّ عبسٍ لا تُبارِك في أَحَدْ ** في قائمٍ مِنْهُم ولا فِيمَنْ قَعَدْ

إلا الّذي قاموا بأَطْرَافِ المَسَدْ(5)

 

فقد استعمل الراجزُ (الذي) في الجماعة كما هو مقتضى اشتمال صلتِه على واو الجماعة أعني الفعل قاموا.

 

إذن فاستعمالُ العرب كلمة الذي في الجماعة جائز، نعم اختلف اللغويُّون في الوجه المصحِّح لاستعماله في الجماعة ولكنَّهم تسالموا على جوازه، فمذهب أبي عليٍّ الفارسي مثلاً أنَّ الوجه في ذلك هو أنَّ (الذي) اسمٌ مُبهم مثل (مَن) ولذلك هو يجري مجرى (مَن) في الواحد والجمع، فكما يصحُّ أنْ يقال: "مَن يأكل" للمفرد و"من يأكلون" للجمع يصحُّ أنْ يقال الذي يأكل للمفرد والذي يأكلون للجمع فكلمة (مَن) وكلمة (الذي) كلٌّ منهما اسم موصول مُبهم تُفسِّره -من حيث الإفراد والجمع- صلتُه التي لا محلَّ لها من الإعراب.

 

وذكر آخرون أنَّ منشأ استعمال كلمة الذي في الجماعة هو أنَّ موصوف الذي يكون مفرداً لفظاً وإن كان مدلولُه جمعًا مثل كلمة القوم والفوج والرهط والنفر والفريق وكلمة الجمع وكلمة كل، فإنَّ مثل هذه الألفاظ مفردة لفظاً ولكنَّ معناها يدلُّ على الجمع، فحين تقع كلمة الذي وصفاً لشيء من هذه الألفاظ فإنَّ المصحِّح لذلك هو أنَّها مفردة لفظاً فالإتيان بالاسم الموصول المفرد نشأ عن أنَّه نعتٌ لاسمٍ مفردٍ لفظاً وإن كان معناه يدلُّ على الجمع فالإفراد بلحاظ اللفظ دون المعنى، نعم يجعل العائد ضمير جمع للدلالة على إرادة الجماعة فيقال مثلًا جاء الذي طلبتهم، فالذي هنا وصفٌ لمثل كلمة رهط أو كلمة قوم فهي مفردةُ لفظاً وهذا ما صحَّح إفرادها وجيئ بضمير الجمع في العائد للدلالة على إرادة الجمع، وعليه فمثل قول الراجز "إلا الذي قاموا بأطراف المسد" معناه إلا الرهط أو النفر الذي قاموا فأفردَ اسم الموصول باعتباره نعتاً لمفردٍ لفظاً وهو الرهط وجاء بضمير الجمع في العائد للدلالة على إرادة الجمع، وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ فإنَّه بناءً على هذا الوجه يكون منشأ إفراد اسم الموصول هو أنَّه نعتٌ لمفردٍ لفظًا مثل الفريق أي فخضتم كالفريق أو الجمع الذي خاضوا.

 

ومن التوجيهات المذكورة لاستعمال اسم الموصول بصيغة المفرد في الجماعة هو أنَّ منشأ ذلك هو التخفيف أي أنَّ الذي المستعملة في الجماعة مخفَّفة من الذين فحُذفت الياء والنون ويكون الدالُّ على الحذف هو صلة الموصول الدال على الجماعة.أي أنَّه يُعرف أنَّ (الذي) في هذا الكلام مخفَّفة من الذين بواسطة صلةِ الموصول المشتملة على ضمير الجمع أو واو الجماعة.

 

فمثل قول الشاعر:

فإنَّ الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد

 

مقصوده من الذي هو الذين ولكنَّه حذف الياء والنون تخفيفاً وقد أُمِنَ من اللبس بسبب اشتمال صلة الموصول على ضمير الجمع أعني (دماؤهم).

 

وثمة توجيهاتٌ أخرى لا أرى موجبًا لعرضها فهي جميعًا توجيهات لجواز استعمال (الذي) في الجماعة، فالجواز متسالَم عليه وإنْ وقع الخلاف في تكييفه وبيان منشئه لكن ذلك لا يمسُّ بأصل جواز استعمال (الذي) في الجماعة وهو المطلوب وبه يثبت فساد دعوى أنَّ استعمال الذي في الجماعة خطأ كما توهَّم صاحب الشبهة، فكان عليه قبل الاستشكال مراجعة كلمات اللغويِّين واستعمالات العرب وعدم الاكتفاء بما تلقَّاه في المدرسة حين كان في المرحلة الإعدادية.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة التوبة / 69.

2- سورة التوبة / 67-68.

3- سر صناعة الإعراب -ابن جني- ج2 / ص190، البحر المحيط -أبو حيان الأندلسي- ج1 / ص210.

4- سر صناعة الإعراب -ابن جني- ج2 / ص191.

5- سر صناعة الإعراب -ابن جني- ج2 / ص190، لسان العرب -ابن منظور- ج15 / ص456.