وجهُ الربط بين الهُمَزة واللُمَزة وجمعِ المال

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

يقول الله تعالى في سورة الهمزة: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ / الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾(1).

 

هناك شبهةٌ أوردها البعضُ حول سورة الهُمَزة وحاصلُها أنَّ السورة فسَّرت الهُمزة اللُّمزة بالذي جمع مالًا وعدَّده، وهذا التفسير لا يستقيم مع المدلول اللغويِّ لكلمتي الهُمَزة واللمزة فإنَّ المعروف لغةً هو أنَّ الكلمتين وصفان للرجل العيًّاب الذي يطعن في أعراض الناس وليس بين هذين الوصفين والتفسير الذي أفاده القرآن أدنى ترابط، فما هو وجهُ تفسير الهُمزة اللُّمزة بالجامع للمال؟!

 

الجواب:

ليس الأمر كما توهَّمه صاحبُ الشبهة فالسورة لم تكن بصدد تفسير الهُمزة اللُّمزة بالجامع للمال وإنَّما هي بصدد تحديد مَن أفادت أنَّ له الويل، فمفاد الآية أنَّ الذي له الويل والعذاب هو الواجد لمجموع الصفات المذكورة، فالرجل الهمَّاز اللمَّاز الجامع للمال والمعدِّد له والمتعاطي معه وكأنَّه من موجبات الخلود هذا الرجل الواجد لهذه الصفات مجتمعةً هو من توعَّدته السورة بالويل والعذاب.

 

فليس الغرضُ من قوله: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ هو التفسير لوصفي الهُمزة اللُّمزة وإنَّما الغرضُ هو بيان أنَّ الذي يجمع هذه الصفات -الهمز واللمز والحرص على جمع المال وتعديده- يستحقُّ الويل، فمساق الآيات هو مساق قولنا: الولد البار بأبويه الذي يحرص على إقامة الفرائض ويتحمَّل الشدائد ويجتنب كبائر الذنوب يستحقُّ دوخول الجنة بغير حساب، فقولُنا الذي يحرص على اقامة الفرائض ليس تفسيرًا للولد البار بوالديه فإنَّ لكلٍّ من الفقرتين معنىً مغايرًا تمامًا لمعنى الفقرة الأخرى غايته أنَّنا أردنا من توصيف الولد البار بالمُقيم للفرائض الإشارة إلى أنَّ الذي يستحقُّ النتيجة وهي دخول الجنَّة بغير حساب ليس هو الولد البار أيَّاً كان وإنَّما هو الولد البار الواجد لصفةٍ أو صفاتٍ أخرى مضافًا لبرِّه بوالديه، فالذي تجتمعُ فيه صفة البرِّ بالوالدين وصفةِ الإقامة للفرائض والصبر على الشدائد هو الذي يستحقُّ دخول الجنَّة بغير حساب، فليس كلُّ بارٍّ بوالديه يستحقُّ هذه النتيجة وإنَّما هو البارُّ المتَّصف بالصفات الأُخرى المذكورة. 

 

كذلك هو مفاد الآيات من سورة الهُمزة، فالذي توعَّدته السورة بالويل والنبذ قي الحُطمة هو الهمَّاز اللمَّاز المتَّصف مضافًا إلى ذلك بالحرص على جمع المال وتعديده والتعاطي معه وكأنَّه سوف يخلد به فهذا الرجل الواجد لهذه الصفات مجتمعةً هو مَن تتوعَّده السورة بالويل والنبذ في الحُطمة، فهي لا تقول إنَّ الهمَّاز اللمَّاز هو مَن يجمع المال حتى يُقال إنَّه لا ربط بين مدلولي الهمز واللمز وبين الجمع للمال، وإنَّما أرادت أنْ تقول إنَّ المستحقَّ للويل هو الهمَّاز اللمَّاز ولكن ليس مطلقًا بل المتقيِّد بصفاتٍ أُخرى وهي الحرص على جمع المال وتعديده والتعاطي معه وكأنَّه يعيش به أبدا، فالإسم الموصول (الذي) وصِلتَه سِيقا لغرض تحديد موضوع مَن توعَّدته الآية بالويل أو قل لتضييق دائرة مَن توعَّدته الآية بالويل وتخصيصه بالواجد للصفات المذكورة مجتمعةً.

 

ولذلك نظائر عديدة في القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ / الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(2) فإنَّ قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ ليس تفسيرًا لكلمة المؤمنين وإنَّما هو بيان لمَن وعدت الآية بفلاحهم فليس كلُّ مؤمنٍ موعودًا في الآية بالفلاح وإنَّما هو المؤمن الواجد لصفة الخشوع في الصلاة.

 

وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ / الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(3) فإنَّ الاسم الموصول وصلته أعني الذين استجابوا ليس تفسيرًا للمؤمنين في الآية، فالإيمان لا يعني الإستجابة فهي من شؤون الفعل والإيمان من شؤون الإعتقاد على أنَّ دائرة المؤمنين أوسع من دائرة المستجيبين، فالآيةُ إنَّما هي بصدد تقييد وتضييق دائرة المؤمنين الذين أفادت الآية أنَّ الله تعالى لا يضييع أجرهم وأنَّه سيمنحُهم أجرًا عظيمًا.

 

وهناك تقريبٌ آخر لمفاد الآيات من سورة الهمزة ذكره عددٌ من المفسِّرين، وحاصله أنَّ الآية الأولى بصدد التحذير والوعيد لكلِّ همَّازٍ لمَّاز الذي يطعنُ في أعراض الناس ويعيبُهم في محضرهم وغيبتهم ويستعلي عليهم ويحتقرُهم ويسخرُ منهم فهذا له الويل والعذاب ثم تصدَّت الآية الثانية والتي بعدها لبيان المنشأ الذي يبعثُ الإنسان على احتقار الناس وامتهانهم والتطاول عليهم، هذا المنشأ هو كونه من ذوي الثراء والأموال الطائلة فذلك هو ما يبعثُ فيه الشعور بالإستعلاء والإستهانة بالناس فلا يُبالي بالطعن في أعراضهم والسخرية منهم، فالآية الثانية والثالثة وهي قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ / يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾(4) وردتا مورد العلَّة والسبب في اتَّصاف الإنسان برذيلة الهمز واللمز، فإعجابه بما اجتمع عنده من أموال وتوهٌّمه أنَّ ذلك هو حقيقة التميُّز والاقتدار دفعه إلى امتهان الناس واحتقارهم كما قال تعالى في سورة العلق: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى / أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾(5) فتوهُّمه بالاستغناء بالمال عن ربِّه وعن الناس هو ما يبعثه على الطغيان والتعالي المُفضي لعدم الإكتراث بامتهان الناس واستصغارِ شأنِهم والطعنِ عليهم، ولهذا جاءت الآيات من سورة الهمزة لتتوعَّد مثل هؤلاء بجزاءٍ هو من جنس سلوكهم وهو النبذُ في الحُطَمة كما تُنبذ المُحقَّرات، فتوهُّم الهمَّاز اللمَّاز بالتميُّز والإقتدار والإستغناء بالمال الباعث له على امتهان الناس وتحقيرهم سوف يتبدَّد حين يُنبَذُ حقيرًا في الحُطَمة فيتحطَّم على صخورها رأسُه وتصلُ النار إلى فؤاده لتُذيب ما تكدَّس حوله من مشاعر الكبرياء والإعتداد والزهو بالذات.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ لم يكن بصدد التفسير لكلمتي الهُمزة واللُّمَزة كما توهَّم صاحبُ الشبهة وإنَّما هو بصدد تحديد موضوع مَن توعَّدته الآية بالويل والنبذِ في الحطمة أو هو بصدد البيان لمنشأ اتِّصاف الإنسان برذيلة الهَمْز واللَّمْز.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الهمزة / 1-2.

2- سورة المؤمنون / 1-2.

3- سورة آل عمران / 171-172.

4- سورة الهمزة / 2-3.

5- سورة العلق / 6-7.