تغيير عدَّة المتوفَّى عنها زوجها

شبهة مسيحي:

في البدء أمر الله الأرملة بالاعتداد حولاً كاملاً ثم نُسخ بأربعة أشهر وعشراً، قال في سورة البقرة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾(1) هذه الآية منسوخة بآيةٍ سبقتها هي: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾(2) مثل هذه الآيات الناسخة تدلُّ على أنَّ القائل لم يكن متمكناً من معرفة الاحتياجات النفسيَّة والجنسيَّة والاجتماعيَّة للمرأة بشكلٍ تام، فإنْ كان الله فإنَّه الأعرف بمخلوقاته لأنَّه العلَّام المُلِم بكلِّ شيء، وبالتالي فإنَّ من المشكوك فيه أنْ تكون الآيات تلك من عند الله.

 

الجواب:

آية الحول غير ظاهرة في العدّة

الحكم بنسخ آية "متاعاً إلى الحول" بآية وجوب العدَّة أربعة أشهرٍ وعشرا مبتنٍ على دلالة آية الحول على وجوب العدَّة على المرأة المتوفَّى عنها زوجها حولاً كاملاً، وأمَّا إذا لم تكن الآية ظاهرةً في وجوب الإعتداد عليها حولاً كاملاً فلا موجب للبناء على أنَّها منسوخة بآية أنَّ العدَّة أربعة أشهرٍ وعشرا.

 

ومع النظر في آية الحول يتَّضح انَّها ليست ظاهرةً في وجوب الإعتداد حولاً كاملاً على الزوجة المتوفَّى عنها زوجها، وإنَّما هي ظاهرة في أنَّه ينبغي أو يلزم الزوج الذي يخلِّف من بعده زوجةً أو زوجاتٍ أنْ يُوصي لهنَّ بالنفقة من أمواله والسكنى في بيته مدَّة حولٍ كامل، وحينئذٍ يلزم الورثة إنجاز وصيته بذلك، فلا يجوز لهم إخراج زوجاته من بيته وحرمانهنَّ من النفقة مدَّةَ الحول، ولكنَّ زوجاته لو اخترن الخروج فإنَّ الورثة في سعةٍ من جهة النفقة عليهن، فلا يلزمهم حينئذٍ الإنفاق عليهنَّ بعد خروجهن اختياراً من بيت زوجهن، وليس على الورثة وأولياء الميِّت من حرجٍ فيما فعلت الزوجات بأنفسن، فليس لهم منعهنَّ من كلِّ مايفعلنه بأنفسهنَّ من معروف ومنه الزواج من آخر.

 

لا منافاة ولا نسخ!

فإذا كان هذا هو ظاهر الآية المباركة فهي ليست منافية لآية وجوب الإعتداد أربعة أشهرٍ وعشرا حتى يُدَّعى أنَّها ناسخة لآية الحول، فيُمكن الإلتزام بأنَّ مدَّة العدَّة الواجبة هي أربعة أشهرٍ وعشرا ورغم ذلك فإنَّ على الزوج وجوباً أو إستحباباً الإيصاء لزوجاته بالنفقة والسكنى مدَّة حولٍ كامل إذا لم يخرجن من بيت الزوجيَّة.

 

ظهور آية الحول في الإيصاء للزوجة

والذي يؤكِّد ظهور آية الحول فيما ذكرناه من أنَّها بصدد الأمر بالإيصاء للزوجة بالنفقة والسكنى والأمر للورثة بإنجاز الوصيَّة، وأنَّها ليست بصدد الأمر للزوجة بالإعتداد هو أنَّ الخطاب في الآية موجَّهٌ أولاً للزوج بأنَّه مأمورٌ بالإيصاء: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً﴾ أي أنَّ اللذين يُشرفون على الموت ويُخلِّفون وراءهم زوجاتٍ فإنَّ عليهم الإيصاء لهنَّ بمتاعِ حولٍ كامل من أموالهم

 

وموجَّه ثانياً لأولياء الميِّت وورثته بعدم إخراجهنَّ من بيت الزوج كما هو مقتضى مفاد قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فإنَّ إخراج الزوجات من بيت زوجهن الميِّت لا يُنتظر إلا من الورثة، فالخطابُ بالنهي عن الإخراج موجَّهٌ لهم، ثم خاطبت الآية الورثة بالقول: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي ليس عليكم أيُّها الورثة من حرجٍ لو أنَّ الزوجات خرجن من بيت الزوج اختياراً.

 

فالآيةُ متصدِّية للأمر بالإيصاء والأمر بإنجاز الوصية، فالأمرُ الأول موجَّهٌ للأزواج، والأمرُ الثاني موجَّهُ لورثة الأزواج، وليس في الآية خطابٌ وتكليفٌ للزوجات بشيء بل فيها دلالة على تخييرهنَّ بين الإستفادة من الوصية بالبقاء في بيت الزوجيَّة وبين الخروج وفعل أيِّ شيءٍ أردْنَهُ بالمعروف.

 

وهذا بخلاف ماهو ظاهر قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ فإنَّه مشتملٌ على خطاب موجَّهٍ للزوجات بوجوب التربُّص بأنفسهنَّ أربعة أشهرٍ وعشرا، والتربُّص يعني التريُّث والإنتظار، فالجملة الخبريَّة الفعليَّة: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ سيقت لغرض الإنشاء فهي ظاهرةٌ في الأمر بلزوم التربُّص والصبر في المدَّة المذكورة، لذلك فهي مفيدة لوجوب العدَّة وترك التزوُّج ريثما ينقضي الوقت الذي قرَّرته الآيةُ المباركة.

 

فآيةُ الحول متصدِّية لشأنٍ غير الشأن الذي تصدَّت له آيةُ التربُّص أربعة أشهرٍ وعشرا، لذلك لا موجبَ للبناء على أنَّ إحداهما ناسخةٌ للأخرى.

 

مناقشة القول بالنسخ

وأما ماعليه المشهور من الفقهاء والمفسِّرين من أنَّ آية الحول منسوخة بآية الأربعة أشهرٍ وعشرا فمنشأه ماورد في عددٍ من الروايات، ودعوى البعض الإجماع، وإستظهار البعض ذلك من الآية.

 

أمَّا الروايات فهي أخبارُ آحاد، ولا يثبت نسخٌ بأخبار الآحاد على أنَّ ما ورد منها في طرقنا فهو ضعيف السند وما ورد من غير طرقنا فهو غير معتَبر، وأمَّا دعوى الإجماع فلا يُعتدُّ بها لعدم حجيَّة الإجماع المنقول، هذا مضافاً إلى أنَّه من الإجماعات المحتمِلة للمدركيَّة، وقد ثبت في علم الإصول أنَّ الإجماع المنقول أو المحتمِل للمدركيَّة فاقدٌ للحجيَّة، ثم انَّ عدداً من الفقهاء والمفسِّرين ذهبوا إلى أنَّ آية الحول ليست منسوخة بآية العدَّة أربعة أشهر وعشرا، وذلك ما ينقض دعوى الإجماع.

 

وأمَّا دعوى ظهور آية الحول في وجوب الإعتداد حولاً كاملاً فهي دعوى لم تنشأ عن ملاحظة مفاد الآية وإنَّما نشأت عن ملاحظة الروايات، إذ أنَّ الآية كما اتَّضح ليس لها ظهورٌ في أكثر من أنَّها بصدد الأمر بالإيصاء للزوجة بالنفقة والسكنى مدَّة حولٍ كامل، وهذا معناه أنَّ النفقة والسكنى حقٌ للزوجة وليس حكماً إلزاميَّاً عليها، ولذلك أفادت الآية: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ فإنَّه لو كانت الآية متصدِّية لوجوب الإعتداد على الزوجة حولاً كاملاً لما كان لها الخروج من بيت الزوجيَّة.

 

لو سلَّمنا بالنسخ فلا تتمُّ الشّبهة أيضاً

ثم إنَّه مع القبول بما عليه المشهور من دعوى ظهور الآية في وجوب الإعتداد حولاً كاملاً وبذلك تكون منسوخة بآية العدَّة أربعة أشهرٍ وعشرا فإنَّه لا محذور من الإلتزام بذلك، ولا يلزم منه -كما إدَّعى صاحبُ الشبهة- الجهل بالإحتياجات النفسيَّة والجنسيَّة والإجتماعيَّة للمرأة.

 

هل النسخ يستلزم الجهل؟!

لأنَّ دعوى استلزام النسخ في المقام للجهل نشأ عن توهُّم أنَّه لو كان المشرِّع محيطاً بما تقتضيه الحاجة النفسيَّة والجنسيَّة والإجتماعيَّة للمرأة لما فرَض عليها أولاً الإعتداد حولاً كاملاً ثم خفَّف ذلك عنها فجعله أربعة أشهرٍ وعشرا، فإسقاطه لمقدارٍ يصلُ إلى سبعة أشهرٍ وعشرين يوماً يُعبِّر عن أنَّه قد تبيَّن له بعد تشريعه الأول أنَّ ذلك التشريع منافٍ لما تقتضيه حاجة المرأة، فهو إذن كان جاهلاُ بما تقتضيه حاجة المرأة أو أنً كلاً الحكمين الناسخ والمنسوخ كان جزافياً غير مبتنٍ على ملاحظة ماتقتضيه حاجة المرأة.

 

الجواب:

وهذا التوهُّم نشأَ عن الغفلة عن أنَّ أحكام الله تعالى لا تُلاحظ ملاكاتها حين الجعل من حيثيَّةٍ واحدة، فقد تكون حاجة المرأة مقتضية لعدم امتداد العدَّة لأكثر من أربعة أشهرٍ وعشرا بل قد تكون مقتضية لعدم الإمتداد حتى لثلاثة أشهر ورغم ذلك يفرض عليها الإعتداد حولاً كاملاً، وذلك لأنَّ جعل الأحكام الشرعيَّة يقوم على أساس الملاحظة لجميع أوجه المصالح والمفاسد والموازنة بينها ثم جعل الحكم المناسب للمصلحة الغالبة.

 

فالفعل مثلاً المعبَّر عنه بمتعلَّق الحكم قد يكون متمحِّضاً في المفسدة التامَّة كقتل النفس البريئة، وقد يكون متمحِّضاً في المصلحة التامَّة كإنقاذ النفس البريئة، ففي الفرض الأول تُجعل الحرمة على الفعل ابتداءً وفي الفرض الثاني يُجعل الوجوب على الفعل ابتداءً.

 

وقد يكون الفعل مشتملاً على مصلحةٍ ومفسدة أو عددٍ من المصالح والمفاسد أو يكون ذا مصلحةٍ ولكنَّ فعله يُفوِّتُ مصلحةً أخرى أو يُوجب الوقوع في مفسدة، فهذا الفرض يُعبَّر عنه بالتزاحم بين المِلاكات، وهو يقتضي الموازنة وتغليب ما هو الأهم مِلاكاً، ولا يصحُّ في مثله الملاحظة لمصلحةٍ واحدة وجعل الحكم المناسب لها وإغفال ما يترتَّب على جعل الحكم المناسب لها من تفويت للمصالح الأخرى أو الإيقاع في المفاسد بل لابدَّ من ملاحظة مجموع المصالح والمفاسد والموازنة بينها ثم جعل الحكم المناسب للمصلحة الأهم مِلاكاً أو المناسب لدرء المفسدة الأهم مِلاكاً، وذلك وإنْ كان يُفضي إلى تفويت بعض المصالح والإيقاع في بعض المفاسد إلا أنَّه لو رُوعيت تلك المصالح الفائتة أو المفاسد الواقعة لترتَّب على ذلك التفويت للمصلحة الأهم أو الوقوع في المفسدة الأشد، فالموازنة عند تزاحم الملاكات تُحتِّم تغليب ما هو الأهم ملاكاً وإنْ ترتَّب على ذلك التفويت لبعض المصالح والوقوع في بعض المفاسد التي هي دون المصلحة المرعيَّة في الأهميَّة.

 

أمثلة للتوضيح:

المثال الأول:

ومثال ذلك إنقاذ الغريق لو استلزم اقتحام مزرعة الغير وإتلاف بعض محتوياتها دون إذنه، فإنَّ جعل الحكم في مثل هذا الفرض يخضعُ للموازنة بين المِلاكات، فالإنقاذ للغريق فيه مصلحة، وإقتحام أملاك الغير دون إذن والإتلاف لأمواله دون إذنه فيهما مفسدة وقد تكون عظيمة خصوصاً إذا كانت الأموال خطيرة.

 

فهنا لا يمكن الحكم بحرمة الإقتحام والإتلاف بإعتبار إشتمالهما على المفسدة وإغفال المصلحة التي ستفوت نتيجة الحكم بحرمة الإقتحام والإتلاف بل لابدَّ من ملاحظة مجموع المصالح والمفاسد والموازنة بينها وتغليب المِلاك الأهم وجعل الحكم وفقاً لما يقتضيه المِلاك الأهم من هذه المِلاكات المتزاحِمة.

 

فحين يكون الحكم المجعول بعد الموازنة بين المِلاكات المتزاحمة هو الوجوب للإنقاذ فإنَّه لا يسع من أحد الإشكال على هذا الحكم بأنَّه تسبَّب في مفسدةٍ هي إقتحام أملاك الغير وإتلاف بعض محتوياتها، لأنَّ هذه المفسدة لا محيص عن الوقوع فيها، إذ أنَّ المُحاذرة من الوقوع في ذلك يُفضي إلى تفويت مصلحةٍ أكبر والوقوع في مفسدة درؤها أشدُّ مفسدةً من من المفسدة التي نشأت عن إيجاب الإنقاذ.

 

المثال الثاني:

وهكذا حينما يحكم المشرِّع بحرمة شرب الخمر فإنَّ الإشكال بأنَّ تحريمه موجبٌ لتفويت المصالح والمنافع المترتَّبة على الشرب للخمر، فإنَّه وإنْ كان الأمر كذلك إلا أنَّه بتحريمه للخمر قد درءَ مفسدةً درؤها أهم مِلاكاً من المنفعة الفائتة بتحريمه، فلا يصح ملاحظة الفعل من حيثيةٍ وإغفال الحيثيَّات الأخرى، لذلك قال الله تعالى في الخمر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾(3).

 

تطبيق الجواب على مورد الشبهة

والأمر كذلك بالنسبة لإيجاب الإعتداد على المتوفَّى عنها زوجُها حولاً كاملاً، فإنَّه لا يصحُّ الإشكال على هذا الحكم بأنَّه منافٍ لما تقتضيه الحاجة النفسيَّة والجنسيَّة للمرأة، فإنَّ الأمر قد يكون كذلك ولكنَّ تشريع العدَّة لا يُلحظ فيه حاجة المرأة فحسب فإنَّ ثمة إعتبارات ومقتضيات متقاطعة وحيثيَّات متباينة قد تكون الملاحظة لمجموعها والموازنة بينها مفضياً لضرورة فرض وقتٍ للعدَّة يتجاوز الوقت المناسب لحاجة المرأة النفسيَّة والجنسيَّة، فلا يصحُّ الإشكال على ذلك بأنَّه منافٍ لما تقتضيه حاجة المرأة، لأنَّ ثمة مصلحةً أهم تمَّ تغليبها نظراً لتزاحم المِلاكات، فذلك وإنْ أفضى إلى تفويت مصلحةٍ على المرأة إلا أنَّه لو رُوعيت هذه المصلحة الفائتة على المرأة لأوجب ذلك فوات مصلحةٍ أهم أو لأوجب ذلك الوقوع في مفسدةٍ كان ذرؤها أهمَّ مِلاكاً.

 

العلَّة في تخفيف العدَّة

وأما لماذا خُفِّفت العدَّة فأصبحت أربعة أشهرٍ وعشرا إذا كانت المصلحة الأهم مقتضية لجعلها حولاً كاملاً فذلك لأنَّ المصلحة الأهم التي رُوعيت في تشريع الحول الكامل قد إرتفعت فأصبحت المصلحة الأهم مقتضية لجعل العدَّة أربعة أشهرٍ وعشرا، فذلك هو ما أدَّى إلى نسخ الحكم الأول وجعل الحكم الآخر كما هو الشأن في كلِّ موارد النسخ، فأحكام الله تعالى تابعةٌ للمصالح والمفاسد، فهي تدور مدارها وجوداً وعدماً، فمتى ما كانت المصلحة مقتضية لشيء فإنَّ الحكم يُجعل وفقاً لما تقتضيه تلك المصلحة بعد الموازنة، فإذا زالت تلك المصلحة وصارت مقتضية لشيء آخر فإنَّ الحكم يُجعل وفقاً للمصلحة الحادثة. فلا يصحُّ بنظر العقلاء الوقوف على حكمٍ تمَّ جعله أولاً إذا كان مِلاك جعله قد انتفى وأصبح المِلاك مقتضياً لجعل حكمٍ آخر.

 

هل تتبدَّل المصلحة؟!

وأمَّا أنَّه كيف تكون المصلحة مقتضية في وقتٍ لحكم ثم تتبدَّل فتُصبح مقتضية لحكم آخر؟

 

فجوابه بيِّنٌ ويكفي الوجدان اليومي للوقوف على إمكانه، فكثيراً مايأمر الأب ابنَه والمعلِّم تلميذه بفعلٍ ثم بعد بُرهةٍ من الزمن يمنعه منه لا لأنَّه قد تبيَّن له خطأ أمره الأول بل لأنَّ الفعل كان في الزمن الأول واجداً للمصلحة ثم أصبح واجداً للمفسدة أو فاقداً لكلِّ مصلحة أو أصبح مزاحَماً بمصلحةٍ أهم اقتضت المنعَ والأمرَ بفعلٍ آخر، وكذلك فإنَّ الطبيب قد يأمر المريض بشرب دواءٍ معيَّن ثم بعد مدَّةٍ من الزمن ينهاه عن شربه ويأمرُه بشرب دواءٍ آخر، لأنَّ الدواء الأول بعد أنْ كان نافعاً للمريض أصبح ضاراً له لأنَّه استوفى غرضه فيُصبح مفعوله بعدئذٍ ضارَّاً بصحة المريض.

 

فاقتضاء المصلحة لفعلٍ ثم اقتضاؤها بعد بُرهةٍ من الزمن لغيره بل لنقيضه أمرٌ شائع ومشهودٌ وجداناً، فلا يصحُّ في مثل هذا الفرض الوقوف على الأمر باالفعل الأول بعد أنْ زالت عنه المصلحة المقتضية للأمر به وأصبحت مقتضية للأمر بفعلٍ آخر، كما أنَّ الإنتقال إلى الأمر بالآخر في الفرض المذكور لا يُعبِّر عن تبيُّن خطأ الأمر بالأول، لأنَّ الأمر بالأول كان هو المناسب للمصلحة في وقته ثم بعد أنْ زالت عنه المصلحة وأصبحت بجانب الفعل الآخر أو أصبحت المصلحة مزاحَمة بمصلحةٍ أهم، فمقتضى التعقُّل هو الأمر بالفعل الذي أصبح مناسباً للمصلحة في فرض أنَّ الفعل الأول قد زالت عنه المصلحة أو أصبح واجداً للمفسدة، وكذلك يكون مقتضى التعقُّل هو الأمر بالفعل الواجد للمصلحة الأهم بعد أنْ أصبح الفعل الأول مزاحَماً بها.

 

فالأمر كان كذلك حتماً بناءً على فرض العدَّة حولاً كاملاً ثم جعلها بعد برهةٍ من الزمن أربعة أشهرٍ وعشرا، فإنَّ فرض الحول الكامل كان هو المناسب لما تقتضيه المصلحة بعد الموازنة بين المِلاكات المتزاحمة ثم أصبحت المصلحة الأهم مِلاكاً بجانب فرض العدَّة أربعة أشهرٍ وعشرا.

 

إشكال: هل اختلف الزمانان لتختلف العدَّة؟

ولو قيل إنَّه لا نتعقَّل فرقاً بين الزمان الأول الذي فُرض فيه الحول الكامل وبين الزمان الثاني الذي فُرض فيه الأربعة أشهر والعشرة أيام.

 

الجواب:

فإنَّ جوابه أنَّ من غير الإنصاف والموضوعية الجزم بعدم الفرق بين الزمانين رغم الجهل بالملابسات والظروف الإجتماعيَّة والثقافية التي اكتنفت الفرض بالحول الكامل والفرض بالأربعة أشهر والعشرة الأيام بعد ذلك، ومن المعلوم أنَّ المجتمع الذي بُعث فيه النبيُّ(ص) كان قد شهد تحوُّلاً ثقافيًا وإجتماعياً متسارعاً في صدر الإسلام فكان يظهر جليَّاً هذا التحوُّل بين المدَّة والمدَّة القريبة منها.

 

ولا ريب أنَّ مثل الموروثات الثقافية والتربويَّة والإعتبارات الإجتماعيَّة كثيراً ماتكون دخيلةً في صيرورة بعض الأفعال مناسبة لما تقتضيه المصلحة أو مقتضية لصيرورة الفعل ذا مفسدةٍ رغم أنَّه واجدٌ للمصلحة في نفسه لو قُطع النظر عن ملاحظة هذه الملابسات.

 

والذي يؤكِّد أنَّ ذلك كان دخيلاً فيما فُرض من عدَّة هو أنَّ عدَّة المتوفَّى عنها زوجها كانت في العصر الجاهلي حولاً كاملاً فكان أولياء الميِّت يستوحشون ويأنفون من أنْ تتزوَّج زوجة ميِّتهم من أجنبيٍّ قبل انقضاء هذه المدَّة، وكان مفروضاً عليها الحِداد على ميِّتهم حولاً كاملاً، وكان السائد في أعرافهم آنذاك أنَّ المرأة المتوفَّى عنها زوجها مُلزَمة بالإنتقال إلى أحقر بيتٍ من بيوتات زوجها والمكث فيه مدَّة الحول، وكان عليها أنْ تختار من الثياب الأطمار البالية فتلتزم بلبسها مدَّة العدَّة، وليس لها أنْ تستحمَّ أو تمتشط أوتُقلِّم أظفارها أو تُزيل ماينبتُ من شعرٍ على بدنها بل ليس لها أنْ تتنظَّف من حيضٍ أو استحاضة ثم إذا أكملت الحول أخذت طائراً حيَّاً فمسحت بريشه موضع الحيض، وغالباً مايموت هذا الطائر لقذارة الموضع وشدَّة نتَنِه ثم إنَّها تأخذ بعرةً فتدحرجها على ظهر حمار أو كلب أو تُلقي بالبعرة خلفها وتقول: قد حللت(4)، فهي بمقتضى الثقافة السائدة تظلُّ في عهدة زوجها الميِّت وورثته مدَّة الحول ثم إنَّه لا يكون لها من ميراثه شيء.

 

فهذه الثقافة السائدة والمتأصِّلة تقتضي التدرُّج في تهذيبها، فأقرَّ الإسلام أولاً الحول الكامل وأمر في ذات الوقت الزوج بأنْ يُوصي لها بالنفقة والسكنى في بيت الزوجيَّة، وليس في أحقر وأسوأ بيوتات الزوج، ثم إنَّه ألغى الكثير من الطقوس التي جرت العادة على ضرورة التزام المعتدَّة بها مثل عدم الإستحمام والتنظُّف والتمشُّط ولزوم الإعتداد في بيت الزوج، فأباح لها الخروج من بيت زوجها والإعتداد عند أهلها.

 

فالمشرِّع وجد أنَّ المصلحة مقتضية لإقرار الحول أولاً، نظراً لإستبشاع العرف السائد تزوُّج المرأة قبل انقضاء الحول، ونظراً لإستيحاش واستنكاف أولياء الميِّت من تزوُّج إمرأة ميِّتهم من غيره قبل اعتدادها وحدادها حولاً كاملاً إلا أنَّه رغم إقراره للحول أخذ في تهذيب ما يلحق الإعتداد من ممارسات جاهليَّة ثم إنَّه وبعد أن تأصَّل الإسلام في الوسط الإجتماعي وضعُفت علاقتة بالموروثات الثقافيَّة الجاهليَّة فرض المشرِّع في العدَّة ماينبغي أن تكون عليه من وقت، وفرضَ للزوجة ميراثاً من تركة زوجها وهو الربع إنْ لم يكن له ولد، والثمن إنْ كان له ولد.

 

فالمشرِّع كان يعلم من أول الأمر أنَّ العدَّة التي سوف يتمُّ فرضها مؤبَّدا على المرأة المتوفَّى عنها زوجها هي التي يمتدُّ أمَدُها لأربعة أشهر وعشرة أيام إلا أنَّ المصلحة بعد الموازنة بين الملاكات كانت تقتضي فرض الحول أولاً، فالفرض للحول أولاً ثم فرض الأربعة أشهر وعشرا لم يكن ناشئاً عن تبيُّن عدم ملائمة فرض الحول لمقتضيات المصلحة بل لأنَّ المصلحة الأهم كانت مقتضية لفرضه أولاً ثم نسخه وفرض الأربعة أشهر والعشرة أيام كما هو الشأن في كلِّ موارد النسخ، ولم يكن من المصلحة الإخبار عن أنَّ هذا الحكم سوف يتمُّ نسخه فيما بعد، لأنَّ ذلك منافٍ لما يرومه المشرع من التدرُّج بالناس، فهم كانوا يستوحشون ويستبشعون زواج المرأة قبل انقضاء الحول الكامل، فإخبارهم أنَّ الحكم سوف ينسخ قد يترتب عليه نقض الغرض.

 

فالمشرِّع كان يتعاطى في هذا الشأن دور المربِّي البصير الذي يعلم بما سوف يأمر به تلامذته وما سوف يزجرهم عنه وما سيرشدهم إليه ولكنَّه لا يُلقي بأوامره وزواجره وإرشاداته في وقتٍ واحد بل يتدرَّج بهم في ذلك مراعياً ما تقتضيه مصلحتهم، فقد يأمر بفعلٍ وهو يعلم أنَّه سوف ينهى عنه فيما بعد، وقد يُقرُّهم على فعلٍ وهو يعلم أنَّه سوف يزجرهم عنه فيما بعد، وقد يتسامح في أمرٍ ثم يفرضُه عليهم فيما بعد.

 

جواب نقضي من كتاب العهدين

والمتحصَّل أنَّ الإلتزام بنسخ آية الحول بآية أنَّ العدَّة أربعة أشهرٍ وعشرا لا محذور فيه، ولا يستلزم الجهل بحاجة المرأة كما توهَّمه صاحبُ الشبهة وتبيَّن فساد هذا الوهم.

 

وهنا نُضيف إلى ما ذكرناه جواباً نقضيَّاً من كتاب العهدين الجامع للتوراة والإنجيل حيثُ إنَّ صاحب الشبهة يؤمن بعصمة هذا الكتاب بعهديه القديم وهو التوراة، والجديد وهو الإنجيل.

 

الطلاق مباحٌ ثم حرام كحرمة الزنا!!

فقد ورد في هذا الكتاب أنَّ الطلاق مباحٌ مطلقاً ولأيِّ مبرِّرٍ كان، ثم إنَّ هذا الحكم تمَّ نسخه فأصبح الطلاق محرَّماً إلا في فرض اقتراف الزوجة للزنا، وفيما عدا ذلك يكون الطلاق محرَّماً وباطلاً، فمَن طلَّق زوجته وتزوَّج من أخرى فهو زانٍ، ومن تزوَّج من مطلقةٍ فقد زنى.

 

فالحكم بالإباحة والصحة ورد في الأصحاح الرابع والعشرين من سفر التثنية رقم1-3 من العهد القديم، قال: "إذا أخذ رجلٌ امرأةً وتزوَّج بها فإنْ لم تجد نعمةً في عينيه لأنَّه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجلٍ آخر فإنْ أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتَّخذها له زوجة لا يقدر زوجها الأول الذي طلَّقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة"(5).

 

والحكم بحرمة الطلاق وفساده ورد في الإصحاح الخامس من إنجيل متَّى رقم 32، 31 من العهد الجديد قال السيِّد المسيح: "وقيل مَن طلَّق امرأته فليعطها كتاب طلاق، وأمَّا أنا فأقولُ لكم إنَّ مَن طلَّق إمرأته إلا لعلَّةِ الزنى يجعلها تزني. ومَن يتزوَّج مطلَّقةً فإنَّه يزني"(6).

 

وفي الإصحاح العاشر من إنجيل مرقس رقم 11، 12 عن السيد المسيح: "فقال لهم مَن طلَّق امرأته وتزوَّج بأُخرى يزني عليها وإن طلَّقت امرأةٌ زوجها وتزوَّجت بآخر تزني"(7).

 

وفي الإصحاح السادس عشر من إنجيل لوقا رقم 18: "كلُّ مَن يُطلِّق امرأته ويتزوَّج بأُخرى يزني. وكلُّ من يتزوًّج بمطلقةٍ من رجلٍ يزني"(8).

 

فالنصُّ الوارد في سفر التثنية صريحٌ في إباحة الطلاق، وأنَّه مباحٌ مطلقاً كما هو واضح من قوله: "لأنَّه وجد فيها عيبُ شيء" فمطلق العيب مبيحٌ للطلاق بمقتضى ما هو مفاد النص الوارد في سفر التثنية، بل إنَّ الطلاق مباح لمجرَّد الكراهة للزوجة وإنْ لم يكن ذلك ناشئاً عن عيبٍ فيها كما هو مقتضى قوله في ذات النص: "فإنْ أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته" فالطلاق مباحٌ مطلقاً، وهو صحيحٌ بمقتضى مثل قوله في ذات النص: "وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجلٍ آخر" فلو لم يكن الطلاق صحيحاً لما جاز لها أنْ تصير زوجةً لرجلٍ آخر.

 

وأما النص الوارد في إنجيل متَّى فهو صريحٌ في أنَّه بصدد إلغاء الحكم بإباحة الطلاق وصحَّته وأنَّه ناظرٌ لما ورد في سفر التثنية حيث قال: "وقيل من طلَّق امرأته فليعطها كتاب طلاق" ثم تصدَّى لإلغاء هذا الحكم بقوله: "وأمَّا أنا فأقول لكم إنَّ من طلَّق امرأته إلا لعلَّة الزنى يجعلها تزني. ومَن يتزوَّج مطلقةً فإنَّه يزني".

 

وأصرح من هذا النص في الحرمة ما ورد في إنجيل لوقا، قال: (كلُّ مَن يُطلق امرأته ويتزوج بأُخرى يزني. وكلُّ مَن يتزوَّج بمطلقةٍ من رجلٍ يزني) وكذلك ما ورد في إنجيل مرقس: (فقال لهم مَن طلَّق امرأته وتزوَّج بأُخرى يزني عليها).

 

لماذا؟!

فلماذا كان الطلاق مباحاً وكان التزوُّج من أخرى بعد طلاق الأُولى مباحاً ثم صار محرَّماً كحرمة الزنى؟ أليس هذا هو النسخ الذي يُشنِّع به صاحبُ الشبهة على المسلمين؟! فهل يلتزم صاحبُ الشبهة أنَّ الله تعالى أباح الطلاق وصحَّحه ثم تبيَّن له أنَّ هذا الحكم خاطئ فنسخه وفرض حكماً آخر؟!.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب شبهات مسيحيَّة

للشيخ محمد صنقور


1- سورة البقرة / 240.

2- سورة البقرة / 234.

3- سورة البقرة /219.

4- لاحظ وسائل الشيعة ج22 / ص237، جامع البيان لمحمد جرير الطبري ج2 / ص696، شرح صحيح مسلم للنووي ج10 / ص116، مسند أحمد ج6 / ص292، السنن الكبرى ج7 / ص428، فتح الباري لابن حجر ج9 / ص431 صحيح البخاري ج6 / ص186، عمدة القاري للعيني ج21 / ص4، الديباج على مسلم للسيوطي ج4 / ص113 وغيرها.

5- الكتاب المقدس (العهد القديم) -الكنيسة- ص316.

6- الكتاب المقدس (العهد الجديد) -الكنيسة- ص9.

7- الكتاب المقدس (العهد الجديد) -الكنيسة- ص74.

8- الكتاب المقدس (العهد الجديد) -الكنيسة- ص126.