معنى: ﴿لَا جَرَمَ﴾ في استعمال القرآن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى: ﴿لَا جَرَمَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾.

 

الجواب:

معنى: ﴿لَا جَرَمَ﴾ في تمام موارد استعمال القرآن لهذه الكلمة قريبٌ من معنى لابدَّ، ولا شكَّ، ولا محالة، فمفاد قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾(1) هو أنَّه لا شك ولا ريبَ ولابدَّ أنَّ لهم النار أي أنَّ من المقطوع به، ومن المعلوم والمحتوم أنَّ لهم النار.

 

وكذلك هو مفاد قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ﴾(5).

 

ففي تمام هذه الموارد استُعملت جملة: ﴿لَا جَرَمَ﴾ لإفادة معنى التحقُّق من الوقوع أو قل لإفادة معنى اليقين والجزم بالوقوع.

 

هذا من حيث المؤدَّى لجملة ﴿لَا جَرَمَ﴾ وأمَّا من حيثُ الأصل للجملة فوقع الخلاف في ذلك:

 

القول الأول:

فقيل إنَّ "لا" نافية و"جرَمَ" اسمُها منصوب تمامًا كقولنا لا رجل، ولا غلام،  وكقولنا لا ريب، ولا محالة، ولا شكَّ، ولذلك تكون الجملة بحاجةٍ إلى خبر فيُقال: لا رجلَ ولا غلامَ في الدار، فالجارُ والمجرور متعلِّقٌ بمحذوف خبر تقديره كائنٌ أو موجود في الدار.

 

وهكذا الشأن في مثل لا بدَّ للقيد أنْ ينكسر،  فإنَّ كلمة أنْ مصدرية ناصبة للفعل، وينكسر فعلٌ مضارع منصوب بأنْ، وهما مؤولان بمصدرٍ مجرور بحرف الجر "مٍن"، وتقدير الجملة ولا بدَّ للقيد من الانكسار أو لابدَّ مِن انكسار القيد، فقولُنا: من الانكسار أو من انكسار القيد هو خبر لابدَّ أي أنَّه متعلِّقٌ بمحذوف خبر تقديره كائن أو حاصل.

 

ومن ذلك يتَّضح معنى قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ فجملة: ﴿أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ في محلِّ جرٍّ بحرف محذوف والتقدير لا جرمَ في أنَّ لهم النار، والجار والمجرور هو خبر لا جرم أو قل هو متعلِّق بمحذوف خبر والتقدير لا جرم في أنَّ لهم النار متحقِّق، فدخولهم النار متحقِّق لا محالة.

 

القول الثاني:

أنَّ كلمة "جرَم" -كما أفاد سيبويه- فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح مثل أَكلَ وشربَ، وأمَّا كلمة "لا" فهي ردٌّ لقول أو فعلٍ أو قضيةٍ مشارٍ إليها في الكلام، ففي الآية مثلًا كلمة "لا" ردٌّ على ما وصفته ألسنتهم ﴿أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾ أو هو ردٌّ على جعلهم لله ما يكرهون فقوله: ﴿لَا﴾ يعني ليس القول ما قالوه أنَّ لهم الحسنى وأنَّ لهم الجنَّة أو ليس الجعل ما جعلوه، ومعنى جرم أنَّ لهم النار هو أنَّه حقَّ، وثبتَ، ووجب أنَّ لهم النار، وهذا هو معنى قول الخليل أنَّ "جرم" كلمة تحقيق.

 

وقيل إنَّ جرم فعلٌ ماضٍ بمعنى كسب، فمعنى الآية: لا، ليس القول ما قالوه أنَّ لهم الحسنى، ومعنى جرم أنَّ لهم النار هو أنَّه كسبهم قولُهم وكذبُهم أنَّ لهم النار أي أنَّ قولهم افتراءً وكذبًا أنَّ لهم الحسنى قد أكسبهم الاستحقاق للنار.

 

فكلمة جرم تأتي بمعنى كسب وحمَلَ كما في قول الشاعر:

ولقد طعنتُ أبا عُيينةَ طعنةً ** جرمتْ فزارةَ بعدها أنْ يغضبوا(6)

 

فمعنى: جرمتْ فزارةَ بعدها أنْ يغضبوا هو أنَّها كسبت فزارة أي أكسبتهم الغضب أو قل حملت فزارة على أنْ يغضبوا كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾(7) أي ولا يكسبنَّكم بغضُهم عدمَ العدلِ لهم أو ولا يحملنَّكم بغضُهم على عدم العدل لهم، وكذلك هو معني قوله تعالى: ﴿لا يجرمنكم شقاقي﴾(8) أي لا تكسبكم معاداتي ولا يحملكم بغضكم لي. وُيقال: جرَمني على بغضك فلانٌ أي حملني.

 

فمؤدَّى قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ هو أنَّه ليس القول ما قالوه وليس الجعل ما جعلوه، وجرم وكسب قولُهم الذي قالوه وجعلُهم الذي جعلوه الاستحقاق للنار.أي أنَّ هذا القول وهذا الجعل أكسبهم النار.

 

أو يكون معنى الآية بناء على القول الثاني هو أنَّه ليس القول ما قالوه، وليس الجعل ما جعلوه و﴿جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ وحقَّ لهم، وثبت ووجب لهم بهذا القول الذي قالوه أنَّ لهم النار.

 

والظاهر أنَّ هذا المعنى لا يختلف عن مؤدَّى كسب، فمآل معنى حقَّ لهم بهذا القول أنَّ لهم النار هو أنَّ هذا القول أكسبهم الاستحقاق للنار.

 

خلاصة القول:

وكيف كان فجملة: ﴿لَا جَرَمَ﴾ في تمام موارد استعمال القرآن تُؤدِّي معنى حقًّا، فهي بمنزلة اليمين المعبِّر عن اليقين بوقوع مدخولها، فلا جرم أنَّ لهم النار معناه حقًا ويقيتا أن لهم النار، و﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ معناه حقًّا وحتمًا أنَّهم الأخسرون في الآخرة، وهكذا.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

1 / ربيع الأوَّل / 1442هـ

18 / 10 / 2020م


1- سورة النحل / 62.

2- سورة هود / 22.

3- سورة النحل / 23

4- سورة النحل / 109.

5- سورة غافر / 43.

6- تاج العروس -الزبيدي- ج16 / ص103.

7- سورة المائدة / 8.

8- سورة هود / 89.