الرجمُ عذابٌ كما أنَّ الجلد عذاب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

البعضُ يحتجُّ لنفي عقوبة الرجم عن الزانية المُحصنة بدعوى أنَّ القرآن وصفَ عقوبة الزانية المتزوِّجة بالعذاب في قوله تعالى: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ..﴾([1]) وذلك يدلُّ على أنَّ عقوبة الزانية المُحصنة هو الجلد وليس الرجم، إذ أنَّ الرجم قتلٌ، ولا يُسمَّى القتلُ عذابًا، وذلك بخلاف الجلد فإنَّه يصدقُ عليه وصف العذاب.

 

الجواب:

لا يُعتبر في العذاب أنْ لا يكون مميتاً: 

العذابُ –بحسب الاستعمال اللُّغوي والعرفي- وصفٌ للألم الذي يشقُّ على النفس تحمُّله، ولا يُعتبر في صدقِه أنْ لا يتعقَّبه موت، فكما يصدقُ العذاب على الألم الشاقِّ الذي يزول بزوال سببه فتستريحُ النفسُ منه كذلك يصدقُ العذابُ على الألم الذي ينتهي بالموت أو الذي يكون سببًا للموت، نعم، الموت الذي لا يسبقُه ألمٌ لا يُوصف بالعذاب، ولكنَّ الألم الذي يكون سببًا للموت يُقالُ له عذاب، ولهذا يُضافُ العذاب إلى الاستئصال، فيُقال عذاب الاستئصال من باب إضافة الصفة إلى الموصوف (العذاب المستأصِل) وكذلك يُقال عذَّبه بالذبح، رغم أنَّ عاقبة الذبح هو زهاقُ الروح، فالموتُ لم يمنع -عرفًا ولغةً- من صحَّة وصف الذبح بالعذاب أو مِن إسناد وصف العذاب إلى الذبح، وكذلك يُقال عذَّبه بالخنق وبالإلقاءِ من شاهقٍ أو في بركة السِّباع رغم أنَّ عاقبة هذا النحو من العذاب هو الموت غالبًا، ويكونُ القصدُ عادةً من إيقاع هذا النحو من العذاب هو التنكيل المُفضي للموت.

 

كذلك هو الشأنُ في وصف الرجم بالعذاب، فإنَّ تعقُّبِ الموت للرجم لا يمنع من صدق عنوان العذاب عليه، إذ لا يُعتبر في صحَّة استعمال وصف العذاب أن لا تكون عاقبته الموت.

 

استعمالُ القرآن وصف العذاب في العقوبة المُميتة:

ويُمكن تأكيد ذلك بالكثير من الآيات التي وصفت العقوبات الواقعة على العُصاة من الأمم الغابرة بالعذاب رغم أنَّ الأثر المترتِّب عن هذه العقوبات هو الهلاك، فالعقابُ بالهلاك والاستئصال سمَّاه القرآنُ عذابًا في الكثير من الآيات، ونذكر لذلك نماذج ثلاثة:

 

النموذج الأول: ما وقع على قوم لوط (ع) بعد تماديهم في المعصية لله تعالى، فقد أخبر القرآنُ الكريم أنَّ الله تعالى قد أهلكهم عن آخرهم، فلم ينجُ منهم سوى نبيِّ الله لوط (ع) وأهله وحتى امرأة لوطٍ هلكتْ فيمن هلكوا قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ﴾([2]) إلى قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾([3]).

 

فعقوبةُ الاستئصال التي وقعت على قول لوطٍ (ع) عبَّر عنها القرآنُ في العديد من الآيات بالعذاب:

 

منها: قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ / إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ / يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾([4]) فوصف القرآنُ ما سيُصيبُ قوم لوط بقوله: ﴿عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ رغم أنَّ هذا العذاب كان مميتًا، فقد رجمهم بحجارة من سجيل وقلب أرضهم فصيَّر أعلاها أسفلها كما أفادت ذلك الآياتُ التي تلتْ هذه الآية: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾([5]).

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ / إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾([6]) إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾([7]) فوصف القرآنُ الحجارةَ التي حصبتْهم فأهلكتهم أنَّها: ﴿عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ ثم قال: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾.

 

النموذج الثاني: ما وقع لثمود قومِ صالح (ع) فإنَّ الله تعالى قد أهلكهم عن آخرهم بعد أنْ عقروا الناقة كما قال تعالى: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ / فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ / وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾([8]) وقد سمَّى القرآن ما وقع عليهم من عقوبة الاستئصال عذابًا في العديد من الآيات:

 

منها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾([9]) إلى قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ / وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ / فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ / فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ / فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾([10]). فوصفَ ما أصابهم من العقوبة بالعذاب رغم أنَّه كان مميتاً، ولم يستغرق طويلاً كما أفادت الآيات أنَّه عذاب يومٍ عظيم فصحَّ وصفُه بالعذاب رغم قصره وإيجابه للهلاك.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ([11]). فهي صاعقةٌ أذلَّتهم وأرعبتهم ثم فتكتْ بهم، فكان ذلك هو العذاب الذي اكتسبوه بسوء اختيارهم. 

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾([12]). فوصف القرآنُ ما أصاب قومَ ثمود بالعذاب الهون، وبالعذاب الأليم، وبأنَّه كان عذاب يومٍ عظيم رغم أنَّ الذي قد وقع عليهم كان عقوبةً مميتة قد أهلكتهم عن آخرهم.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ﴾([13]) إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ / وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ / فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ / فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ / إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾([14]) فبعد أنْ وصف القرآنُ ما وقع عليهم أنَّه عذاب وتساءل عن كيفية وقوعه أجاب بقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ فالموصوف بالعذاب في الآيات هو الصيحة التي صيَّرتهم ﴿كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ أي كحطام الأشجار المهشَّمة والتي يُتَّخذ منها حظيرةً للبهائم، ومعنى ذلك أنَّهم تحوَّلوا إلى أشلاء وجثامين مبعثرة، فهو عذاب عاقبته الموت.

 

النموذج الثالث: ما وقع لعادٍ قوم هود (ع) فإنَّ الله تعالى قد أهلكم بعد أنْ عتوا عن أمر ربِّهم وتمادوا في طغيانهم، وقد وصف القرآنُ ما أصابهم من عقوبة الاستئصال بالعذاب في العديد من الآيات:

 

منها: قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾([15]) إلى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ / تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾([16]) فقد أفادت هذه الآيات أنَّ الريح التي عصفتْ بهم كانت تحملُ إليهم عذابًا أليمًا، ثم وصفت هذه الريح ذات العذاب بأنَّها تدمِّر كلَّ شيءٍ، فلم تُبق منهم ولم تذر، وهو ما يؤكِّد أنَّ العذاب يصدقُ وإنْ تعقَّبه هلاك.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾([17]) فالعذاب الذي أصاب قوم هود كان غليظًا كما نصَّت الآية، وقد تمَّ وصفُه بالعذاب رغم أنَّه كان سببًا في هلاكهم.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ / إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ / تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ / فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ([18]) أي فكيف وجدوا عذابي وما أنذرتُهم به، فقد كان عذابًا صيَّر من جثامينهم كأنَّها أصول نخلٍ قد تمَّ اجتثاثها مِن مغارسها وأُلقيت على وجه الأرض، وقيل إنَّ منشأ تشبيههم بأعجاز النخل هو أنَّ رؤوسهم قد طارت عن أجسادهم بفعل الريح العاتية التي عصفتْ بهم، فصاروا كأنَّهم جذوع نخلٍ مجرَّدة عن رؤوسها، وقد صفهم القرآنُ في سورة الحاقَّة بقوله: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾([19]) أي كأنَّهم جذوع نخلٍ بالية ومُلقاة على وجه الأرض. فهو عذابٌ عاقبته الموتُ والهلاك.

 

وخلاصة القول: إنَّ العذاب كما يصدقُ في فرض بقاء المعذَّب على قيد الحياة كذلك يصدقُ في فرض وقوع الهلاك حينه وبعده، وعليه فلا يصحُّ الاحتجاج بوصف القرآن عقوبة الزانية المحصنة بالعذاب لإثبات دعوى أنَّ العقوبة ليست هي الرجم وإلا لما وُصفتْ بالعذاب، فإنَّ العذاب كما تُوصفُ به العقوبة غير المميتة كذلك تُوصف به العقوبةُ المميتة كما اتَّضح ذلك جليًّا من الشواهد القرآنية التي ذكرناها وثمة الكثير غيرها.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

13 / رجب المرجّب / 1442هـ

26 / فبراير / 2021م


[1]- سورة النور / 8.

[2]- سورة الشعراء / 160.

[3]- سورة الشعراء / 168-173.

[4]- سورة هود / 74-76.

[5]- سورة هود / 82-83.

[6]- سورة القمر / 33-34.

[7]- سورة القمر / 38-39.

[8]- سورة النمل / 51-53.

[9]- سورة الشعراء / 141-142.

[10]- سورة الشعراء / 155-158.

[11]- سورة فصلت / 17.

[12]- سورة الأعراف / 73.

[13]- سورة القمر / 23.

[14]- سورة القمر / 27-31.

[15]- سورة الأحقاف / 21.

[16]- سورة الأحقاف / 24-25.

[17]- سورة هود / 58.

[18]- سورة القمر / 18-21.

[19]- سورة الحاقة / 7.