دعوة نوح وتحقيق الوعد الإلهي في المستقبل

﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا / إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾(1).

في الآيتين الكريمتين عدَّة وقفات حول مسيرة نوح (ع) مع قومه وكذلك تحمل الآيات في ما تتضمنه من معنى البشارة العظمى بملء الأرض قسطًا وعدلاً بعدما ملئت ظلمًا وجورا.

فنجد أن نوحًا (ع) قد دعا على قومه بالهلاك ليشمل جميعهم، وذلك واضح من كلمة ﴿دَيَّارًا﴾ والتي تعني (ساكن الدار) وذلك بعد ما جربهم وأمضى معهم من العمر ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعوهم للإيمان وترك عبادة الأصنام التي كانوا عليها عاكفين والتي مارس سادة الكفر ضغوطهم لتكون آلهة لقومهم استمرارًا للطغيان واستعبادًا للضعفاء من الناس.

ومن الوقفات في هاتين الآيتين الكريمتين إلماعة حول جهد نوح (ع): فهل تعب نوح وبلغ به اليأس أن يدعو على قومه؟

إنَّه (ع) لم ييأس قطعًا فهو نبي ورسول اختاره الله تعالى على علم، وهو من أولي العزم الذين عرفوا بطول الصبر وشدة البأس في تحمل الصعاب، والدليل صبره على قومه تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعوهم للإيمان ولولا النبأ القرآني والإخبار الإلهي له بأنه لن يؤمن له إلا من قد آمن، وكذلك الأمر بصنع السفينة والاستعداد ليواصل دعوته ولم يتوقف، ولكنه صلوات الله عليه يتحدث عن جزئيات عمله الرسالي وحجم المهمة التي أوكلت إليه، لذلك تجد في كل الآيات السابقة على هذه الآيات تعدادًا لمفاصل الحركة وجزئيات الدعوة وكيف كان عصيانهم له في كل مرحلة.

وقد يسأل أيضًا: أن هناك من آمن بنوح (ع) فلماذا لم يذكرهم وأطلق دعوته عامة؟ إن المؤمنين حتما غير مشمولين بتلك الدعوة وإنَّ المشمول بها هم أهل الكفر والعصيان، وإنَّ الأنبياء صلوات الله عليهم يتمنَّون ما يريده الله تعالى لعباده، فالله تعالى يريد أن يتوب على عباده والذين يتبعون الشهوات .. ولا يرضى لهم الكفر أو الاغترار بأماني الشيطان ولذلك تجد هذه الصورة واضحة في قول نوح: ﴿إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ وهي الآيات التي مهدت لأجواء الآيات المذكورة حين دعا نوح (ع) على قومه.  ثم قد يقال كيف علم نوح بأنهم إن بقوا فلن يلدوا إلا فاجرًا كفارا في الوقت الذي يولد فيه الإنسان على الفطرة وأن الكفر لن يظهر إلا عند بلوغ الإنسان حدًا من التميز والعقل والنضج؟

إن نوحًا (ع) هو نبي يوحى إليه من السماء، وقد أشار الوحي الإلهي إليه بما هو حاضر وما هو آت من مستقبل هؤلاء، وهذا أوضحته الآية الشريفة: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾(2).

فهذا نص واضح وصريح في أن القوم قد استحكم الشيطان على قلوبهم وأنهم إضافة إلى عدم إيمانهم فإنهم قد خلقوا أجواء الكفر لذرياتهم، فبحسب ما تناقلته الروايات الشريفة أنهم كانوا إذا حضرتهم ساعة الوفاة أوصوا أولادهم بعدم التصديق لنوح (ع) وهذا ما ساعد في تكوين هذا التصور نتيجة لاستقراء سلوكهم، حيث يهلك الكبير منهم ويقتدي على أثره الصغير.

وقد جاء في الرواية عن صالح بن ميثم قال: "قلت لأبي جعفر الباقر (ع): ما كان علم نوح حين دعا على قومه أنهم لا يلدون إلا فاجرًا كفارًا؟ فقال: أما سمعت قول الله لنوح أنه لن يؤمن لك إلا من قد أمن. هذا من جانب ومن جانب آخر، إن خبث النطفة التي تنعقد من أبوين خبيثين يتحد معهما في التأثير خبث المحيط الاجتماعي أو الحاضنة الاجتماعية التي ينشأ تحت ظلالها هذا الوليد، فإن نتيجتها الطبيعية غرس بذرة الكفر والنفاق منذ الصغر فلا يخرج من هذه البيئة إلا من انغمس قلبه في الكفر وتمحّض في النفاق، فلا يرى النور ولا الهداية إلا من ألقي في قلبه، وبذلك فإن فطرته تنحرف حتمًا، فمن يكون هكذا في صغره فما هو حاله عند الكبر.

ومن الوقفات أيضًا في هذه الآيات الكريمة قوله: ﴿لَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾، حيث الفاجر هو الذي يرتكب الذنب الشنيع الكبير والقبيح، وإنَّ الفجور هو السلوك العملي للكفر، والكافر هو الذي قد بالغ في كفره إلى حد بلغ معه الضلال الكامل عقائديًا وفكريًا، فلا وجود لبصيص نور في قلبه وروحه، فتراه سلوكه الظلم والقهر والاستبداد والطغيان وهتك الحرمات.

إذن، ماذا يستفاد من هذه الآيات الواردة في دعوة نوح (ع)؟ ألم يستجب الله تعالى لدعوة نبيه صلوات الله عليه؟ خصوصا أنه قال: ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ﴾، وحيث إننا لا نزال نرى الظالمين ظاهرين على الأرض؟

إن الله تعالى قد استجاب لدعوة نبيه (ع) وأهلك الظالمين في زمان نوح (ع)، وأراد الله تعالى أن يحكم آياته ويلقي حجته على عباده، ففي كل زمان يأتي داعي النور والهداية، ويقابله داعي الكفر والضلالة، وإنَّ الله تعالى قد أحكم مسيرة الحياة بقانون تسير عليه إلى أن تبلغ مداها، وإن أخباره تعالى صادق لا كذب فيه ولا تبديل ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾(3)، ومما يستفاد من هذه الآية أن الوعد الإلهي الكامل يتحقق مع ظهور حجته في أرضه الذي قال فيه سيد الكونين نبينا الأعظم (ص): لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطّول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي يملأ الدنيا قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا.

إذن تكون حركة المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف هي دعوة كل الأنبياء والمرسلين التي يحقق الله بها العدل على هذه الأرض ويعلن نهاية مهلة الظالمين وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(4).

وكذلك قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾(5).

فمتى تحقق هذا الوعد؟ إنه سيتحقق إن شاء الله على يد وليِّه وحجته ليكون مصداقًا لدعوة وحركة كل الأنبياء والمرسلين ليحقق به الظهور الكامل لدعوة سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله (ص) حين قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ / هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(6).

اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم على محمَّد وآل محمَّد وعجل فرجهم وأهلك عدوهم، اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه الطاهرين في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلاً وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلاً برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم اجعلنا من شيعته وأعوانه وأنصاره المجاهدين بين يديه والمستشهدين تحت رايته ولوائه والفائزين بشفاعته وشفاعة آبائه الطاهرين.

أمر بطاعته إذا لم يكن هو معصوم ومبرأ من كل تهمة ومعصية وخطأ.

----------------

1- سورة نوح / 26-27.

2- سورة هود / 36.

3- سورة فاطر / 43.

4- سورة الأنبياء / 105.

5- سورة القصص / 5.

6- سورة الصف / 8-9.