التمثيل الثامن - سورة البقرة

﴿يَا أيُّها الّذِينَ آمَنوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنّ وَالأذى كَالّذى يُنْفِقُ مَالَهُ رئَاءَ النّاسِ وَلا يُوَْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُون َعَلى شيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِين﴾(1).

الرئى من الروَية، وسمي المرائي مرائياً، كأنّه يفعل ليرى غيره ذلك.

والصفوان واحدته صفوانة، مثل سعدان وسعدانة، ومرجان و مرجانة، وهي الحجر الأملس.

و"الوابل": المطر الشديد الوقع. و "الصلد": الحجر الأملس أي الصلب، و"الصلد" من الأرض مالا ينبت فيه شيئاً لصلابته.

قدمرّ في التمثيل السابق انّ التلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه، والعفو عما يصدر منه من إلحاف وإزعاج، أفضل من أن ينفق الإنسان ويتبع عمله بالأذى.

وأمّا ما هو سببه، فقد بيّنه سبحانه في هذا التمثيل، وذلك بأنّ المنَّ والأذى يبطل الإنفاق السابق، لأنّ ترتب الأجر على الإنفاق مشروط بترك تعقبه بهما، فإذا اتبع عمله بأحد الأمرين فقد افتقد العمل شرط استحقاق الأجر.

وبهذا يتبيّن أنّ الآية لا تدلّ على حبط الحسنة بالسيئة، لأنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السىّء الثواب المكتوب المفروض، والآية لا تدلّ عليه لما قلنا من احتمال أن يكون ترتب الثواب على الإنفاق مشروطاً من أول الأمر بعدم متابعته بالمنِّ والأذى في المستقبل، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والأذى.

وأمّا استخدام كلمة الإبطال، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للأجر وهو الإنفاق، ولا يتوقف على تحقّق الأجر ومفروضيته على الله بالنسبة إلى العبد.

ثمّ إنّ الحبط باطل عقلاً وشرعاً.

أمّا الأوّل فلما قُرِّر في محله من استلزامه الظلم، لأنّ معنى الحبط أنّ مطلق السيئة يذهب الحسنات وثوابها على وجه الإطلاق مع أنّه مستلزم للظلم، لأنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر -فعلى القول بالإحباط- يكون بمنزلة من لم يحسن.

وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسىَ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنهما(2).

وأمّا شرعاً فلقوله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ / وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَذَرَّةٍ شَراً يَرَه﴾(3).

وإلى هذين الوجهين أشار المحقّق الطوسى بقوله:

والإحباط باطل، لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه﴾(4).

ثمّ إنّ العبد بما انّه لا يملك شيئاً إلاّ بما أغناه الله وأعطاه، فهو ينفق من مال الله سبحانه، لأنّه وما في يده ملك لمولاه فهو عبد لا يملك شيئاً إلاّ بتمليكه سبحانه، فمقتضى تلك القاعدة أن ينفق لله وفي سبيل الله ولا يتبع عمله بالمنّ والأذى.

وبعبارة أُخرى: أنّ حقيقة العبودية هي عبارة عن حركات العبد وسكناته لله سبحانه، ومعه كيف يسوّغ له اتّباع عمله بالمنِّ والأذى.

ولذلك يقول سبحانه: ﴿يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالأذى﴾.

ثمّ إنّه سبحانه شبّه أصحاب المنِّ والأذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة الله تعالى، ولا يقصد به وجه الله غير انّ المانّ والمؤذي يقصد بعمله مرضاة الله ثمّ يتبعهما بما يبطله بالمعنى الذي عرفت، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه الله سبحانه فيقع عمله باطلاً من رأس، ولذلك صحّ تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي.

وأمّا حقيقة التمثيل فتوضيحها بالبيان التالي:

نفترض أرضاً صفواناً أملس عليها تراب ضئيل يخيل لأوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للنبات، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلداً صلباً أملس لا تصلح لشىء من الزرع، كما قال سبحانه: ﴿كمَثَل صَفْوان عَلَيْهِ تُراب فَأصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكهُ صَلداً لا يَقْدِرُون على شيء مِمّا كسبوا﴾.

فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن ردىء، فالإنسان غير العارف بحقيقة نيّة العامل يتخيل أنّ عمله منتج، كما يتصور الإنسان الحجر الأملس الذي عليه تراب قليل فيتخيل انّه صالح للنبات، فعند ما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين أنّه حجر أملس لا يصلح للزراعة، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الأستار تبين أنّه عمل ردىء عقيم غير ناتج.

ثمّ إنّ المانّ و الموَذي بعد الإنفاق أشبه بعمل المرائي.


1- سورة البقرة / 264.

2- كشف المراد: المقصد السادس، المسألة السابعة.

3- سورة الزلزلة / 7-8.

4- المصدر نفسه.