حيى

 

الحياة تستعمل على أوجه:

 

الأول: للقوة النامية الموجودة في النبات والحيوان، ومنه قيل: نبات حي، قال عز وجل: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ الحديد/17، وقال تعالى: ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا﴾ ق/11، ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ الأنبياء/30.

 

الثانية: للقوة الحساسة، وبه سمي الحيوان حيوانا، قال عز وجل: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ فاطر/22، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا﴾ المرسلات/25 - 26، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فصلت/39، فقوله: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا﴾ إشارة إلى القوة النامية، وقوله: ﴿لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ إشارة إلى القوة الحساسة.

 

الثالثة: للقوة العاملة العاقلة، كقوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ الأنعام/122، وقول الشاعر: وقد أسمعت لو ناديت حيا *** ولكن لا حياة لمن تنادي (البيت لكثير عزة من قصيدة له يرثي بها خندفا الأسدي، ومطلعها: شجا أظعان غاضرة الغوادي *** بغير مشورة عرضا فؤادي، وهو في ديوانه ص 223؛ ومعجم البلدان 4/194؛ والأغاني 12/173)

 

والرابعة: عبارة عن ارتفاع الغم، وبهذا النظر قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء (البيت لعدي ابن الرعلاء، والرعلاء أمه، وبعده: إنما الميت من يعيش كئيبا *** كاسفا باله قليل الرجاء، وهو في معجم الشعراء ص 252؛ وقطر الندى ص 234؛ واللسان (موت) ؛ والبصائر 2/512)

 

وعلى هذا قوله عز وجل: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ﴾ آل عمران/169، أي: هم متلذذون، لما روي في الأخبار الكثيرة في أرواح الشهداء (انظر في ذلك الدر المنثور 2/371).

 

والخامسة: الحياة الأخروية الأبدية، وذلك يتوصل إليه بالحياة التي هي العقل والعلم، قال الله تعالى: ﴿اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ الأنفال/24 (وعن مجاهد في الآية قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة)، وقوله: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ الفجر/24، يعني بها: الحياة الأخروية الدائمة.

 

والسادسة: الحياة التي يوصف بها الباري، فإنه إذا قيل فيه تعالى: هو حي، فمعناه: لا يصح عليه الموت، ليس ذلك إلا لله عز وجل.

 

والحياة باعتبار الدنيا والآخرة ضربان: الحياة الدنيا، والحياة الآخرة: قال عز وجل: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ النازعات/38، وقال عز وجل: ﴿اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ﴾ البقرة/86، وقال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ الرعد/26، أي: الأعراض الدنيوية، وقال: ﴿وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا﴾ يونس/7، وقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ البقرة/96، أي: حياة الدنيا، وقوله عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾ البقرة/260، كان يطلب أن يريه الحياة الأخروية المعراة عن شوائب الآفات الدنيوية. وقوله عز وجل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ البقرة/179، أي: يرتدع بالقصاص من يريد الإقدام على القتل، فيكون في ذلك حياة الناس. وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ المائدة/32، أي: من نجاها من الهلاك، وعلى هذا قوله مخبرا عن إبراهيم: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ البقرة/258، أي: أعفو فيكون إحياء.

 

الحيوان: مقر الحياة، ويقال على ضربين: أحدهما: ما له الحاسة، والثاني: ما له البقاء الأبدي، وهو المذكور في قوله عز وجل: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ العنكبوت/64، وقد نبه بقوله: ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ أن الحيوان الحقيقي السرمدي الذي لا يفنى، لا ما يبقى مدة ثم يفنى، وقال بعض أهل اللغة: الحيوان والحياة واحد (وهو مروي عن قتادة، راجع اللسان (حيا)، وقيل: الحيوان: ما فيه الحياة، والموتان ما ليس فيه الحياة. والحيا: المطر؛ لأنه يحيي الأرض بعد موتها، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ الأنبياء/30، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَ﴾ مريم/7، فقد نبه أنه سماه بذلك من حيث إنه لم تمته الذنوب، كما أماتت كثيرا من ولد آدم صلى الله عليه وسلم، لا أنه كان يعرف بذلك فقط فإن هذا قليل الفائدة. وقوله عز وجل: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ يونس/31، أي: يخرج الإنسان من النطفة، والدجاجة من البيضة، ويخرج النبات من الأرض، ويخرج النطفة من الإنسان. وقوله عز وجل: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ النساء/86، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾ النور/61، فالتحية أن يقال: حياك الله، أي: جعل لك حياة، وذلك إخبار، ثم يجعل دعاء. ويقال: حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك، وأصل التحية من الحياة، ثم جعل ذلك دعاء تحية، لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة، أو سبب حياة إما في الدنيا؛ وإما في الآخرة ومنه (التحيات لله) (حديث التشهد، أخرجه البخاري 2/311، باب التشهد في الآخرة؛ ومسلم برقم (402) ؛ والترمذي انظر: عارضة الأحوذي 2/83، ومعالم السنن 1/226) ؛ وابن ماجه برقم (899) ؛ والنسائي 2/240 في التشهد).

 

وقوله عز وجل: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ﴾ البقرة/49، أي: يستبقونهن، والحياء: انقباض النفس عن القبائح وتركه، لذلك يقال: حيي فهو حي (انظر: الأفعال 1/372)، واستحيا فهو مستحي، وقيل: استحى فهو مستح، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ البقرة/26، وقال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ الأحزاب/53، وروي: (إن الله تعالى يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه) (الحديث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحي أن يعذب شيبة شابت في الإسلام).

 

قال العجلوني: هكذا ذكره الغزالي في الدرة الفاخرة، ورواه السيوطي في الجامع الكبير عن ابن النجار بسند ضعيف. راجع: كشف الخفاء 1/244) فليس يراد به انقباض النفس، إذ هو تعالى منزه عن الوصف بذلك وإنما المراد به ترك تعذيبه، وعلى هذا ما روي: (إن الله حيي) (الحديث عن سلمان عن النبي قال: (إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم. قال البغوي: هذا حديث حسن غريب.

 

وقال ابن حجر: سنده جيد. راجع: فتح الباري 11/143؛ وشرح السنة 5/185؛ وسنن ابن ماجه 2/1271؛ وسنن أبي داود برقم (1488) كتاب الصلاة، باب الدعاء؛ وعارضة الأحوذي 13/68؛ والحاكم 1/497؛ وانظر: الفتح الكبير 1/333.

 

وفي حديث آخر: (إن الله تعالى حيي ستير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) أخرجه أحمد في المسند 4/224؛ وأبو داود برقم 4012 والنسائي 1/200، وانظر: الفتح الكبير 1/333) أي: تارك للقبائح فاعل للمحاسن.