حديث حول سورة الماعون (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمَّد وآل محمَّد الطَّيبين الطَّاهرين

 

اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك.

 

توقَّفنا في الجلسة السَّابقة عند قوله تعالى من سورة الماعون: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾(1)، وقلنا أنَّ معنى دعَّ اليتيم هو ردُّه بعنفٍ وقسوة وجفاء كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾(2)، أي يُدفعون إليها بعنف وشِدَّة إمعانًا في إهانتهم وإذلالهم.

 

وذكرنا أنَّ دعَّ اليتيم وتعنيفه وزجره ما هو إلاّ مظهر من مظاهر ظلم اليتيم، وعليه يكون المقصود من دعِّ اليتيم في الآية المباركة هو مطلق الظلم لليتيم، فالاستيلاء على أموال اليتامى وإن كان برفق يكون من الظلم وهكذا التَّصرُّف في أموالهم دون وجهٍ شرعيّ يكون من الظُّلم.

 

وهنا نودُّ أن نشير إلى مظهرين من مظاهر الظُّلم لليتيم:

المظهر الأوَّل: يمارسه الكثير من الأقارب عندما يموت لهم ميِّت ويكون له صبية صغار فإنَّهم يبقون يتقلَّبون في نعيم ذلك الميِّت فيجلسون على فراشه ويأكلون من طعامه ويتصرَّفون في بيته تصرُّفَ المالك دون أن يلتفتوا إلى أنَّ كلَّ هذه الأموال قد أصبحت ملكًا لليتامى وعليه لا يجوز التَّصرَّف فيها مجَّانًا ودون إذنٍِ من وليِّهم، وفيهم من هو ملتفتٌ لذلك إلاّ أنَّه لا يعبأ ولا يكترث نظرًا لكون هؤلاء اليتامى عاجزين عن الحياطة على أموالهم بل قد لا يكونون مدركين لكونهم أصحاب حق.

 

والأنكى من ذلك أنَّ بعض الأقارب يقتطع من أموال اليتامى ما يتمكَّن من اقتطاعه ثمَّ يجعله لنفسه ويضمّهُ لممتلكاته، هؤلاء هم الذين حكى عنهم النَّبيّ الكريم (ص) حينما قال: "يُبعث أناسٌ من قبورهم يوم القيامة تأجُّج أفواههم نارًا" فقيل له: "يا رسول الله، من هؤلاء؟"، قال (ص): "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا"(3).

 

وورد في حديث المعراج عن النَّبيّ (ص) قال: "نظرت فإذا أنا بقومٍ لهم مشافرُ كمشافر الإبل، وقد وكَّل الله بهم من يأخذ بمشافرهم ثُمَّ يجعل في أفواههم صخرًا من نارٍ فتُقذف في أحدهم ثُمَّ تخرج من أسافلهم، ولهم خوارٌ وصراخٌ"، فقلتُ: "يا جبرئيل من هؤلاء؟"، قال: "هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّما يأكلون في بطونهم نارًا"(4).

 

وورد أيضًا في البحار أنَّ النَّبيّ (ص) قال: "لمَّا أُسرِيَ بيَ إلى السَّماء رأيت قومًا تُقذف في أجوافهم النَّار وتخرج من أدبارهم، فقلتُ من هؤلاء يا جبرئيل؟" فقال: "هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا"(5).

 

وهنا أودُّ التَّنبيه على أنَّ المراد من اليتامى في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾(6)، ليس هو من فقد أباه وحسب بل المراد منه مطلق الصَّغير -كما أفاد ذلك الفقهاء-، وعليه قد يكون الأب ممَّن يأكل أموال اليتامى عندما يأخذ أموال أبنائه الصِّغار لنفسه ويجعلها ضمن ملكه.

 

المظهر الثَّاني: من مظاهر الظُّلم لليتيم هو منع الخمس عن مستحقِّيه، فلأنَّ يتامى آل الرسول (ص) ممَّن لهم حقّ في الخمس لذلك يكون منع الخمس ظلمًا ليتامى آل الرسول (ص)، قال تعال: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(7).

 

يتوهَّم الكثير من النَّاس أنَّ ما عندهم من أموال ملك خالصٌ لهم والحال أنَّ كُلَّ ما عندهم إنَّما هو من عند الله تعالى ومن عطائه وفضله لذلك لا يسوّغُ لهم أن يتصرَّفوا في هذه الأموال إلاّ بالنَّحو الذي أَذِنَ الله به، ولأنَّه تعالى -هو المالك الحقيقيّ لكلِّ شيء- لم يأذن للإنسان أن يتصرَّف في خمس أمواله ممَّا فَضَلَ عن مؤنته وأفاد أنَّ الخمس وديعةٌ عندهم يَلزمهم إيصالها لمستحقِّيها فحينئذٍ يكون التَّصرُّف فيها والاستفادة الشَّخصيَّة منها ظلمًا للمستحقِّين ومنهم يتامى آل الرَّسول (ص) فيكون المانع للخمس والأكل له مشمولاً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾(8)، ومشمولاً للرِّوايات التي قرأنا بعضها والتي أفادت أنَّ آكل مال اليتيم يُبعَث يوم القيامة وفمه يتأرجح نارًا.

 

روى الشَّيخ الصَّدوق في إكمال الدّين بسنده إلى محمَّد بن جعفر الأسدي قال: "كان فيما ورد عليَّ من الشَّيخ أبي جعفر محمَّد بن عثمان العمري (السَّفير الثَّاني) في جواب مسائلي إلى صاحب الدَّار (ع) قال: وأمَّا ما سألت عنه من أمر من يستحلُّ ما في يده من أموالنا ويتصرَّف فيه تصرُّفَهُ في ماله من غير أمرنا، فمن فعل ذلك فهو ملعون ونحن خصماؤه، فقد قال النَّبيّ (ص) المستحِلُّ مِن عترتي ما حرَّم الله ملعون على لساني ولسان كُلِّ نبيّ مجاب"(9).

 

وروى الشَّيخ الطُّوسي في التَّهذيب بسنده إلى أبي جعفر الثَّاني "الإمام الهادي (ع)" قال: "يثب أحدهم على أموال آل محمَّد وأيتامهم ومساكينهم فيأخذها .. واللهِ ليسألنَّهم اللهُ تعالى عن ذلك يوم القيامة سؤالاً حثيثًا"(10).

 

ننتقل إلى الآية الثَّانية وهي قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(11).

 

المُرادُ من الحضِّ هو الحثّ والتَّرغيب، والمُراد من المسكين هو الفقير المعوز، وقيل إنَّه أسوَأُ حالاً من الفقير، لذلك يُعرَّفُ بأنَّه الذي لا يملك قوت يومه له ولعياله، والفقير هو مَن لا يملك قوت سنته له ولعياله.

 

ويذكر بعض الفقهاء والمفسِّرين بأن لفظ المسكين إذا اجتمع مع لفظ الفقير في سياقٍ واحد كان المقصود من أحدهما غير الآخر كآية الصَّدقات(12) فيكون الفقير هو من لا يملك قوت سنته أو هو من لا يتعرَّضُ للسُّؤال تعفُّفًا، والمسكين هو من لا يملك قوت يومه أو هو من يتعرَّضُ لسؤال النَّاس. وأمَّا إذا افترقا أي لم يُذكَرَا في سياقٍ واحد فهما أي لفظ الفقير والمسكين يكونان بمعنىً واحد.

 

وبناءً على هذا المعنى يكون المراد من المسكين في الآية المباركة هو الفقير بتمام مراتبه وأصنافه، وعلى أي حالٍ فقد ذُكر نظير هذه الآية المباركة في سورٍ عديدةٍ وهو تعبيرٌ عن اهتمام القرآن بمضمونها.

 

فقد ذُكرت في سورة الحاقَّة وهي قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ / وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ / يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ / مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ / هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ / خُذُوهُ فَغُلُّوهُ / ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ / ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ / إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ / ولاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ / فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ / ولاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ / لَا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ﴾(13).

 

وذُكر قريبًا من مضمون هذه الآية في سورة الفجر: ﴿كلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ / ولاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ / وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا / وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا / كلاَ إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا / وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا / وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾(14).

 

وورد هذا المضمون في سورة المُدَّثِّر: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ / قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ / وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ / وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ / وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾(15).

 

بعد ذلك يقع البحث عن سرّ اهتمام القرآن الكريم بمضمون الآية المباركة، نستكمل الحديث فيما بعد.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

الجمعة 20 محرم 1428هـ


1- سورة الماعون / 2.

2- سورة الطور/ 13.

3- تفسير العيَّاشي: 1/225.

4- الدُّر المنثور: 2/443.

5- البحار: 79/267.

6- سورة النساء / 10.

7- سورة الأنفال / 41.

8- النساء/10.

9- الوسائل: باب 3 من أبواب الأنفال ج 7.

10- الوسائل: باب 3 من أبواب قسمة الخمس ج 2.

11- الماعون/3.

12- ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة/60

13- الحاقَّة/25-37.

14- الفجر/ 17-23.

15- المُدَّثِّر/42-46.