تمحيص الرأي المعارض
ما قدّمناه هو المعروف عن رواة الآثار، وعند الباحثين عن شؤون القرآن، منذ الصدر الأوّل فإلى يومنا هذا، ويوشك أنّ يتّفق عليه كلمة أرباب السير والتواريخ ولكن مع ذلك نجد من ينكر ذاك التفصيل في جمع القرآن، ويرى أنّ القرآن بنظمه القائم وترتيبه الحاضر كان قد حصل في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله).
وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من علماء السلف كالقاضي وابن الأنباري والكرماني والطيبي(1)، ووافقهم علم الهدى السيد المرتضى (قدس سره) قال: كان القرآن على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموعًا مؤلفًا على ما هو عليه الآن. واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عيّن جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويتلى عليه.
وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات. وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعًا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث(2).
لكن حفظ القرآن هو بمعنى: حفظ جميع سوره التي اكتملت آياتها، سواء أكان بين السور ترتيب أم لا. وهكذا ختم القرآن هو بمعنى: قراءة جميع سوره من غير لحاظ ترتيب خاصّ بينها. أو الحفظ كان بمعنى الاحتفاظ على جميع القرآن النازل لحدّ ذاك والتحفظ عليه دون الضياع والتفرقة، الأمر الذي لا يدلّ على وجود ترتيب خاصّ كان بين سوره كما هو الآن.
هذا وقد ذهب إلى ترجيح هذا الرأي أيضًا، سيدّنا الأُستاذ الإمام الخوئي (دام ظله) نظرًا إلى الأُمور التالية:
أوّلاً: أحاديث جمع القرآن بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بنفسها متناقضة، تتضارب مع بعضها البعض، ففي بعضها تحديد زمن الجمع بعهد أبي بكر، وفي آخر بعهد عمر وفي ثالث بعهد عثمان. كما أنّ البعض ينصّ على أنّ أوّل من جمع القرآن هو زيد بن ثابت. وآخر ينصّ على أنه أبو بكر، وفي ثالث أنّه عمر .. إلى أمثال ذلك من تناقضات ظاهرة.
ثانيًا: معارضتها بأحاديث دلّت على أنّ القرآن كان قد جمع على عهده (صلى الله عليه وآله) منها حديث الشعبي، قال: جمع القرآن على عهده (صلى الله عليه وآله) ستة أُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد. وفي حديث أنس أنّهم أربعة: أُبي، ومعاذ، وزيد، وأبو زيد. وأمثال ذلك.
ثالثًا: منافاتها مع آيات التحدّي، التي هي دالة على اكتمال سور القرآن وتمايز بعضها عن بعض. ومتنافية أيضًا مع إطلاق لفظ الكتاب على القرآن في لسانه (صلى الله عليه وآله) الظاهر في كونه مؤلفًا كتابًا مجموعًا بين دفّتين.
رابعًا: مخالفة ذلك مع حكم العاقل بوجوب اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بجمعه وضبطه عن الضياع والإهمال.
خامسًا: مخالفته مع إجماع المسلمين، حيث يعتبرون النصّ القرآني متواترًا عن النبيّ نفسه (صلى الله عليه وآله) في حين أنّ بعض هذه الروايات تشير إلى اكتفاء الجامعين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة رجلين أو رجل واحد!
سادسًا: استلزم ذلك تحريفًا في نصوص الكتاب العزيز، حيث طبيعة الجمع المتأخر تستدعي وقوع نقص أو زيادة في القرآن. وهذا مخالف لضرورة الدين(3).
وزاد بعضهم: إن في المناسبة الموجودة بين كل سورة مع سابقتها ولاحقتها لدليلاً على أن نظمها وترتيبها كان بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ لا يعرف المناسبة بهذا الشكل المبدع البالغ حد الإعجاز غيره (صلى الله عليه وآله).
لكن يجب أن يعلم: إن قضية جمع القرآن حدث من أحداث التاريخ، وليست مسألة عقلانية قابلة للبحث والجدل فيها. وعليه فيجب مراجعة النصوص التاريخية المستندة، من غير أن يكون مجال لتجوال الفكر فيها على أية حال!
وقد سبق اتفاق كلمة المؤرخين ونصوص أرباب السير وأخبار الأمم، ووافقهم أصحاب الحديث طرًا، على إن ترتيب السور شيء حصل بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يكن بالترتيب الذي نزلت عليه السور.
وبعد .. فلا نرى أي مناقضة بين روايات جمع القرآن، إذ لاشك أن عمر هو الذي أشار على أبي بكر بجمع القرآن، وهذا الأخير أمر زيدًا أن يتصدى القضية من قبله، فيصح إسناد الجمع الأوّل إلى كلّ من الثلاثة بهذا الاعتبار.
نعم نسبة الجمع إلى عثمان كانت باعتبار توحيده للمصاحف ونسخها في صورة موحدة. وأما نسبة توحيد المصاحف إلى عمر فهو من اشتباه الراوي قطعًا. لأنّ الذي فعل ذلك هو عثمان بإجماع المؤرّخين.
وحديث ستّة أو أربعة جمعوا القرآن على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) فمعناه: الحفظ عن ظهر القلب، حفظوا جميع الآيات النازلة لحدّ ذاك الوقت، وأمّا الدلالة على وجود نظم كان بين سوره فلا.
وأمّا حديث التحدّي فكان بنفس الآيات والسور، وكلّ آية أو سورة قرآن، ولم يكن التحدّي يومًا ما بالترتيب القائم بين السور، كي يتوجّه الاستدلال المذكور!
على أنّ التحدّي وقع في سور مكيّة أيضًا(4)، ولم يجمع القرآن قبل الهجرة قطعيًّا.
واهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن القرآن، شيء لا ينكر، ومن ثم كان حريصًا على ثبت الآيات ضمن سورها فور نزولها، وقد حصل النظم بين آيات كلّ سورة في حياته (صلى الله عليه وآله) وأمّا الجمع بين السور وترتيبها كمصحف موحّد، فلم يحصل حينذاك، نظرًا لترقّب نزول قرآن عليه، فما لم ينقطع الوحي لا يصحّ جمع القرآن بين دفّتين ككتاب. ومن ثمّ لمّا أيقن بانقطاع الوحي بوفاته (صلى الله عليه وآله)، أوصى إلى علي (عليه السلام) بجمعه.
ومعنى تواتر النّص القرآنيّ: هو القطع بكونه قرآنًا، الأمر الذي كان يحصل بأخبار جماعة وشهادة آخرين بأنّه قرآن ولا سيّما من الصحابة الأوّلين، الأمر الذي كان قد التزمه زيد في الجمع الأوّل كما يأتي. وليس التواتر -هنا- بمعناه المصطلح عند المتأخرين.
وأمّا استلزام تأخّر الجمع تحريفًا في كتاب الله، فهو احتمال مجرّد لا سند له بعد معرفتنا بضبط الجامعين وقرب عهدهم بنزول الآيات وشدّة احتياطهم على الوحي بما لا يدع مجالاً لتسرّب احتمال زيادة أو نقصان.
وأخيرًا فإنّ قولة البعض الأخيرة، فهي لا تعدو خيالاً فارغًا إذ لا مناسبة ذاتيّة بين كلّ سورة وسابقتها أو تاليتها، سوى ما زعمه بعض المفسّرين المتكلّفين، وهو تمحّل باطل بعد إجماع الأمة على أنّ ترتيب السور كان على خلاف ترتيب النزول بلا شكّ. وقد تقدّم حديث الفساطيط المضروبة لتعليم القرآن على خلاف الترتيب المألوف(5).
وقد يترآءى لبعض الباحثين الجدّد، أن التعبير بلفظ (المصحف) الوارد في أحاديث الرسول وعلى لسانه (صلّى الله عليه وآله) ليصلح شاهدًا على وقوع الجمع وتنسيق السور مع بعضها، في ذلك العهد، إذ لو لم يكن هناك تدوين وجمع، بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، لما صحّ هذا التعبير ولا كان ثمة مبرّر لإطلاق لفظ (مصحف) أو (مصاحف) على القرآن(6).
لكن لا موضع لهذا الاستشهاد، بعد أن كان (المصحف) اسمًا لمجموعة صحائف مكتوبة انضم بعضها إلى بعض، وربما ربطت بخيط ونحوه، أو وضعت في ملفّة أو إضبارة وما شاكل، حفظًا لها عن التفرق والضياع، سواء أكان بينها تنسيق ونظم، ليصح إطلاق التدوين عليها، أم لم يكن.
قال ابن دريد: والصُحف، واحدتها صحيفة، وهي القطعة من أدم أبيض أو رقّ يكتب فيه. وتجمع صحائف، وربما جمعوا الصحيفة صحافًا .. والمصحف -بكسر الميم- لغة تميمية، لأنه صحفٌ جُمعت، فأخرجوه مخرج مفعَل ممّا يتعاطى باليد. وأهل نجد يقولون: المصحف -بضم الميم- لغة علويّة، كأنهم قالوا: أُصحف فهو مصحف إذا جمع بعضه إلى بعض(7).
وقال الخليل: وسمّى المصحف مصحفًا، لأنه ًاصحف، أي جعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفَّتين(8).
وكانت السورة القرآنية تكتمل وتكتب آياتها منظمة ومرتبة حسب النزول، حتى تنزل سورة أخرى بنزول بسملتها. وكانت تكتب في ورقة من قرطاس أو قطعة من أديم أورق، وتحفظ برأسها. وهكذا كل سورة. ومن طبيعة الحال إن هذه السور المكتملة كانت تحتفظ وتجمع في مكان. في نحو ملفّة أو اضبارة ونحو ذلك. ولكن من غير أن يجعل بينها ترتيب أو تنظم بتقديم الطوال على القصار على غرار تنظيمها الحاضر. وذلك لأن القرآن لمّا ينته نزوله. وكان يترتب نزول سور وآيات، مادام الوحي القرآني لم ينقطع، والرسول (صلى الله عليه وآله) على قيد الحياة.
إذن فمجموعة السور النازلة في كل عام ولحدّ ذاك الحين، وكانت مكتوبة على صحائف، كانت تُحتفظ في وعاء، وربما كانت متعددة لدى الصحابة، كلٌّ له مجموعة منها في بيته وبذلك صحّ إطلاق لفظ (المصحف) على كلٍّ من تلك المجموعات، بهذا الاعتبار لا غير.
وبذلك تعرف ترادف لفظي القرآن والمصحف، غير أن الأول كان باعتبار اللفظ المقروء، وكان الثاني باعتبار اللفظ المكتوب على صحيفة. فكما أن القرآن يطلق على قليله وكثيره، ومن غير دلالة على تنسيق سوره ذلك الحين، فكذلك لفظ المصحف من غير فرق.
ومن ثمّ نجد تبديل لفظ المصحف بالقرآن في نفس الروايات التي استشهد بها المستدلّ. وقد اعترف بذلك(9).
هذا على فرض صحة إسناد الروايات التي جاء فيها لفظ (المصحف) مسندًا له إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يكن من تعبير الراوي، نقلاً بالمعنى حسب متفاهم عهده المتأخر، والأرجح انه كذلك نقل بالمعنى لا بالنصّ!
إذًا لا يملك معارضونا دليلا يثنينا عن الذي عزمنا عليه من تفصيل حديث الجمع.
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن: سماحة الشيخ محمد هادي معرفة.
1- الإتقان ج1 / ص62.
2- مجمع البيان ج1 / ص15.
3- راجع البيان في تفسير القرآن ص257-278.
4- سورة يونس / 38، وسورة هود / 13، وسورة الإسراء / 88. وهنّ مكيّات.
5- ارشاد المفيد ص365 ط نجف، وبحار الأنوار ج52 / ص339 / ح85.
6- حقائق هامة ص82.
7- جمهرة اللغة ج2 / ص162.
8- العين ج3 / ص120.
9- الحقائق ص85.