الشبهة حول المكي والمدني

للشبهة حول المكي والمدني جانبان: جانب يرتبط بالأسلوب القرآني فيها وجانب آخر يرتبط بالمادة والموضوعات التي عرض القرآن لها في هذين القسمين وفي كل من القسمين تصاغ الشبهة على عدة إشكال نذكر مها صياغتين لكل واحد من القسمين.

 

أ - أسلوب المكي يمتاز بالشدة والعنف والسباب فقد قالوا: إن أسلوب القسم المكي من القرآن يمتاز عن القسم المدني بطابع الشدة والعنف بل السباب أيضاً. وهذا يدل على تأثر محمد بالبيئة التي كان يعيش فيها لأنها مطبوعة بالغلظة والجهل. ولذا يزول هذا الطابع عن القرآن الكريم عند ما ينتقل محمد إلى مجتمع المدينة الذي تأثر فيه - بشكل أو بآخر - بحضارة أهل الكتاب وأساليبهم وتستشهد الشبهة بعد ذلك لهذه الملاحظة بالسور والآيات المكية المطبوعة بطابع الوعيد والتهديد والتعنيف أمثال: سورة (المسد) وسورة (العصر) وسورة (التكاثر) وسورة (الفجر) وغير ذلك.

 

ويمكن أن نناقش هذه الشبهة.

 

أولا: بعدم اختصاص القسم المكي من القرآن الكريم بطابع الوعيد والإنذار دون القسم المدني بل يشترك المكي والمدني بذلك. كما إن القسم المدني لا يختص أيضا كما قد يفهم من الشبهة بالأسلوب اللين الهادئ الذي يفيض سماحة وعفواً بل نجد ذلك في المكي والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة.

 

فمن القسم المدني الذي اتسم بالشدة والعنف قوله تعالى ﴿فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين﴾(1).

 

وقوله تعالى: ﴿الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) (2) ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون﴾ (3)

 

وقوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئاً وأولئك هم وقود النار. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب. قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد﴾ (4).

 

كما نجد في القسم المكي ليناً وسماحة كما جاء في قوله تعالى ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحاً وقال انني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم﴾ (5).

 

وقوله تعالى: ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند اللّه خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب اليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾ (6).

 

وقوله تعالى: ﴿ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم. لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين﴾ (7).

 

وقوله تعالى: ﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم﴾ (8).

 

وثانياً: انه ليس في القرآن الكريم سباب وشتم. كيف ؟ وقد نهى القرآن نفسه عن السب والشتم حيث قال تعالى: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدواً بغير علم﴾ (9).

 

وليس في سورة (المسد) أو (التكاثر) سب أو بذاءة - كما يحاول المستشرقون ان يقولوا ذلك - وإنما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي إليه أبو لهب والكافرون باللّه.

 

نعم، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف وهو موجود في المدني كما هو في المكي وان كان يكثر وجوده في المكي بالنظر لمراعاة ظروف الاضطهاد والقسوة التي كانت تمر بها الدعوة، الأمر الذي اقتضى أن يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع - أحيانا - لتقوية معنويات المسلمين من جانب وتحطيم معنويات المقاومة من جانب آخر كما سوف نشير إليه قريباً.

 

ومن هذا التقريع في السور المدنية قوله تعالى ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم. ومن الناس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين - إلى قوله تعالى - صم بكم عمي فهم لا يعقلون﴾ (10).

 

وقوله تعالى ﴿وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من اللّه ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق. وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ (11) وقوله ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما انزل اللّه بغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين﴾ (12).

 

وقوله تعالى ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون﴾ (13).

 

وقوله تعالى: ﴿اذ قال اللّه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين﴾ (14).

 

وقوله تعالى: ﴿قل هل أُنَبِّئُكم بشرّ من ذلك مثوبة عند اللّه من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل﴾ (15).

 

وقوله تعالى: ﴿وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان﴾ (16).

 

ب - أسلوب القسم المكي يمتاز بقصر السور والآيات:

 

وقالوا أيضا إن من الملاحظ قصر السور والآيات في القسم المكي على عكس القسم المدني الذي جاء بشيء من التفصيل والإسهاب. فنحن نجد أن السور المكية جاءت قصيرة ومعروضة بشكل موجز في الوقت الذي نجد في القسم المدني سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها من السور الطوال.

 

وهذا يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني وتأثرهما بالبيئة التي كان يعيشها محمد (ص) فان مجتمع مكة لما كان مجتمعاً أميا لم يكن بقدرته التبسط في شرح المفاهيم وتفصيلها وإنما واتته القدرة على ذلك عند ما اخذ يعيش مجتمع المثقفين المتحضر في يثرب.

 

وتناقش هذه الشبهة بالامرين التاليين:

 

الأول: إن القصر والإيجاز ليسا مختصين بالقسم المكي بل يوجد في القسم المدني سور قصيرة أيضا كالنصر والزلزلة والبينة وغيرها. كما أن الطول والتفصيل ليسا مختصين بالقسم المدني بل توجد في المكي أيضاً سور طويلة كالأنعام والأعراف. وقد يقصد من اختصاص المكي بالقصر والإيجاز أن هذا الشيء هو الغالب الشائع فيه.

 

وقد يكون هذا صحيحاً ولكنه لا يدل بوجه من الوجوه على انقطاع الصلة بين القسمين المذكورين من القرآن الكريم لأنه يكفي في تحقيق هذه الصلة أن يأتي القرآن الكريم ببعض السور الطويلة المفصلة في القسم المكي كدليل على القدرة والتمكن من الارتفاع إلى مستوى التفصيل في المفاهيم والموضوعات.

 

بالإضافة إلى أن من الملاحظ وجود آيات مكية قد أثبتت في السور المدنية وبالعكس وفي كل من الحالتين نجد التلاحم والانسجام في السورة وكأنها نزلت مرة واحدة الأمر الذي يدل بوضوح على وجود الصلة التامة بين القسمين.

 

الثاني: إن الدراسات اللغوية التي قام بها العلماء المسلمون وغيرهم دلت على أن الإيجاز يعتبر مظهراً من مظاهر القدرة الخارقة على التعبير وهو بالتالي من مظاهر الإعجاز القرآني. خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار إن القرآن قد تحدى العرب بأن يأتوا بسورة من مثله حيث يكون التحدي بالسورة القصيرة أروع وأبلغ منه حين يكون بسورة مفصلة.

 

ج - لم يتناول القسم المكي في مادته التشريع والاحكام

 

وقالوا: إن القسم المكي لم يتناول فيما تناول من موضوعات - جانب التشريع من أحكام وأنظمة بينما تناول القسم المدني هذا الجانب من التفصيل. وهذا يعبر عن جانب آخر من التأثر بالبيئة والظروف الاجتماعية حيث لم يكن مجتمع مكة مجتمعاً متحضراً ولم يكن قد انفتح على معارف أهل الكتاب وتشريعاتهم على خلاف مجتمع المدينة الذي تأثر إلى حد بعيد بالثقافة والمعرفة للأديان السماوية كاليهودية والنصرانية.

 

وتناقش هذه الشبهة بالأمرين التاليين أيضاً:

 

أولا: إن القسم المكي لم يهمل جانب التشريع وإنما تناول أصوله العامة وجملة مقاصد الدين كما جاء في قوله تعالى: ﴿قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده...﴾ (17).

 

بالإضافة إلى أننا نجد في القسم المكي وفي سورة الأنعام بالخصوص مناقشة لكثير من تشريعات أهل الكتاب والتزاماتهم وهذا يدل على معرفة القرآن الكريم بهذه التشريعات وغيرها مسبقاً.

 

وثانياً: إن هذه الظاهرة يمكن أن تطرح في تفسيرها نظرية أخرى تنسجم مع الأساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها. وهذه النظرية هو أن يقال: أن الحديث عن التشريع في مكة كان شيئاً سابقاً لأوانه حيث لم يتسلم الإسلام حينذاك زمام الحكم بعد. بينما الأمر في المدينة على العكس. فلم يتناول القسم المكي التشريع لأن ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمر بها الدعوة. وإنما تناول الجوانب الأخرى التي تنسجم مع الموقف العام كما سوف نشرح ذلك قريباً.

 

د - لم يتناول القسم المكي في مادته الادلة والبراهين:

 

وقالوا: إن القسم المكي لم يتناول أيضاً الأدلة والبراهين على العقيدة وأصولها على خلاف القسم المدني. وهذا تعبير آخر أيضاً عن تأثر القرآن بالظروف الاجتماعية والبيئة اذ عجزت الظاهرة القرآنية بنظر هؤلاء عن تناول هذا الجانب الذي يدل على عمق النظر في الحقائق الكونية عندما كان يعيش محمد (ص) في مكة مجتمع الأميين بينما ارتفع مستوى القرآن في هذا الجانب عندما اخذ محمد (ص) يعيش إلى جانب أهل الكتاب في المدينة وذلك نتيجة لتأثره بهم ولتطور الظاهرة القرآنية نفسها.

 

وتناقش هذه الشبهة من وجهين:

 

الأول: إن القسم المكي لم يخل من الأدلة والبراهين بل تناولها في كثير من سوره والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة وفي شتى المجالات.

 

فمن موارد الاستدلال على التوحيد قوله تعالى: ﴿ما اتخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله. إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان اللّه عما يصفون﴾ (18).

 

وقوله تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا فسبحان اللّه رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة. قل هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون﴾ (19).

 

وبصدد الاستدلال على نبوة محمد (ص) وارتباط ما جاء به من السماء: ﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون. بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا انزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند اللّه وإنما أنا نذير مبين. أوَلم يكفهم انا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون﴾ (20).

 

وبصدد الاستدلال على البعث والجزاء قوله تعالى: ﴿ونزلنا من السماء ماء مباركاً فانبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج﴾ ﴿أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد﴾ (21).

 

وقوله تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون﴾ (22)

 

وقوله تعالى: ﴿أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ؟ ساء ما يحكمون. وخلق اللّه السموات والأرض بالحق لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون﴾ (23).

 

وهكذا تتناول الأدلة جوانب أخرى من العقيدة الإسلامية والمفاهيم العامة:

 

الثاني: انه لو تنازلنا عن ذلك فمن الممكن تفسير هذا الفرق على أساس مراعاة طبيعة موقف المواجهة من الدعوة حيث كانت تواجه الدعوة في مكة مشركي العرب وعبدة الأصنام. والأدلة التي كان يواجه القرآن بها هؤلاء أدلة وجدانية من الممكن أن تستوعبها مداركهم ويقتضيها وضوح بطلان العقيدة الوثنية. وحين اختلفت طبيعة الموقف وأصبحت الأفكار المواجهة تمتاز بكثير من التعقيد والتزييف والانحراف كما هو الحال في عقائد أهل الكتاب اقتضى الموقف مواجهتها بأسلوب آخر من البرهان والدليل أكثر تعقيداً وتفصيلاً(24).

 


1- البقرة: 24.

2- البقرة: 275 و278 - 279.

3- البقرة: 275 و278 - 279.

4- آل عمران: 10-12.

5- فصلت: 33-35.

6- الشورى: 36-43.

7- الحجر: 87-88.

8- الزمر: 53.

9- الانعام: 108.

10- البقرة: 6-18 و61 و90 و171.

11- البقرة 61 و90 و150.

12- البقرة 61 و90 و150.

13- البقرة 61 و90 و150.

14- آل عمران: 55 و56.

15- المائدة: 60 و64.

16- الانعام: 151 - 152.  

17-  الإنعام: 151 - 152.  

18- المؤمنون: 91.

19- الانبياء: 22 - 24.

20- العنكبوت: 48 - 51.

21- ق: 9-11 و15.

22- المؤمنون: 115.

23- الجاثية 21-22.

24- اعتمدنا بصورة اساسية - في عرض الشبهات ومناقشتها على ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان: 1/199-232.