القسم بالعصر

 

حلف سبحانه بالعصر مرّة واحدة دون أن يقرنه بمقسم به آخر، وقال: ﴿وَالعَصْر / إِنّ الاِِنْسانَ لَفي خُسْر﴾(1).

 

تفسير الآيات:

العصر يطلق ويراد منه تارة الدهر، وجمعه عصور.

 

وأُخرى العشيّ مقابل الغداة، يقال: العصران: الغداة والعشي، والعصران الليل والنهار، كالقمرين للشمس و القمر.

 

وثالثة بمعنى الضغط فيكون مصدر عصرت. والمعصور الشيء العصر، والعُصارة نفاية ما يُعصر، قال سبحانه: ﴿أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗا﴾(2)، وقال: ﴿وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ﴾(3)، وقال: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا﴾(4) أي السُّحُب التي تعتصر بالمطر.

 

ورابعة بمعنى ما يثير الغبار، قال سبحانه: ﴿فَأَصَابَهَآ إِعۡصَار﴾(5)(6)، والمراد من الآية أحد المعنيين الاَوّليين.

الاَوّل: الدهر والزمان.

الثاني: العصر مقابل الغداة.

 

ولا يناسب المعنى الثالث، أعني: الضغط، ولا الرابع كما هو واضح. وإليك بيان المعنيين الاَوّلين:

 

1- العصر: الدهر، وإنّما حلف به لاَنّ فيه عبرة لذوي الاَبصار من جهة مرور الليل والنهار، وقد نسب ذلك القول إلى ابن عباس والكلبي والجبائي.

 

قال الزمخشري: وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب(7).

 

ولعلّ المراد من الدهر والزمان اللّذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ البشرية، وذلك لاَنّه سبحانه جعل المقسم عليه كون الاِنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصة، ومن المعلوم أنّ خسران الاِنسان انّه هو من تصرم عمره ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مال وقع في يده، وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة نأتي بنصها:

 

قال: وعن بعض السلف، تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح، ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله، فقلت: هذا معنى أنّ الاِنسان لفي خسر يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر(8).

 

2- العصر: أحد طرفي النهار، وأقسم بالعصر كما أقسم بالضحى، وقال: ﴿وَٱلضُّحَىٰ / وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ﴾(9) كما أقسم بالصبح، وقال: ﴿وَٱلصُّبۡحِ إِذَآ أَسۡفَرَ﴾(10)، وإنّما أقسم بالعصر لاَهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر، فالاَعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب، ويستولي الظلام على السماء، ويخلد الاِنسان إلى الراحة.

 

وهناك قولان آخران:

أ- المراد عصر الرسول، ذلك لما تضمنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الاِنساني، إلاّ لمن اتبع الحقّ وصبر عليه، وهم الموَمنون الصالحون عملاً، وهذا يوَكد على أن يكون المراد من العصر عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو عصر بزوغ نجم الاِسلام في المجتمع البشري وظهور الحقّ على الباطل.

 

ب- المراد به وقت العصر، وهو المروي عن مقاتل، وإنّما أقسم بها، لفضلها بدليل، قوله: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ﴾(11) كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى: ﴿تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ﴾(12) هو صلاة العصر.

 

أضف إلى ذلك انّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار، فهي كالتوبة يختم بها الاَعمال.

 

ولا يخفى انّ القول الاَخير في غاية الضعف، إذ لا صلة بين القسم بصلاة العصر والمقسم عليه، أعني ﴿الاِِنْسانَ لَفي خُسْر﴾ على أنّه لو كان المقسم به هو صلاة العصر، لماذا اكتفى بالمضاف إليه، وحذف المضاف مع عدم توفر قرينة عليه، ومنه يظهر حال الوجه المتقدّم عليه.

 

والظاهر أنّ الوجه الاَوّل هو الاَقوى، حيث إنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب، أي خسران الاِنسان في الحياة، كما سيوافيك بيانه.

 

وأمّا المقسم عليه، فهو قوله سبحانه: ﴿إِنّ الاِِنْسانَ لَفي خُسْر﴾ والمراد من الخسران هو مضي أثمن شيء لديه وهو عمره، فالاِنسان في كلّ لحظة يفقد رأس ماله بنحو لا يُعوَّض بشيء أبداً، وهذه هي سنة الحياة الدنيوية حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت، فأي خسران أعظم من ذلك.

 

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فأوضح من أن يخفى، لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة متصرّمة غير قارة، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً، وهكذا الحال في عمر الاِنسان فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج.

 

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من الخسران من آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق وتواصى بالصبر.

 

ووجه الاستثناء واضح. لاَنّه بدّل رأس ماله بشيء أغلى وأثمن، يستطيع أن يقوم مقام عمره المنقضي فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة، حافلة برضوانه سبحانه، ونعمه المادية والمعنوية.

 

يقول سبحانه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾(13).

 


1- سورة التوبة / 111.

2- سورة العصر / 1-2.

3- سورة يوسف / 36.

4- سورة يوسف / 49.

5- سورة النبأ / 14.

6- سورة البقرة / 266.

7- مفردات القرآن: مادة عصر، ومجمع البيان ج5 / ص535.

8- الكشاف ج3 / ص357.

9- تفسير الفخر الرازي ج32 / ص85.

10- سورة الضحى / 1ـ2.

11- سورة المدثر / 34.

12- سورة البقرة / 238.

13- سورة المائدة / 106.