التحدّي بفضيلة الكلام
قد يقول قائل: إنّ صناعة البيان ليست في الناس بدرجة واحدة، وهي تختلف حسب اختلاف القرائح والمُعطيات، ولكلّ أنسان مواهبه ومعطياته. وكلّ متكلّم أو كاتب إنّما يضع في بيانه قطعة من عقله ومواهبه، ومن ثم يختلف الناس في طرق التعبير والأداء، ولا يمكن أن يتشابه اثنان في منطقهما وفي تعبيرهما، اللهمّ إلاّ إذا كان عن تقليد باهت.
إذن فكيف جاز تحدّي الناس لو يأتوا بحديث في مثل القرآن، وهم عاجزون أن يأتوا بمثل كلام بعضهم؟!
لكن غير خفي أنّ لشرف الكلام وضعته مقاييس، بها يعرف ارتفاع شأن الكلام وانحطاطه وقد فصّلها علماء البيان، وبها تتفاوت درجات الكلام ويقع بها التفاضل بين انحائه من رفيع او وضيع نعم وإن كانت القرائح والمعطيات هي المادّة الأُولى لهذا التفاوت، ولا نماري أن يكون كلام كلّ متكلّم هي وليد فطرته وحصيلة مواهبه ومعطياته، بحيث لا يمكن مشاركة أي أحد فيما تمليه عليه ذهنيّته الخاصّة، لكن ذلك لا يوهن حجّتنا في التحدّي بالقرآن، لأنّا لانطالبهم أن يأتوا بمثل صورته الكلامية، كلاّ، وإنّما نطلب كلامًا-أيّاً كان نمطه وأسلوبه- بحيث إذا قيس مع القرآن، بمقياس الفضيلة البيانيّة، حاذاه أو قاربه، على شاكلة ما يقاس كلمات البلغاء بعضهم مع بعض، وهذا هو القدر الذي يتنافس فيه الأُدباء، ويتماثلون أو يتقاربون، لاشيء سواه.
وقد أشار السّكاكي إلى طرف من تلك المقاييس التي هي المعيار لارتفاع شأن الكلام وانحطاطه، قال- بعد أن ذكر أن مقامات الكلام متفاوتة، ولكلّ كلمة مع صاحبها مقام، ولكلّ حدّ ينتهي إليه الكلام مقام-: وارتفاع شأن الكلام في باب الحسن والقبول وانحطاطه في ذلك، بحسب مصادفة الكلام لما يليق به.
قال: فحسن الكلام تحلّيه شيء من هذه المناسبات والاعتبارات بحسب المقتضى، ضعفًا وقوّةً على وجه من الوجوه(التي يفصّلها في فني المعاني والبيان) ويقول-بعد ذلك-: وإذا قد تقرّر أنّ مدار حسن الكلام وقبحه على انطباق تركيبة على مقتضى الحال والاعتبار المناسب، وعلى لا انطباقه، وجب عليك- أيّها الحريص على ازدياد فضلك، المنتصب لاقتداح زناد عقلك، المتفحّص عن تفاصيل المزايا التي بها يقع التفاصيل، وينعقد بين البلغاء في شأنها التسابق والتناضل- أن ترجع إلى ترجع إلى فكرك الصائب، وذهنك الثاقب، وخاطرك اليقظان، وانتباهك العجيب الشأن، ناظرًا بنور عقلك، وعين بصيرتك، في التصفّح لمقتضيات الأحوال، في إيراد المسند إليه على كيفيّات مختلفة، وصور متنافية، حتى يتأتّى بروزه عندك لكلّ منزلة في معرضها، فهو الرهان الذي يجرّب به الجياد، والنضال الذي يعرف به الأيدي الشداد فتعرف أيّهما حال يقتضي كدا... وأيّهما حال يقتضي خلافها...الخ(1).
وعليه فتزداد قوّة الكلام وصلابته وكذا روعة البيان وصولته، كلّما ازدادت العناية بجوانبه اللفظية والمعنويّة من الاعتبارات المناسبة، ورعاية مقتضيات الأحوال والأوضاع، وملاحظة مستدعيات المقامات المتفاوتة، على مافصّله القوم.
وقلّ من يتوافّق لذلك بالنحو الأتمّ أو لأفضل، بل الأكثر، مادام الإنسان حليف النسيان.
أمّا بلوغ الأقصى والكمال الأوفى، الذي حدّ الإعجاز، فهو خاصّ بذي الجلال المحيط بكلّ الأحوال.
وفي ذلك يقول السكاّكي: (البلاغة تتزايد إلى أن تبلغ حدّ الإعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه) (2).
ومنه أخذ الخطب القزويني: (وللبلاغة في الكلام طرفان، أعلى وهو حدّ الإعجاز وما يقرب منه. وأسفل وهو ما إذا غيّر الكلام إلى مادونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات) (3).
إذن فالطرف الأعلى وما يقرب منه، كلاهما حدّ الإعجاز، على ما حدّده الّسكاكي، وبذلك يكون اختلاف مراتب آيات القرآن في الفصاحة والبيان، كلّه داخلاً في حدّ الإعجاز الذي لا يبلغه البشر. وهذا هو الصحيح، على ما سنبيّن.
وبعد، فالمتلخّص من هذا البيان: أن التفاصيل بين كلامين أو التماثل بينهما إنّما يتحقّق بهذه الاعتبارات- التي هي مقاييس لدرجة فضيلة الكلام- وهي من قبيل المعنى أكثر من كونها من قبيل اللفظ، فليس المقصود بالتحدّي، المعارضة في التشاكل اللفظي والتماثل في صورة الكلام فحسب، كما حسبه مسيلمة الكذّاب ومن حذا حذوه من أغبياء القوم.
المصدر:
كتاب علوم القرآن، لسماحة العلامة الشهيد السيد محمد باقر الحكيم
1- مفتاح العلوم: ص80- 81 وص84.
2- مفتاح العلوم: ص196- 199.
3- المطول للتفتاني: ص 31( استنبول).