الآية الثانية:

 

قوله تعالى: ﴿واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلاً. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا واصلحا فاعرضوا عنهما ان اللّه كان توابًا رحيمًا﴾ النساء 15 - 16.

 

وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم ان الآية الاولى من هاتين الآيتين مختصة بزنى النساء والعقاب فيها هو الايذاء بالشتم والاهانة وضرب النعال كما جاء عن ابن عباس ذلك - وهما في كل من الموردين تشمل البكر والثيب منهما.

 

وقد نسخت كلتا الآيتين بحكم الجلد مائة مرة للبكر من النساء والرجال كما في قوله تعالى: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه﴾ النور: 2 وبحكم الرجم للمحصن من النساء والرجال كما ثبت ذلك في السنة النبوية.

 

وقد ناقش السيد الخوئي مبدأ النسخ في هذه الآية على أساس أن كل واحدة من هذه الآيات تبين حكمًا يختلف عن الحكم المبين في الآية الاخرى ولا مانع من الاخذ بهذه الاحكام كلها لاختلاف موضوعاتها.

 

ومن أجل ان تتضح هذه المناقشة لا بد من ان نستعرض بعض الامور التي لها ارتباط وثيق في تفسير الآيتين المدعى نسخهما لنعرف بعد ذلك مدى صحة دعوى النسخ فيهما.

 

1. ان للفظ الفاحشة في اللغة والقرآن الكريم معنى واسعًا شاملاً ينطوي تحته كل ما تزايد قبحه وتفاحش دون ان يكون مختصًا بعملية الزنى وحدها. فقد تكون لواطًا أو سحاقًا أو زنى. ولا ظهور ولا انصراف للفظ الفاحشة في خصوص الزنى.

 

2. ان المقصود بالسبيل في الآية الكريمة هو المخرج والمخلص الذي يكون في حقيقته وواقعه أقل كلفة وضررًا على المرأة من الحبس في الدار لان الآية تجعل السبيل للمرأة لا عليها. وحينئذ فلا يمكن تفسير السبيل بالعقوبة التي وضعها الاسلام الحنيف بالنسبة الى الزانية والزاني البكر منهما والثيب لان هذه العقوبة ليست سبيلاً للمرأة تخلص به من شدة الحبس وعقابه وانما هو أشد وأقسى من الحبس نفسه.

 

3. ان لفظ الايذاء في الآية الكريمة ليس له ظهور في الشتم والسب والاهانة وضرب النعال.. وانما هو معنى شامل لهذه الامور ولغيرها من الوان الايذاء الاخرى كالجلد والرجم وغيرهما.

 

وبعد ملاحظة هذه النقاط الثلاثة يمكن ان نذهب في خصوص الآية الاولى الى ان المقصود بالفاحشة: (المساحقة) وحكمها الثابت بالآية هو الحبس حتى الموت أو السبيل الذي يهيئه اللّه سبحانه لها بان تتوفر الظروف التي تجعل المرأة في مأمن من ارتكاب المنكر كأن تتزوج أو تبلغ العمر الذي تموت فيه طاقتها الجنسية أو تخمد او تتوب وتصلح.

 

وبهذا اللون من التفسير يمكننا ان نلتزم بعدم النسخ في هذه الآية لبقاء حكمها في الوقت الذي يلتزم به بالجلد والرجم بالنسبة الى الزاني. وبالاضافة الى ذلك يمكننا ان نذهب الى ان الحكم بالحبس ليس عقابًا وحدًّا لارتكاب الفاحشة وانما هو عمل وقائي رادع عن العودة لارتكاب المنكر مرة اخرى ويجب في كل الحالات التي يستشعر فيها الخطر من الوقوع في المنكر حتى قبل وقوعه وحينئذ فلا ضرورة للالتزام بالنسخ حتى مع الالزام بان المقصود من الفاحشة في الآية الكريمة خصوص زنى النساء لان الالتزام بالجلد والرجم يمكن ان ينسجم مع الالتزام في الوقت ذاته بثبوت الحكم الوقائي الرادع.

 

وفي خصوص الآية الثانية يكون المقصود بالفاحشة اللواط وحكمه الايذاء سواء فسرنا الايذاء بالشكل الذي روي عن ابن عباس ام بالشكل الآخر الواسع.. فانه في كل من الفرضين يمكن ان نلتزم بالحد الشرعي الثابت في الشريعة المقدسة عن ان تفسير مفهوم الايذاء بشكل يشمل الجلد والرجم يجعل آية الجلد وغيرها في موقف المفسر المحدد لنوعية الايذاء المتخذ ضد الزاني من الرجال والنساء دون ان يكون ناسخًا للآية الاولى. وهناك قرينة لفظية في الآية تدل على ان المراد من اسم الموصول (اللذان) هو خصوص الرجلين دون الرجل والمرأة كما هو تفسير القائل بالنسخ - وهذه القرينة هي ملاحظة سياق الآيتين الذي يقرر ان المراد من ضمير الجمع المخاطب المذكور فيهما ثلاث مرات من جنس واحد بحيث لا يختلف الثالث عن الاوليين. ولما كان المراد بالاوليين منهما خصوص الرجال لاضافة النساء في أحدهما للضمير وربط الشهادة بالرجال في الثاني. ويجب ان يكون المراد من الثالث خصوص الرجال أيضًا وهذا ينتهي بنا الى ان المراد باسم الموصول خصوص الرجال. ومع هذه القرينة لا بد من الالتزام بان المراد من الفاحشة هي اللواط بالخصوص.

 

 

المصدر:

كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم.