التمثيل الخامس والخمسون - سورة التحريم

﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأتَ نُوحٍ وامْرَأتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين﴾(1).

تفسير الآية:

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اللّتين اشتركتا في إفشاء سره، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح ولوط، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول: ﴿وإذْ أسَـرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأتْ بِهِ وأظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأها بِهِ قالَتْ مَنْ أنْبَأكَ هذا قالَ نَبَّأنِي الْعَلِيمُ الخَبير﴾(2).

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب:

1- انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً، كما يقول سبحانه: ﴿وإذْ أسَـرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أزْواجِهِ حَديثاً﴾، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.

2- انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته، فحدّثت به زوجة أُخرى، كما يقول سبحانه: ﴿فَلَمّـا نَبَّأتْ بِهِ﴾، والمفسرون اتفقوا على أنّ الأولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر.

3- انّه سبحانه أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به، كما يقول سبحانه: ﴿وأظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ﴾ أي أطلعه الله عليه.

4- انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) قد علم جميع ذلك ولكنّه أخذ بمكارم الأخلاق، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها، والتغافل من خلق الكرام، وقد ورد في المثل: "ما استقصى كريم قط".

5- لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت، وقالت: من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول: نبّأني العليم الخبير، كما يقول سبحانه: ﴿فَلَمّا نَبَّأها بِهِ قالَتْ مَنْ أنْبَأكَ هذا قالَ نَبَّأنِي الْعَلِيمُ الخَبير﴾.

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه ونصرته، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه. كما يقول سبحانه: ﴿إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَا﴾ أي مالت إلى الإثم، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي، فانّ الله مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية، حيث إنّ حفظ الأمانة من واجب الزوجة حيال زوجها، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق: إمّا التوبة لأجل الإثم، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما.إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد: ما بغت امرأة نبي قط، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس: إنّه مجنون، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله، ولم يقفن على أنّ مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح، قال سبحانه: ﴿فَإذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ﴾(3) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم: ﴿يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(4).

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع ما لم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة، وأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.


1- سورة التحريم / 10.

2- سورة التحريم / 3.

3- سورة المؤمنون / 101.

4- سورة الأعراف / 35.