التمثيل التاسع والأربعون - سورة الفتح

 

﴿هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً / مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنْجِيلِ كَزَرعٍ أخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأجراً عَظِيماً﴾(1).

 

تفسير الآيات:

"السيماء": العلامة، فقوله: ﴿سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ﴾، أي علامة إيمانهم في وجوههم.

 

شطأ الزرع: فروخ الزرع، وهو ما خرج منه، وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه إشطاء، وهو ما يعبر عنه بالبراعم.

 

"الأزر": القوة الشديدة، آزره أي أعانه وقوّاه.

"الغلظة": ضد الرقة.

"السوق": قيل هو جمع ساق.

 

القرآن يتكلم في هاتين الآيتين عن النبي تارة وأصحابه أُخرى:

 

أمّا الأوّل فيعرّفه بقوله: ﴿هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً﴾ والضمير ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ يرجع إلى دين الحقّ لا الرسول، لأنّ الغاية ظهور دين على دين لا ظهور شخص على الدين، والمراد من الظهور هو الغلبة في مجال البرهنة والانتشار، وقد تحقّق بفضله سبحانه وسوف تزداد رقعة انتشاره فيضرب الإسلام بجرانه في أرجاء المعمورة، ولا سيما عند قيام الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام).

 

يقول سبحانه في هذا الصدد: (محمّد رسول الله) أي الرسول الذي سوف يغلب دينه على الدين كله، وقد صرح باسمه في هذه الآية، إلاّ أنّه أجمل في الآية الأولى، وقال: ﴿أرسَلَ رَسُولَهُ﴾.

 

إلى هنا تمّ بيان صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسماته، وأمّا صفات أصحابه فجاء ذكرهم في التوراة والإنجيل.

 

أمّا التوراة فقد جاء فيها وصفهم كالتالي:

1- ﴿وَالّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ﴾، الذين لا يفهمون إلاّ منطق القوة، فلذلك يكونون أشداء عليهم.

 

2- ﴿رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ فهم رحماء يعطف بعضهم على بعض، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل الموَمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى(2).

 

3- ﴿تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً﴾، هذا الوصف يجسّد ظاهر حالهم وانّهم منهمكون في العبادة، فلذلك يقول: ﴿تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً﴾، أي تراهم في عبادة، التي هي آية التسليم لله سبحانه.

 

ومع ذلك لا يبتغون لعبادتهم أجراً وإنّما يأملون فضل الله، كما يقول: ﴿يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً﴾، ولعل القيد الأخير إشارة إلى أنّ الحافز لأعمالهم هو كسب رضاه سبحانه.

 

ومن علائمهم الأخرى انّ أثر السجود في جباههم، كما يقول: ﴿سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ﴾ فسيماهم ووجوههم تلمح إلى كثرة عبادتهم وسجودهم وخضوعهم لله سبحانه، وهذه الصفات مذكورة أيضاً في الإنجيل.

 

إنّ أصحاب محمد لم يزالوا يزيدون باطّراد في العدة والقوة وبذلك يغيظون الكفار، فهم كزرع قوي وغلظ وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.

 

ولم يزالوا في حركة دائبة ونشيطة، فمن جانب يعبدون الله مخلصين له الدين بلا رياء ولا سمعة، ومن جانب آخر يجاهدون في سبيل الله بغية نشر الإسلام ورفع راية التوحيد في أقطار العالم.

 

فعملهم هذا يغيظ الكفار ويسرّ المؤمنين، قال سبحانه: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِى الإنْجِيلِ كَزَرعٍ أخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ﴾.

 

فالمجتمع الإسلامي بإيمانه وعمله وجهاده وحركته الدؤوبة نحو التكامل يثير إعجاب الأخلاّء وغيظ الألدّاء.

 

ثمّ إنّه سبحانه وعد طائفة خاصة من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مغفرة وأجراً عظيماً، وذلك لأنّ المنافقين كانوا مندسّين في صفوف أصحابه، فلا يصح وعد المغفرة لكلّ من صحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورآه وعاش معه وقلبه خال من الإيمان، ولذلك قال سبحانه: ﴿وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات مِنْهُمْ مَغْفِرَة وَأجْراً عظيماً﴾ فكلمة "منهم" تعرب عن أنّ المغفرة لا تعم جميع الأصحاب بل هي مختصة بطائفة دون أُخرى.

 

وما ربما يقال من أنّ "من" بيانية لا تبعيضية غير تام.

 

لأنّ «من» البيانية لا تدخل على الضمير، ويؤيد ذلك قوله: ﴿وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النّفاقِ لاتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾(3).

 

والحاصل: انّه لا يمكن القول بشمول أدلة المغفرة والأجر العظيم لقاطبة من صحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنّهم على أصناف شتى.

 

فمن منافق معروف، عرّفه الذكر الحكيم بقوله: ﴿إذا جاءَكَ الْمُنافِقُون﴾(4).

 

إلى آخر مختفٍ لا يعرفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال سبحانه: ﴿وَمِنْ أهْلِ المَدينَة مَرَدُوا علَى النّفاق لا تعلَمهم نَحنُ نَعْلَمهم﴾.

 

إلى ثالث يصفهم الذكر الحكيم بمرضى القلوب، ويقول: ﴿وَإذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً﴾(5).

 

إلى رابع سمّاعون لنعق كل ناعق فهم كالريشة في مهب الريح يميلون تارة إلى المسلمين وأُخرى إلى الكافرين، يصفهم سبحانه بقوله: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إلاّ خَبالاً ولأوضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمين﴾(6).

 

إلى خامس خالط العمل الصالح بالسيّء يصفهم سبحانه بقوله: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخَرَ سَيّئاً﴾(7).

 

إلى سادس أشرفوا على الارتداد، عرّفهم الحق سبحانه بقوله: ﴿وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمَّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقّ ظَنَّ الجاهِليةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَىْءٍ قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ﴾(8).

 

إلى سابع يصفه القرآن فاسقاً، ويقول: ﴿يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِين﴾(9).

والمراد هو الوليد بن عقبة صحابي سمي فاسقاً، وقال تعالى: ﴿فَإنَّ اللهَ لا يَرضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِين﴾(10).

 

إلى ثامن يصفهم الذكر الحكيم مسلماً غير موَمن ويصرِّح بعدم دخول الإيمان في قلوبهم، ويقول: ﴿قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُوَْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا وَلمّا يَدْخُلِ الإيمانُ فِي قُلُوبِكُم﴾(11).

 

إلى تاسع أظهروا الإسلام لأخذ الصدقة لا غير، وهم الذين يعرفون بالموَلّفة قلوبهم، قال: ﴿إنّما الصّدقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِين وَالعامِلِينَ عَلَيْها وَالمُوَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾(12).

 

إلى عاشر يفرّون من الزحف فرار الغنم من الذئب، يقول سبحانه:

 

﴿يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبار / وَمَنْ يُوَلِّهْم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرّفاً لِقِتالٍ أوْ مُتَحيِّزاً إلى فئِةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمأْواهُ جَهَنَّمُ وَبئسَ المَصير﴾(13).

 

وكم نطق التاريخ بفرار ثلّة من الصحابة من ساحات الوغى، يقول سبحانه عند ذكر غزوة أُحد: ﴿إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ﴾(14)، ولم يكن الفرار مختصاً بغزوة أُحد بل عمّ غزوة حنين أيضاً، يقول سبحانه: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِين﴾(15).

 

هذه إلمامة عابرة بأصناف الصحابة المذكورة في القرآن الكريم، أفيمكن وعد جميع هذه الأصناف بالمغفرة؟!

 

مضافاً إلى آيات أُخرى تصف أعمالهم.

نعم كان بين الصحابة رجال مخلصون يستدرُّ بهم الغمام، وقد وصفهم سبحانه في غير واحد من الآيات التي لا تنكر.

والكلام الحاسم: انّ وعد المغفرة لصنف منهم لا لجميع الأصناف، كما أنّ عدالتهم كذلك.

 


1- سورة التوبة / 47.

2- سورة التوبة / 102.

3- سورة آل عمران / 154.

4- سورة الحجرات / 6.

5- سورة التوبة / 96.

6- سورة الحجرات / 14.

7- سورة التوبة / 60.

8- سورة الأنفال / 15-16.

9- سورة آل عمران / 153.

10- سورة التوبة / 25.

11- سورة الحجرات / 14.

12- سورة التوبة / 60.

13- سورة الأنفال / 15-16.

14- سورة آل عمران / 153.

15- سورة التوبة / 25.