التمثيل التاسع والعشرون ? سورة النحل

 

﴿وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأ يْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون * وَلا تَكُونُوا كالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أنكاثاً تَتَّخِذُونَ أيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أن تَكُونَ أُمّةٌ هِي أرْبى مِنْ أُمّةٍ إنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون﴾.(1)

 

تفسير الآيات:

التوكيد: التشديد، يقال أوكدها عقدك، أي شدّك، وهي لغة أهل الحجاز و"الأنكاث": الأنقاض، وكلّ شيء نقض بعد الفتح، فقد انكاث حبلاً كان أو غزلاً.

 

و"الدخل"ما أُدخل في الشيء على فساد، وربما يطلق على الخديعة، وإنّما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد، لأنّه داخل القلب على ترك البقاء، وقد نقل عن أبي عبيدة، انّه قال: كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول.

 

هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.

 

وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها، واسمها "ريطة" بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وكانت تسمّى فرقاء مكة.(2)

 

إنّ لزوم العمل بالميثاق من الأمور الفطرية التي جُبل عليها الإنسان، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الإنسان.

 

ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الأخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء.

 

وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد لله ، قال سبحانه: ﴿وَأوفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَكانَ مَسْوَولاً﴾(3)

 

وقال تعالى: ﴿وَالّذِينَ هُمْ لأماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُون﴾.(4)

 

وفي آية ثالثة: ﴿وَأوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾.(5)

 

وفيما نحن فيه يأمر بشيء وينهى عن آخر.

 

أ: فيقول ﴿أوفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عاهَدْتُمْ﴾ فيأمر بالوفاء بعهد الله ، أي العهود التي يقطعها الناس مع الله تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة المسلمين، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة الله سبحانه.

 

ب: ﴿وَلا تَنْقُضُوا الأيْمان بَعْد تَوكيدها﴾ فالأيمان جمع يمين.

 

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى، كما إذا قال: عاهدت الله لأفعلنّه، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

 

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله .

 

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

 

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله: بعد توكيدها، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين: قسم يطلق عليه لقب اليمين،بلا عزم في القلب وتأكيد له، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله .

 

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين، يقول سبحانه: ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمان﴾.(6)

 

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد، بقوله: ﴿وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون﴾ أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

 

فالحالف إذا قال: والله لأفعلنّ كذا، أو لأتركنّ كذا، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه اليمين، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه، ففي نكث اليمين، إهانة وإزراء بساحة العزة.

 

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً، قال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً﴾ مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها و بيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر، ثمّ تنقض ما غزلته، وقد عرفت في قوله بـ"الحمقاء" فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

 

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً، يقول سبحانه: ﴿تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أُمّة هي أربى من أُمّة﴾ فقوله "أربى" من الربا بمعنى الزيادة، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه، كما يقول سبحانه: ﴿إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون﴾.

 

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال و من هوا لمهتدي.(7)

 

 


1- النحل:91 ـ 92.

2- الميزان:12|335.

3- الإسراء:34.

4- الموَمنون:8.

5- البقرة:40.

6- المائدة:89.

7- الميزان:12|336.