عصمةُ آدم ويونس وموسى (ع)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

الفرق بين الخطأ والمعصية هو أن الخطأ أعم من المعصية .. فالمعصية تنحصر في الأخطاء التي ترتكب بعد الأمر أو النهي!!.

 

فآدم (ع) ارتكب معصية لأنه منهيٌّ عن أكل من الشجرة، أمَّا يونس فقد أخطأ لأنَّه لم يرتكب فعلاً منهياً عنه وإنَّما اجتهد فأخطأ، وأما موسى (ع) فإنَّه قتل القبطي خطأً أثناء غضبه ولم يكن عامداً قتله .. فهذه كلُّها أخطاء عموماً لكنَّ منها ما هو منهيٌ عنه فتلك هي المعصية.

 

ما هو تعليقكم على هذا الكلام؟

 

الجواب:

آدم لم يرتكب معصية في الأرض:

أمَّا آدم (ع) فلم يرتكب معصيةً في الأرض، وما وقع منه كان في الجنَّة، والذي قام الدليل على ثبوته لعامَّة الأنبياء هو العصمة في هذا العالم عالم التكاليف، وهذا هو مفاد ما رواه الشيخ الصدوق في العيون بسنده عن أبي الصلت الهروي قال: "لمَّا جمع المأمون لعليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أهلَ المقالات من أهل الاسلام والديانات مِن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر المقالات، فلم يقم أحدٌ إلا وقد ألزمه حجَّتَه كأنَّه أُلقم حجراً، قام إليه عليُّ بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أتقولُ بعصمه الأنبياء؟ قال: نعم، قال: فما تعمل في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ .. فقال الرضا (عليه السلام): ويحكَ يا عليُّ اتقِ الله، ولا تنسبْ إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأول كتابَ الله برأيك، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد قال: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وأمَّا قولُه عزَّ وجلَّ في آدم: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلقَ آدم حجَّةً في أرضِه وخليفةً في بلاده، لم يخلقه للجنَّة وكانت المعصيةُ من آدم في الجنَّة لا في الأرض، وعصمتُه يجب أن يكون -في- الأرض ليتمَّ مقاديرُ أمرِ الله، فلمَّا أُهبط إلى الأرض وجُعل حجَّةً وخليفةً عُصمَ بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ .."(1).

 

يونس لم يُخطأ وإنَّما ترك الأولى:

وأمَّا يونس فلم يُخطِأ وإنَّما ترك الأولى، فبعد أنْ أعذر في النصيحة إلى قومه وأقام الحجَّة التامَّة وأخلى نفسه من المسئولية الإلهيَّة التي أُنيطت به صار في وسعِه أنْ يختار أحد خيارين فإمَّا أنْ ينصرف عنهم أو أنْ يصبر عليهم ويُعاود النصيحةَ بعد النصيحة لهم، فكان الخيار الثاني هو أولى الخيارين ولكنَّه اختار الأول الذي هو على خلاف الخيار الأفضل والأولى، فاختيارُه للخيار المُخالِف للأولى لم يكن عن جهلٍ واشتباه حتى يُقال إنَّه اجتهد فأخطأ بل كان عن محضِ إرادةٍ وعلمٍ بأنَّ ما اختاره لم يكن الأولى وأنَّ الأولى هو الصبر ومعاودة النصيحة لهم بعد النصيحة، ولهذا استحقَّ اللَّوم والمعاتبة، كما قال تعالى: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾(2).

 

فما فعله يونس (ع) لم يكن خطأً كما أنَّه لم يكن معصية، إذ أنَّه لم يكن مكلَّفاً بالبقاء معهم بعد قيام الحجَّةِ عليهم، فانصرافُه عنهم لم يكن مخالفاً للتكليف ليكون معصيةً، نعم هو مخالفٌ لأولى الخيارين، فكان المُناسب أنْ يصبر إلا أنَّه كان في وسعه أنْ لا يصبر، فحيث اختار أنْ لا يصبر، لذلك فهو قد اختار ما هو خلاف الأنسب، فلا يُعدُّ ذلك معصيةً كما أنَّه لا يكون منافياً للعصمة، إذ أنَّ العصمة إنَّما هي عن الخطأ والمعصية، وهو لم يُخطِأ ولم يعصِ. وإنَّما ترك شيئاً مستحبَّاً، فالشأنُ في ذلك هو الشأنُ في ترك نبيٍّ من الأنبياء (ع) للنافلة في بعض الأحيان، فهذا النبيُّ كان مخيَّراً من أوَّل الأمر بين فعل النافلة وبين تركها، فحين يختار تركَها لا يكون عاصياً كما أنَّه لا يكون مُخطئاً، لأنَّه لم يتركها غفلةً او اشتباهاً بل تركها بمحضِ اختياره، نعم كان الأولى له أنْ لا يتركها ولكنَّه قد تركَها فيكون قد ترك الأولى وذلك لا ينافي العصمة.

 

قتل موسى للقبطي كان انتصاراً للمظلوم:

وأمَّا موسى (ع) فلم يقتل القبطي بدافع الغضب وإنَّما وكزه انتصاراً للمظلوم من بني إسرائيل، فما فعله لم يكن معصيةً بل كان طاعةً لله تعالى، إذ أنَّ الانتصار للمؤمن المظلوم من الكافر الظالم مطلوبٌ شرعاً، ويُؤكِّد ذلك أنَّ موسى (ع) لم يندم على قتله للقبطي بقرينةِ أنَّه في اليوم التالي لما استغاثه الذي هو من شيعته استجاب لاستغاثته فأراد أنْ يبطش بالذي هو عدوٌ لهما كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾(3) فلو كان قتله في اليوم الأول معصيةً لم يُقدِم عليها في اليوم التالي.

 

لم يكن قتل القبطي مِن قتل الخطأ:

فما فعله موسى (ع) لم يكن معصية كما أنَّه لم يكن خطأً فإنَّ وكزه -بمعنى ضربه بجمع كفِّه- كان مقصوداً، نعم قد لا يكون قاصداً لقتله لكنَّه كان قاصداً لوكزه أيَّاً كانت النتيجة، تماماً كما يفعل المقاتل في معركة الجهاد فإنَّه يضرب عدوَّه بالسيف فإنْ قُتل منها فقتلُه مشروع، وإنْ جُرح فجَرحُه مشروع، فهو لا يعبأ بما يترتب عن ضربه، بل يضرب والنتيجة بيد الله تعالى، فلا يُقال للمقاتِل لو ترتَّب القتل عن ضربه إنَّه أخطأ، كما لا يُقال إنَّه أخطأ لو كان أثرُ ضربه الجَرح، إذ أنَّه لم يقصد أحد الأثرين بعينه ليكون مخطئاً لو تحقَّق الأثرُ غير المقصود، بل قصد الضرب بالسيف أيَّاً كان أثرُه ونتيجته.

 

فالمقام ليس من قبيل ضرْبِ زيدٍ بالعصى لتأديبه فيتَّفق موتُه فيكون ذلك من قتل الخطأ فإنَّ مَن يقصد التأديب لأحدٍ يقصد الإبقاء عليه حيَّاً فإذا مات مِن ضربه فإنَّه يكون قد أخطأ مقصودَه، وأمَّا المقاتِل فإنَّه يضرب بالسيف أيَّاً كانت النتيجة، فالإبقاء ليس مقصوداً حتى يُقال إنَّه أخطأ مقصودَه لو قُتل، كذلك كان وكزُ موسى (ع) للقبطي فإنَّه لم يقصد إبعاده مع الإبقاء عليه حيَّاً فيكون موسى بذلك قد أخطأ مقصودَه، بل قصد ضربَه انتصاراً للمظلوم بقطع النظر عن النتيجة المترتِّبة عن ضربه، لذلك لم يكن من قصده الإبقاء عليه ليكون قد أخطأ مقصودَه.

 

وبتعبيرٍ آخر: لو كان موسى (ع) قد ضرب القبطي بقصد الإبعاد أو الإعطاب فاتَّفق وقوع القتل فإنَّه يكون قد أخطأ مقصوده، وليس في الآية دلالة على ما الذي قصده موسى (ع) من وكزه، فلا يصحُّ البناء على أنَّه قد أخطأ مقصوده، فصريحُ الآية أنَّه قصد الوكز وأنَّ الوكز قد صدر عن موسى (ع) عن اختيارٍ وتعمُّد، وأمَّا ما هي غايته من الوكز هل هو القتل أو الإبعاد فذلك ما لم تتكفَّل الآية لبيانه، فلو كان قد قصد الإبعاد فوقع القتل فهو قد أخطأ مقصوده، ولو كان قد قصد القتل فهو لم يُخطأ، وكذلك هو لم يخطأ لو لم يقصد النتيجة المترتِّبة على الوكز بأنْ قصد الوكز أيَّاً كانت النتيجة، تماماً كما يفعل المحارب فإنَّه يضرب بالسيف أو يرمي السهم، فقد يقتل وقد يجرح وفي كلا الفرضين لا يُوصف بالخطأ، نعم يُوصف بالخطأ لو أنَّ السهم لم يُصب الهدف.

 

معنى قوله ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾:

قد يُقال إذا لم يكن ما فعله موسى (ع) بالقبطي معصيةً ولم يكن خطأً فلماذا قال موسى (ع) بعد وكْز القبطي والقضاءِ عليه: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾(4) فإنَّ الظاهر أنَّه يُشير بقوله ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ إلى ما فعله بالقبطي.

 

والجواب: إنَّه لا يتعيَّن من قوله: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ إرادة ما فعله بالقبطي، فلعلَّه أراد مِن ذلك أنَّ عمل القبطي واضطهاده للإسرائيلي مِن عمل الشيطان لذلك فهو مستحِقٌّ لما وقع عليه، فيكون موسى بذلك في مقام التبرير لِما فعله بالقبطي.

 

ولعلَّه أشار بقوله: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ إلى ذات القبطي فيكون معنى: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ أي أنَّ القبطي من صنيعة الشيطان وعلى هذا يكون موسى (ع) في مقام التبرير أيضاً لِما فعله بالقبطي، ووصفُ الذات بعمل الشيطان متعارَف كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾(5) فالخمرُ ذاتٌ ورغم ذلك وُصِف بعمل الشيطان، وكذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾(6) فإنَّ الآية وصفت شخص ابن نوح وذاته بأنَّه عملٌ غير صالح.

 

ويُحتمل أنَّ معنى قول موسى (ع): ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ يعني الاقتتال الذي كان بين القبطي والإسرائيلي كان من عمل الشيطان كما نصَّت على ذلك رواية الشيخ الصدوق في العيون عن الإمام الرضا (ع) قال: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله، ﴿إنَّه﴾ يعني الشيطان ﴿عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾"(7).

 

وهذا المعنى هو المتعيِّن لو صحَّت الرواية، وعلى أيِّ تقدير لا ظهور للآية في المعنى المذكور في الإشكال، فلا تصلحُ دليلاً على أنَّ موسى (ع) قد عصى أو أخطأ بقتله للقبطي بل إنَّ قوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(8) يصلحُ مؤيِّداً على أنَّ موسى (ع) لا يقع تحت تأثير الشيطان، لأنَّه كان من المخلَصين بفتح اللام كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾(9).

 

لماذا قال: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾؟

قد يقال: فلماذا قال موسى (ع) بعد قتل القبطي: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(10) فلو لم يكن ما فعله معصيةً أو خطأً فما هو المُوجب لنسبة الظلم إلى نفسه، وما هو المُوجب لطلب المغفرة؟.

 

والجواب:

أمَّا طلب المغفرة فيكون تارةً بمعنى طلب الصفح عن معصيةٍ قد ارتكبها، ويكون كذلك بمعنى طلب الستر والعافية والكفاية عن تبعات فعلٍ قد فعله كما هو مقتضى المدلول اللغوي لكلمة المغفرة، فليس هناك إذن ملازمة بين طلب المغفرة وبين وقوع المعصية من طالب المغفرة.

 

وطلب موسى (ع) للمغفرة لم يكن بمعنى طلب الصفح عن معصيةٍ قد ارتكبها، إذ أقصى ما يُدَّعى في المقام أنَّه أخطأ عن غير عمدٍ بقتل القبطي، والخطأُ ليس معصية فيتعيَّن أنَّ المراد من طلبه للمغفرة هو طلبُه الكفاية من تبعات ما فعله من قتله للقبطي أي أنَّه طلب من ربِّه جلَّ وعلا النجاةَ من انتقام آل فرعون منه، وعليه فمعنى قوله تعالى: ﴿فَغَفَرَ لَهُ﴾ هو أنَّه تعالى نجَّاه من شرور آل فرعون وانتقامهم(11) ووعدَه أنَّه لن يُصيبه منهم مكروه فاطمئن لذلك واستراحت نفسه من الغمِّ والخشية على نفسه كما قال تعالى مخاطباً موسى (ع) في آيةٍ أخرى: ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ﴾(12).

 

وهذا الذي ذكرناه هو مفاد ما ورد في العيون عن الإمام الرضا (ع) في معنى قول موسى: "﴿فَاغْفِرْ لِي﴾ أي استُرْني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني"(13).

 

وأمَّا قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ فهو من آداب الخطاب والدعاء لله تعالى فكأنَّه أراد القول إنَّ صيرورتي في معرَض الانتقام من قِبل آل فرعون كان بسبب اختياري، فأنا مَن أوقعتُ نفسي في معرَض الانتقام بقتل القبطي واستثارة غضبهم فأنقذْني منهم، وتفضَّل عليَّ بالستر والكفاية مِن نقمتهم.

 

فموسى (ع) لم يكن مكلَّفاً بقتل القبطي وإنْ كان قتله مشروعاً، فهو حين اختار قتله يكونُ قد عرَّض نفسه -لاتِّخاذه هذا الخيار- لانتقام آل فرعون، لذلك صحَّ أنْ يقول لربِّه تأدُّباً واسترحاماً: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بسلوك هذا الخيار، ولو كان قتله للقبطي عدواناً وظلماً للقبطي لكان المُناسب أنْ يقول ظلمتُ القبطي بقتلي إيَّاه.

 

بيانٌ آخر لمنشأ نسبة الظلم لنفسه:

هذا وقد ورد أنَّ منشأ قول موسى (ع): ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ هو أنَّه وضع نفسه في غير موضعها بدخول المدينة، فلعلَّه كان الأرجح هو البقاء في موضع سكناه في قصور فرعون ومحميَّته والتي كانت في منئىً من صخب المدينة، فهو قد دخل المدينة فابتُلي بمعاينة ظلامةٍ تقع على رجلٍ من بني إسرائيل فكان عليه أن ينتصر للمظلوم، فلو بقي في موضع سكناه ولم يخرج لمَا كان قد ابتُلي بهذا التكليف الذي جرَّ عليه هذه التبِعة، لذلك صحَّ أن يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ فلقد كنتُ في عافيةٍ من هذه التبِعة فوضعتُ نفسي في هذا الموضع فأصبحتُ في معرَض الهلكة، ويُؤيِّد ذلك قوله تعالى في صدر القصَّة: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْن ِيَقْتَتِلَانِ﴾(14)(15) وهذا هو مفاد ما ورد في العيون عن الإمام الرضا (ع) حين سُئل عن "معنى قول موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ قال (ع) يقول: إنِّى وضعتُ نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة ﴿فَاغْفِرْ لِي﴾ أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني"(16).

 

وخلاصة القول: إنَّه لا يتعيَّن من قول موسى (ع): ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ أنَّه يقرُّ على نفسه بالمعصية أو الخطأ، ولذلك لا يصحُّ الاستدلال بالآية على صدور المعصية أو الخطأ من موسى (ع) وأقصى ما يمكن الاستدلال عليه بالآية أنَّه فعل ما هو خلاف الأولى، إذ كان الأولى أنْ لا يفعل ففعل فترتَّب عن فعله الوقوع في معرض الإدانة من قبل الظالمين فطلب من ربَّه الكفاية منها. فاستجاب الله تعالى له فنجاه من الغمِّ وقال تعالى في آية أخرى: ﴿نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(17).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

24 جمادى الثاني 1443ه

28 / يناير / 2022م

______________________________

[1]- عيون أخبار الرضا (ع) ج1 / ص171، الأمالي -الصدوق- ص151، بحار الأنوار- المجلسي- ج 11 / ص72.

[2]- سورة الصافات / 142.

[3]- سورة القصص / 19.

[4]- سورة القصص / 15.

[5]- سورة المائدة / 90.

[6]- سورة هود / 46.

[7]- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص177.

[8]- سورة الحجر / 39-40.

[9]- سورة مريم / 51. 

[10]- سورة القصص / 16.

[11]- هل الدعاء بـ (اغفر لي) يعني نجِّني؟ أليس ذلك خلاف ظاهر اللُّغة والاستخدام العرفي؟

الجواب:

إنَّ طلب المغفرة لا يُرادف لغةً طلب النجاة، ولكنًّه يقتضيه مآلاً، فإنَّ العاصي حين يسأل ربَّه المغفرة فإنَّه يطلب في المآل النجاة من النار أو العقوبة، وكذلك القاتل حين يطلب المغفرة مِن أولياء الدم فإنَّه يطلب في المآل النجاة من القصاص أو الدية، وهكذا فإنَّ الولد حين يطلب من أبيه المغفرة عن خطأٍ ارتكبه أو معصية اجترحها فإنَّه يطلب في المآل النجاة من حرمان أبيه له من النفقة أو القطيعة، والطالب يسأل معلِّمه المغفرة لينجو في المآل من السقوط أو الحرمان من التعليم، وهكذا يختلف متعلَّق المغفرة باختلاف الموارد.

فالمغفرة بحسب الاستعمال العرفي واللُّغوي تعني محو آثار الفعل، فإذا كان أثر الفعل هو استحقاق النار، فمغفرةُ هذا الفعل تعني محو هذا الأثر، وإذا كان أثر هذا الفعل هو ملاحقة الأشرار لك لإيذائك فطلبُ مغفرتهم تعني الطلب منهم محوَ آثار ما فعله بهم، فإذا استجابوا نجى من آثار ما فعله بهم وهو الأذى. 

وإذا طلب المغفرة عمَّا فعله بهم مِن الله تعالى فإنَّ معنى ذلك هو أنَّه يطلب من الله تعالى محوَ آثار ما فعله بهم، وهو ما يُساوق طلب الكفاية والنجاة من أذى الأشرار والذي هو أثر فعله بهم، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ فإنَّ رسول الله (ص) معصوم من الذنب والمعصية دون خلاف ولا إشكال، فمعنى المغفرة هنا هو أنَّه قد فعل بالمشركين والكفار أفعالاً من آثارها هو انتقامهم منه، فمغفرة الله تعالى له تعني محو هذا الأثر والذي يساوق في المآل نجاته من نقمتهم وكيدهم.

فإرادة طلب النجاة من الشرور والأشرار من قول ( اغفر لي) مناسبٌ لمقتضيات المدلول اللغوي لطلب المغفرة غايته أنَّ استعمال طلب المغفرة -كثيراً- في طلب الصفح عن المعصية من الله وطلب النجاة من النار والعقوبة أحدث أنساً عند المتشرِّعة -كما أفاد صاحب الميزان- بين مدلول طلب المغفرة وبين طلب الصفح عن المعصية والنجاة من العقوبة الإلهية.

[12]- سورة طه / 40.

[13]- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص177.

[14]- سورة القصص / 15.

[15]- قول موسى -بحسب الرواية- إنِّي وضعتُ نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة، ألا يُقال إنَّه أخطأ أيضاً هنا فقد وضع نفسه في غير موضعها؟

لم يكن موسى (ع) مكلَّفاً بعدم دخول المدينة، فكان دخولُه إليها مشروعاً ومباحاً، بل لعلَّ دخوله إليها كان راجحاً في نفسه وإنَّما لم يأمره الله تعالى بالدخول إليها في ذلك الظرف إرفاقاً به، لأنَّ ثمة مسئوليات ومتاعب تترتَّب عليه بدخولها، فهو حين يدخلها فإنَّ عليه أنْ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وينتصر للمظلوم ويُعين الضعيف وهي مسئوليات قد تترتَّب عليها متاعب أو تبعات، ولذلك لم يُؤمَر بالدخول، فإنَّ الله تعالى قد ادَّخره لِما هو أهم في مستقبل الأيام، فهو حين اختار الدخول لم يكن قد اختار ما هو محرَّمٌ ولكنَّه اختار ما فيه كلفةٌ على نفسه، وهذا -ظاهراً- هو معنى قوله (ع): وضع نفسه في غير موضعها، فاختار بمحض إرادته ما هو مرجوح ولكنَّه لم يعصِ الله تعالى، لأنَّه لم يكن منهياً عن الدخول، وكذلك هو لم يُخطأ لأنَّه لم يفعل ذلك لغفلته عن كون الدخول مرجوحاً وإنَّما دخل لحرصه على الاطلاع والمعاينة لأحوال قومه من بني إسرائيل رغم أنَّ الله تعالى عافاه من ذلك إرفاقاً به وادخاراً له لما هو أهم.

فهو كالعالم الذي يختار بمحض إرادته دخول السوق ومخالطة السُوقة رغم أنَّه لم يؤمر بذلك إرفاقاً به فهو حين اختار ذلك كان عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعين الضعيف ويتحمل حماقة السفهاء فيكون بذلك قد وضع نفسه في غير موضعها وألزم نفسه بما لا يلزم لو لم يتخذ هذا الخيار.

[16]- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص177، الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص219.

[17]- سورة القصص / 25.