﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ﴾ .. وأين البنات؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

 

المسألة:

سماحة الشيخ العزيز

قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..﴾.

 

بعض المفسِّرين يقولون إنَّ المقصود بالبنين هم الذكور أي المعنى الحقيقي، وعليه فقد يُقال إنَّ هذا إقرارٌ بالنزعة الجاهليَّة نحو الذكور دون الإناث، لأنَّ الآية واردة في سياق الحديث عمَّا فُطر عليه الإنسان.

 

الجواب:

الآية المباركة ليست واردة في سياق الحديث عمَّا فُطر عليه الإنسان وإنَّما هي بصدد التذكير بأنَّ ما يتزيَّن به الإنسان من مظاهر القوَّة والمنعة ليس لها دوام بل هي إلى زوال وفناء، ولهذا خصَّ بالذكر المال والبنين، إذ هما أجلى مظاهر أسباب القوَّة والمنعة في الحياة الدنيا، وأمَّا البنات فحيثُ إنَّهنَّ لسنَ من أسباب القوَّة والاقتدار التي يتفاخرُ بها الإنسان الغافل لذلك لا معنى لذكرهنَّ في المقام.

 

سياق الآية قرينة على المراد:

والذي يؤكِّد أنَّ الآية بصدد التذكير بأنَّه لا بقاء لما يعتقده الإنسان من أسباب القوة والمنعة هو ملاحظة سياق الآية المباركة، فالذي سبق هذه الآية هو قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾([1]).

 

وكلٌّ من الآيتين جاءتا تعقيبًا على قصَّة الرجلين الذَين كان لأحدِهما جنتان من أعنابٍ ونخلٍ وزرع وقد تفجَّر خلالهما نهرٌ وكان له منهما ثمَر، فقال لصاحبه وهو يُحاوره متباهيًا: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾([2]) ثم إنَّه دخلَّ جنتَّه ﴿وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا / وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾([3]) فأجابه صاحبُه موبِّخًا له على كفره بالمعاد، ومذكرًا له بأصلِه وما كان عليه من ضعف وأنَّه إنَّما صار إلى ما هو عليه بمنِّ الله وعطائه: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا / لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾([4]) ثم وعظَه بقوله: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾([5]) فما أنت عليه من قوَّة وثراءٍ واقتدار إنَّما هو مِن عند الله تعالى وقد ساقه إليك بمشيئته، وأنَّه لا قوَّة إلا وهي مستمدَّةٌ من قوَّة الله تعالى، فتكاثُرك عليَّ بالمال والولد افتخارٌ بشيءٍ ليس مِن عندِك، وليس في وسعِك ومقدورِك أنْ تمنعني من أنْ أحظى مِن الله بمثل ما تحظى به مِن عنده، ثم إنَّك لا تملك التحفُّظ على ما عندك، وليس في وسْعِك أنْ تحول دون هلاكه وتبدُّده لو شاء اللهُ تعالى له ذلك قال: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا / أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾([6]) ثم قال تعالى يُخبِرُ عن مصير جنَّته التي كان يستطيلُ ويتزيَّنُ وُيفاخِر بها: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾([7]) وأمَّا مَن كان يُكاثِر ويتباهى بهم فلم يتمكَّنوا من الانتصار له ولم يتمكَّن من الامتناع بهم عن أمر الله جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا﴾([8]) فالولاية والنصرة والسلطان الحقيقيُّ إنَّما هو لله جلَّ وعلا فهو خيرٌ ثوابًا وخيرٌ عاقبة: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾([9]).

 

ثم إنَّ الله تعالى خاطب نبيَّه الكريم (ص) وأمره أنْ يضرب للناس مثلًا لتذكيرهم ووعْظِهم وهو أنَّ الزرع إنَّما يصيرُ نضِرًا وقائمًا على سُوقه بالماء الذي يهطلُ عليه، فإذا انقطع عنه الماء ذبُل وذوى وصار هشيمًا تذروهُ الرياح، كذلك هو الإنسان إذا انقطع عنه المدَد الإلهي فإنَّ ما يتزيَّنُ به من أسباب القوَّة والمنعة تتلاشى وتفقدُ تأثيرها، والباقي الذي لا يزول هو مَن كانت قدرتُه غيرَ مستمدَّةٍ من غيره بل هو مصدرُ القوَّة والاقتدار لكلِّ شيء وعلى كلِّ شيء وهو الله جلَّ وعلا قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾([10]).

 

في هذا السياق جاء قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾([11]) فالآيةُ بصدد التذكير بأنَّ ما يتزيَّن به الإنسانُ من المال والبنين -كونها من أسباب القوَّة والمنَعة- إنَّما هي كذلك في الحياة الدنيا، فأمدُها ينقطعُ بانقطاع الدنيا، لذلك ينبغي له أنْ يحرص على ما يبقى وهو عملُ الصالحات فهي: ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾.

 

منشأ ذكر البنين دون البنات:

وممَّا ذكرناه يتَّضحُ منشأ ذكر البنين في المقام دون البنات، فإنَّ الآية بصدد بيان ما به يتزيَّن الإنسانُ من أسباب القوَّة والاقتدار والمنَعة، وذلك إنَّما هو للمال والبنين، ولعلَّه لذلك قدَّم المال على البنين وذلك لأنَّه أبلغُ في تحصيل هذه الغاية من البنين، وليس لأنَّ الإنسان يُفضِّل المال على البنين.

 

وبه يتبيَّنُ أنَّ ذكْر البنين في المقام دون البنات نشأ عن أنَّ الشأن الذي كانت الآيةُ بصدده إنَّما يُناسب البنين دون البنات، وذلك لا يُعبِّر عن التفضيل أو الإقرار لِما عليه الثقافة الجاهليَّة من الرغبة في البنين دون البنات.

 

ويُمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ﴾([12]) فالآية ذكرت جلودَ الأنعام وأصوافَها وأوبارها وأشعارها، فهل يصحُّ أنْ يُقال إنَّ القرآن يرى أنَّ جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها أكثرُ نفعًا من لحوم الأنعام وألبانها مثلًا؟

 

لا يُمكن استفادة ذلك من الآية، لأنَّها بصدد البيان لِما ينفع في بناء المخيمات وما ينفع للأثاث والمتاع، ومِن الواضح أنَّ الذي ينفع لهذا الشأن هو مثل الجلود والأصواف والأوبار، ولهذا خصَّها بالذكر دون اللحوم والألبان، كذلك المقام، فإنَّ الذي يتباهى به الإنسان ويُفاخر به ويستظهرُ به -كونه من أسباب القوَّة والمنعة- هو المال والبنون، فعدمُ ذكر البنات إنَّما هو لعدم مناسبته لهذه الغاية، وهذا هو كذلك منشأ عدم ذكر البنات في مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾([13]).

 

وخلاصة القول: إنَّ قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ ليس مسوقاً لإفادة أنَّ الإنسان مفطورٌ على حبِّ المال والبنين والرغبة فيهم حتى يُقال: ولماذا لم يذكر البنات؟! بل إنَّ الآية مسوقةٌ لإفادة أنَّ المال والبنين وإنْ كانا من أسباب القوَّة والمنعة التي يتزيَّنُ بها الإنسان ويتباهى بها أمام الناس إلا أنَّ ذلك ليس له بقاء، فالصالحاتُ هي الباقيات، وأمَّا المال والبنون فإلى زوال.

 

فالآية لا تُقرِّر ما عليه النزعة الجاهليَّة من الرغبة في البنين دون البنات وإنَّما تُذكِّر بأنَّ ما يتباهى به الإنسان مِن مظاهر القوَّة والمنعة ليس له بقاء ودوام.

 

آية: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ ..﴾:

وأمَّا قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾(14).

 

فهذه الآية كذلك لا تُقرِّر ما عليه الناس من حبِّ الشهوات والبنين والقناطير بل الواضح منها ومِن سياقها أنَّها في مقام الذمِّ وأنَّ ذلك من زخارف الدنيا كما هو مقتضى التعبير بزُيِّن فهي لا تتحدَّث عن الحبِّ المعتدل الذي تقتضيه الطبائع بل عن الحبُّ المفرط والذي هو من تسويلات الشيطان وتزيينه أو من تسويلات النفس الضعيفة الأمَّارة بالسوء، والذي يؤكِّد ذلك أنَّها لم تتحدَّث عن حبِّ المال الذي يتبلَّغُ به الإنسان لقضاء الحاجات بل تحدَّثتْ عن حبِّ القناطير المقنطرة من الذهب والفضَّة، والقنطار الواحد هو المالُ الكثير الذي يُقدَّر بملئ جلدِ ثورٍ ذهباً، وتحدَّثت عن حبِّ الشهوات، فهي تتحدَّث عن حالةٍ من الجشع والنهَم والحرص على الاستكثار من أصناف الأموال والتشبُّع بالمشتهيات، مثلُ ذلك لا تقتضيه الطبائع القويمة ولا يُمكن أن يكون ذلك مِن تزيين الله تعالى الله عن ذلك علوَّا كبيرا.

 

ويؤكِّد ذلك ما أفادته الآيات التي تلتْ هذه الآية حيث أفادت أنَّ الأتقياء ليسوا كذلك، لهذا فلهم في الآخرة ما هو خير ممَّا يتوهَّم الغافلون أنَّه خيرٌ لهم، ثم وصفت الأتقياء بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ / الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾(15).

 

فآية: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ..﴾ لا تُقرِّر ما هم عليه بل هي تُشنِّع عليهم ذلك، فليس الحبُّ لهذه المتعلَّقات الذي تحدَّثتْ عنه الآية هو الحبُّ الذي يضمن بقاء الحياة وانتظامها بل هي تتحدَّث عن الحبِّ المفرط الذي كان وما زال سبباً لغفلة الإنسان عن ربِّه ودينه وقيَمه وسبباً للمظالم والحروب والفساد وجميع آفات الحياة.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

25 / شعبان / 1443هـ

29 / مارس / 2022م


[1]- سورة الكهف / 45.

[2]- سورة الكهف / 34.

[3]- سورة الكهف / 35-36.

[4]- سورة الكهف / 37.

[5]- سورة الكهف / 38.

[6]- سورة الكهف / 40-41.

[7]- سورة الكهف / 42.

[8]- سورة الكهف / 43.

[9]- سورة الكهف / 44.

[10]- سورة الكهف / 45.

[11]- سورة الكهف / 46.

[12]- سورة النحل / 80.

[13]- سورة الإسراء / 6.

14- سورة آل عمران / 14.

15- سورة آل عمران / 16-17.