نسيان فتى موسى (ع) هل يُنافي العصمة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

يُذكر في التفاسير أنَّ الذي بلغ مجمع البحرين مع نبيِّ الله موسى (عليه السلام) هو يوشع بن نون وصيُّه كما يذكر، والمعروف أنَّ الأوصياء معصومون فكيف نوفِّق بين عصمة يوشع بن نون وقولِه: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾(1)؟

 

الجواب:

النسيان المُحرز منافاته للعصمة:

المقدار المُحرَز منافاتُه للعصمة هو النسيان الذي يكون بمعنى انمحاء -ما كان معلوماً- من الذاكرة بحيثُ تخلو الذاكرة من ذلك المعلوم، فلو شاء أنْ يتذكَّره فإنَّه لا يذكرُه، وأمَّا النسيان بمعنى اشتغال النفس بأمورٍ تمنعُ من حضور المعلوم على صفحة الذهن ولكنَّه يبقى حاضراً في النفس بحيثُ متى شاءَ استحضاره فإنَّه يستحضرُه تامَّاً غيرَ منقوص فذلك لم يثبتْ -ظاهراً- منافاته للعصمة إذا كان المنسيُّ شأناً حياتياً لا ربطَ له بالدين أو تبليغِه ولم يقتضِ ترك واجبٍ أو الإخلال به أو فعل حرامٍ واقعي، وكان وقوع هذا النحو من النسيان اتفاقيَّاً لا يضرُّ بمصداقيَّة الناسي.

 

ويُمكن التمثيل لذلك بما لو نوى أنْ يطلب من خادمه أنْ يشتريَ له لحماً فشغلتْه بعضُ الشواغل فنسيَ اتِّفاقاً أنْ يطلبَ من خادمه ذلك، فإنَّ هذا المقدار من النسيان لم يثبت –كما يظهر من كلمات صاحب الميزان(2)- منافاتُه للعصمة الواجبة.

 

وهذا النحو من النسيان هو الذي وقعَ لفتى موسى (ع) فهو لم ينسَ ما كان قد شاهدَه عند الصخرة حين اتَّخذ الحوتُ سبيلَه في البحر بل ظلَّ هذا الحدَث ثابتاً في ذاكرتِه، غايتُه أنَّ اشتغاله بشأنِ السفر والقيام على خدمة نبيِّ الله موسى (ع) منعَ من استحضار ذلك، فلم يُخبِر موسى (ع) بما كان قد شاهدَه إلا أنَّه وبمجرَّد أنْ سأله موسى (ع) عن الغداء استحضرَ ذلك المشهد وأخذَ يحكيه -كما هو- لموسى (ع).

 

﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾(3) فمعنى ذلك هو أنَّه نسيَ حمل الحوت أو نسيَ أنْ يُخبِرَ موسى (ع) بما وقعَ للحوت من اتِّخاذه سبيله في البحر عجبا.

 

فالنسيان الذي وقع لفتى موسى (ع) كان بمعنى اشتغال النفس بما منعَ من حضور المشهد الذي صادفه على صفحة الذهن، وكان ذلك مِن لمَمِ الشيطان وتشغيبه، ولو أنَّ الفتى أخبرَ موسى (ع) فَوْر وقوعِ الحادثة أو بعد استيقاظه -لأنَّه كما قيل كان نائماً- لما تجشَّما عناءَ المسير ثم عادا إلى حيث الصخرة التي انطلقا منها بعد جهدٍ ونصَب، فما وقعَ للحوت عند الصخرة كان هو العلامة التي كان ينتظهرُها موسى (ع) ليصلَ منها إلى موقع العبد الصالح، فنسيانُ الفتى كان قد تسبَّب في المزيد من الوقت والجهد والنصَب، ولهذا ناسب أنْ يكون مِن لمَم الشيطان وتشغيبه، وتأثيرُ الشيطان بهذا المقدار الذي لا يستلزم معصيةً أو نسياناً لشأنٍ ديني أو شأنٍ خطير ولا يستلزم أكثر من إيقاع الجهد والتعب، هذا المقدار من تأثير الشيطان لا يُنافي العصمة كما يُؤكِّد ذلك قولُه تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾(4). فتأثيرُ الشيطان على الأنبياء لا يتجاوز الاقتضاء لمثل الجهد والنصَب.

 

والمتحصَّل أنَّ النسيان الذي وقع لفتى موسى (ع) كان بمعنى غياب الحدَث الذي شاهده عن صفحة الذهن آناًما دون أنْ يمتحي ذلك من ذاكرته، فإنَّ المعصوم (ع) لا ينسى بهذا المعنى، أي لا يكون نسيانُه بمعنى انمحاء المعلوم عن ذاكرته أبدا.

 

الوجه في نسبة النسيان لموسى وفتاه:

وممَّا ذكرناه يتَّضح أيضاً الوجهُ فيما نسبَه القرآنُ الكريم من النسيان لكلٍّ من موسى (ع) وفتاه في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾(5).

 

فالآيةُ المباركة نسبتْ نسيانَ الحوت لكلٍّ من موسى (ع) وفتاه، فموسى –كما أفاد صاحبُ الميزان(6)- نسيَ أنْ يتفقَّد الحوت وأنَّه هل لا زال في المكتل (الوعاء) وفتى موسى يعلم بأنَّ الحوت قد اتَّخذ سبيله في البحر ولكنَّه نسيَ أنْ يُخبِرَ موسى (ع) بذلك، أو كما قيل إنَّ المراد من نسيانِهما للحوت هو تركُهما له، فلو كان هذا هو المراد لكان مقتضاه أيضاً وقوع النسيان منهما، فهما كانا يقصدان حمله معهما، فتركُهما له والمسيرُ عنه دون التأكُّد من حملِه لا يكون إلا عن نسيانٍ له، وكذلك لو قيل إنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ أنَّ الفتى هو مَن نسي الحوت وإنَّما نُسب النسيان لهما مجازاً كما يُقال نسيَ القوم زادَهم إذا نسيَه المتعهِّد بحمله(7) فلو كان هذا هو المراد من الآية فإنَّها تنسبُ على أقلِّ تقدير النسيان لفتى موسى (ع).

 

فالنسيان قد وقع منهما أو مِن أحدِهما على أيِّ تقدير، وهذه النحو من النسيان بهذا المقدار لا يُنافي العصمة الواجبة، فيجوز مثلاً أنْ يشتغلَ المعصوم (ع) بالصلاة أو المناجاة لربِّه فيشغلُه الاستغراقُ في ذلك عن القيام بفعلٍ مباح كان قد نوى أنْ يفعله، فلعلَّ موسى (ع) كان مستغرِقاً في الذكر لله تعالى أو في البحث عن العبد الصالح أو شغله الإجهاد والتعب، فنسيَ أنْ يتفقَّد الحوت ومضى في سفره دون أنْ يتأكَّد من حمل فتاهُ للحوت، ولعلَّ فتاهُ كان كذلك مشغولاً ذهنُه بالبحث عن العبد الصالح أو كان مشغولاً بتأمين الطريق فشغلَه ذلك أو غير ذلك عن حمل الحوت أو شغلَه عن ذكرِ خبره لموسى (ع).

 

النسيان بالنحو المذكور لا يشملُ النبيِّ (ص) وأهل بيته (ع):

وهنا لا بدَّ من التنبيه على أمرٍ وهو أنَّ عدم منافاة هذا النحو وهذا المقدار من النسيان للعصمة الواجبة لا يعني بالضرورة الوقوع فيه من قِبَل النبيِّ الكريم (ص) والأئمة الأطهار (ع) بل قد لا يكون جائزاً عليهم صدور هذا المقدار من النسيان لا لمنافاته للعصمة الواجبة بل لمنافاته لِما ثبتَ لهم من مقاماتٍ أخرى تفوقُ مقام العصمة بمراتب.

 

فنحن نعتقدُ في النبيِّ الكريم (ص) -والأئمة (ع) تبعاً له- أنَّه تنامُ عينُه ولا ينامُ قلبُه، وأنَّه مستجمِعُ الحواس دائماً وفي كلِّ آنٍ، فلا يغفل، ولا يسهو، ولا يشغلُه شأنٌ عن آخر، ولا يعتريه لممٌ من الشيطان مهما كان حقيراً، وهذا ليس من العصمة الواجبة لمقام النبوَّة، فهي لا تقتضي هذا المقدار، فهي إذن -أعني الملَكات الأخرى الثابتة للنبيِّ (ص) وأهل بيته (ع)- منحةٌ إلهيَّة زائدة على مقام العصمة منحَها لأفضلَ عبادِه وأكرمِهم عنده وهم النبيُّ الكريم (ص) وأهل بيته (ع).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / ذو القعدة / 1443ه

15 / يونيو / 2022م

------------------------------

1- سورة الكهف / 63

2- الميزان في تفسير القرآن -العلامة الطباطبائي- ج13 / ص341، 350.

3- سورة الكهف / 63.

4- سورة ص / 41

5- سورة الكهف / 61.

6- الميزان في تفسير القرآن -العلامة الطباطبائي- ج13 / ص339، 340، 350.

7- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج6 / ص363.