معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى: ﴿ولَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ في قوله تعالى من سورة يونس: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(1)؟

 

الجواب:

الآية المباركة بصدد الوعد للذين أحسنوا العمل في الدنيا فكانوا يعملون الصالحات استجابةً لله ورسوله (ص) فهؤلاء لهم الحسنى أي يُكافئون في الآخرة بالمثوبة بل يزيدهم الله تعالى من فضله، فالزيادة هي المثوبة التي تُضاف إلى مقدار ما حدَّده اللهُ لكلِّ عملٍ صالح، فهم يستوفون أجرهم المقدَّر لعملهم ثم يزيدهم الله تعالى مِن فضله كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾(2) فهذه - ظاهراً - هي الزيادة التي عنتها الآية من سورة يونس، ثم تصدَّت الآية لوعد الذين أحسنوا بالأمن من أنْ يرهقَ وجوهَهم قترٌ، وفي ذلك تطمينٌ للذين أحسنوا بأنَّه لن ينالُهم شيء من عذاب كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾(3) وكما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ / لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾(4).

 

المراد من الرهق:

وأمَّا المراد من الرَهق(5) في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ﴾ فهو أنَّه لا يغشى وجوهَهم أو لا يعلو وجوهَهم أو لا يدنو من وجوهِهم أو لا يُصيب وجوهَهم أو لا يلحقُ وجوههم، أو لا يُدرك وجوههم، والمعاني متقاربة، فالرهَق يُستعمل ويُراد منه الإدراك واللَّحاق، يقال: غلامٌ راهق أي أدرك مدرك الرجال، وغلام مراهق إذا لحق بالرجال أو قارب الحُلُم، ويُقال رهقه في الحرب بمعنى أدركه، ورَهِقَ فلان فلاناً تَبِعه فقارَب أَن يَلْحَقه، وأَرْهَقْناهم الخيْل أي أَلحقْناهم إِياها، ويقال أَرْهقناهم الخيل فهم مُرْهَقون أي مدركون.

 

ويقال: رَهِقْته بمعنى غَشِيته، ومنه قوله تعالى: ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾(6) أي يغشاهما، ويقال: رَهِقه دينٌ، فهو يَرْهَقُه إِذا غَشِيه واستولى عليه، وقد استعمل القرآن الغشيان في موضع الرهق كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾(8).

 

المراد من القتَر:

وأمَّا المراد من القتر(9) في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ فهو الغبار أو الدخان، ويُقال له القُتار، والقتر جمعٌ مفرده قتَرة كما في قوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ /وتَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾(10) والقَتَرةُ غَبَرة يعلوها سواد كالدخان.

 

وعليه فمعنى قوله تعالى: ﴿ولَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ هو أنَّه لا يغشى وجوههم غبار أو أنَّه لا يغشى وجوههم سوادٌ كالدخان كما يغشى الذين كذبوا على الله كما في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾(11).

 

وقد يكون المراد من القتر المجاز، فيكون المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ هو أنَّه لا ترهقُهم كآبة ولا حُزن ولا هلَع، فلأنَّ المصاب بالكآبة والغمِّ أو الحُزن أو الهلع يربدُّ وجهه وتنقبض أساريره فيُصبح وجهُه عابساً مكفهراً أو منكسفاً شاحباً لذلك ناسب تشبيه ما يعلو وجوههم من أثر الكآبةٍ والهلعٍ بالوجوه التي يغشاها الغبار والدخان.

 

هل المراد الحقيقة أو المجاز:

فهنا احتمالان بل رأيان في بيان مفاد الآية والآيات المشابهة:

الاحتمال الأول: أنَّ الآية والآيات المشابهة محمولةٌ على الحقيقة وأنَّ العصاة والكافرين المستحقِّين للنار تغشى وجوههم يوم القيامة قترة وتسودُّ منها وجوههم، فيكون ذلك علامة على سوء عاقبتهم وأنَّ مصيرهم إلى النار، وفي المقابل تبيضُّ وجوه المؤمنين فيكون ذلك علامة على حسن عاقبتهم وأنَّهم من أهل النعيم، ولعلَّ ممَّا يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ / وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(12) وقوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾(13) فهم يُعرفون بوجوههم المسوَّدة حقيقة، وعلى ذلك يُحمل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾(14).

 

الاحتمال الثاني: أنَّ الآية والآيات المشابهة محمولةٌ على المجاز وأنَّ معنى غشيان الغبار والدخان وجوههم هو أنَّهم لفرط كآبتهم وحزنهم وهلعِهم من المصير البائس الذي ينتظرهم تربدُّ وجوهُهم وتكفهِّر، ويعلوها الشحوب والتقبُّض تماماً كمَن غُشي وجهه بالغبار والدخان الأسود، ولعلَّ ممَّا يؤيِّد إرادة هذا المعنى المقابلة في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ / ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ / وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ / تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾(15) فالوجوه التي تنتظرُ النعيم مُسفرة متهللِّة ومنبسطة، وفي مقابل ذلك الوجوه التي تنتظرُ العذاب فإنَّها تكون مُنكسفة وشاحبة ومُنقبضة كأنَّما غشيتها غبرة، فالآياتُ جعلت الإسفار والاستبشار في مقابل الوجوه التي تغشاها غبرة وقترة وهي قرين على إرادة المجاز من القترة والغبرة، والظاهر أنَّ ذلك هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(16).

 

فمفاد الآية أنَّ الذين كسبوا السيئات تعلو وجوههم ظُلمةٌ من فرط الكآبة والحُزن والهلع ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ أي كأنَّما أُغشيت وجوههم بالسواد، فيكون المراد من الظلمة التي تغشى وجوههم هو ذاته المراد من السواد في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾(17) فالمقصود من السواد الذي يغشى الرجل في الجاهليَّة حين يُبشر بالأنثى هو ما يعلو وجهَه من أثر الغيظ والحزن.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

26 / شهر رمضان / 1444ه

17 / ابريل / 2023م

-------------------------------------

1- سورة يونس / 26.

2- سورة النساء / 173.

3- سورة الدخان / 51.

4- سورة الأنبياء / 101-102.

5- لاحظ: لسان العرب -ابن منظور- ج10 / ص129، أساس البلاغة -الزمخشري- ص386، تاج العروس -الزبيدي- ج13 / ص183.

6- سورة الكهف / 80.

7- سورة يونس / 27.

8- إبراهيم / 50.

9- لاحظ: لسان العرب -ابن منظور- ج5 / ص71، تاج العروس -الزبيدي- ج7 / ص366.

10- سورة عبس / 40-41.

11- سورة الزمر / 60.

12- سورة آل عمران / 106-107. 

13- سورة الرحمن / 41.

14- سورة الزمر / 60. 

15- سورة عبس / 38-41.

16- سورة يونس / 27.

17- سورة النحل / 58.