التفسير الإشاري ونفي اعتباره

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما هو التفسير الإشاري؟ وهل يصحُّ اعتماده؟

 

الجواب: 

تعريف التفسير الإشاري ومنشأ وصفه بذلك:

التفسيرُ الإشاري هو تفسيرُ القرآن على خلاف ما تقتضيه الظهوراتُ العرفيَّة المُستنِدة إلى قواعد اللَّغة ومداليل الألفاظ اللُّغويَّة وسياقاتِها والقرائنِ المكتنفة بها، فكلُّ تفسيرٍ لا يستندُ لذلك ويكونُ مستندُه إشارةً خفيَّة يزعم المفسِّر أنَّه أدرَكها فهو مِن التفسير الإشاري.

 

فمنشأُ وصف هذا النحو من التفسير بالإشاري هو ما يذكرُه أصحابُه مِن أنَّه يستندُ إلى ما يُعبِّرون عنه بالإشارة الخفيَّة المُدرَكة بواسطة ما يُسمَّى بالكشف والشهود والإلهام الإلهي والفتح الرباني، وذلك لا يُتاح -كما يقولون- إلا لذوي الأسرار والبصائر وأرباب السلوك والعرفان، ولهذا فالمعروفون بهذا النحو من التفسير هم المتصوِّفة، وقد يُطلقونَ على هذا النحو من التفسير عنوان التفسير الصوفي أو التفسير الفيضي.

 

وأصحابُ هذا التفسير على صنفين:

الصنف الأول منهم -ولعلَّهم الأكثر- يقولون إنَّ ظواهر القرآن وإنْ كانت مرادةً لله تعالى وحجَّةً على العباد إلا أنَّ المعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري مرادةٌ لله تعالى أيضاً، بشرط أن لا تكون مناقضة لظاهر الكتاب، فهي وإن لم تكن مناسبةً لظاهر الكتاب ولا هي مستنِدة لمقتضيات الأوضاع اللُّغويَّة والسياقيَّة إلا أنَّه يُعتبر في اعتمادها أنْ لا تكون مناقضة لظاهر الكتاب. وهؤلاء قد يُعبِّرون عن ظواهر القرآن بظاهر الشريعة وعن المعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري بحقائق الشريعة أو بباطن القرآن.

 

والصنف الثاني: يقولونَ إنَّ المراد محضاً من آيات القرآن هو المعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري، وأمَّا ظواهرُ آيات القرآن فهي ليست مرادةً لله تعالى، فحقيقةُ معاني القرآن -والتي لا حقيقة سواها بزعمهم- تختصُّ بالمعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري والمُدركة لذوي الأسرار وأرباب السلوك من طريق الإلهام والمكاشفة. فهذه المعاني هي حقائقُ آيات القرآن، وأمَّا ما يظهر من ألفاظ الآيات فهي ليست مرادةً لله تعالى، وبعضُهم زعم أنَّ المعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري هي الحقائق المقصودة ولكنها للخواص وهم أرباب المعارف والسلوك، وأمَّا المعاني الظاهرة للآيات فهي للعامَّة فظواهر الكتاب والشريعة إنَّما هي للعامة وليست للخواص وخواصِّ الخواص.

 

نماذج للتفسير الإشاري:

ولمزيدٍ من توضيح المراد من التفسير الإشاري نذكرُ له عدداً من النماذج:

 

النموذج الأول: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾(1) هذه الآية متصدِّية لبيان مصارف الزكاة وأنَّها للفقراء والمساكين إلا أنَّ أصحاب التفسير الإشاري قالوا إنَّ الآية تُشيرُ إلى أنَّ الله جلَّ وعلا إنَّما يفيض معارفَه على قلب الإنسان إذا تحقَّق منه الإذعان بالفقر والمسكنة لله تعالى، فمَن أراد أنْ يفيض اللهُ عليه من مواهب المعرفة فليُصحِّح في نفسه حالة الفقر والفاقة لله جلَّ وعلا. فالصدقات في الآية إشارة إلى الفيوضات الربانيَّة، والذي يتأهل لتلقِّي هذه الفيوضات هم الذين تحقَّق منهم الإذعان لله بالفقر والمسكنة.

 

النموذج الثاني: قوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ ﴾(2) هذه الآية المباركة تتحدَّث عن النفقة الواجبة للزوجة وأنَّ على الزوج أن يُنفقَ على زوجته بمقدار سعته وقدرته إلا أنَّ أصحاب التفسير الإشاري قالوا إنَّ الآية تُشير إلى أنَّ العارف بالله الواصلَ إليه يتعيَّنُ عليه أن يُرشد عباد الله على قدر ما وهبَه الله من المعرفة، وعلى السالك -والذي هو أقلُّ رتبة من الواصل- أنْ يُرشد إلى الله بمقدار ما وهبَه من المعرفة، فذوو السعة من المعرفة وهم الواصلون يُنفقون معارفهم بقدر سعة معارفهم ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ يعني من ضاقت معارفهم وهم السائرون فعليهم كذلك أنْ ينفقوا من معارفهم بمقدار وسْعهم.

 

النموذج الثالث: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾(3) مفاد الآية واضح في أنَّها بصدد التشنيع على من يَمنع مساجد الله عن أن يذكر فيها اسمه، والتشنيع على مَن يسعى في خرابها إلا أنَّ أصحاب التفسير الإشاري قالوا إنَّ المساجد في الآية تُشير إلى القلوب لأنَّها مواضع الخضوع لله تعالى ومِن طريقها يَعرف العبدُ ربَّه فتسجد القلوب بفناء النفوس، ومعنى منع المساجد من ذكر الله هو الحيلولة بين القلوب وبين المعارف اللدنيَّة، ومعنى السعي في خرابها هو تكديرُها بالتعصُّبات وغلبةِ الهوى.

 

النموذج الرابع: قوله تعالى: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾(4) هذه الآية تُخبر عن حال فرعون الذي بعث اللهُ تعالى إليه نبيَّه موسى (ع) وأنَّه أي فرعون عصى الرسولَ موسى (ع) وجحَد نبوَّته فكان جزاؤه أن أخذه اللهُ أخذاً وبيلاً شديدا غليظاً وذلك بأنْ أهلكه بالغرق، هذا هو مفاد الآية المباركة إلا أنَّ أصحاب التفسير الإشاري قالوا إنَّ الآية تُشير إلى أنَّ القلب الطاغي المتمرِّد على رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالاً.

 

النموذج الخامس: قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾(5) الآية تُخاطب المؤمنين بالأمر بمجاهدة ومقاتلة الكفار القريبين من ديارهم، الأقرب منهم فالأقرب إلا أنَّ أصحاب التفسير الإشاري قالوا إنَّ الآية تأمرُ بمجاهدة النفس، فإنَّ أقرب شيءٍ للإنسان هي نفسُه، فالأمر بقتال الكفار معناهُ أو يشير إلى الأمر بمجاهدة النفس.

 

النموذج السادس: قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾(6) الآيةُ تأمرُ بمقاتلة الكفار لاستئصال الشرك ويكون الدين خالصاً لله تعالى فإنْ انتهوا عن الشرك فعلى المؤمنين أن يكفوا عن مقاتلة المنتهين، لأنّ مقاتلتهم بعد انتهائهم عن الشرك عدوانٌ وظلم، هذا ما يظهر من الآية المباركة إلا أنَّ أصحاب التفسير الإشاري قالوا إنَّ الآية تأمرُ بمجاهدة النفوس فإنَّ أعدى الأعداء هي نفس الإنسان التي بين جنبيه، لذلك فالآية تأمرُ باستيفاء طرق المجاهدات والرياضات حتى لا يبقى شيءٌ من آثار البشرية في النفس، وبذلك تخلصُ النفس والقلب لله فلا يكون فيهما معارضٌ ولا منازع لا بالتوقِّي ولا بالتلقِّي، وتكون النفس محواً عن الاختيارات، فإذا استسلمت النفس وخلص القلب لله تعالى فلا عدوان إلا على أرباب التقصير، وأمَّا مَن قام بحقِّ الأمر فقد تقصَّى عن عهدة الإلزام.

 

النموذج السابع: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(7) الآيةُ بصدد الأمر للمؤمنين بالعمل على الإصلاح لو اتفق اقتتالٌ بين طائفتين من المؤمنين، فإنْ بغتْ وتعدَّت إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تستجب للصلح فعلى المؤمنين مقاتلة الطائفة الباغية منهما، هذا هو مفاد الآية إلا أنَّ أصحاب التفسير الإشاري قالوا إنَّ لمفاد هذه الآية باطناً، فهي تُشير إلى الروح والعقل والقلب، ويُقابلها الطبع والهوى والشهوة، فإذا بغى الطبعُ والهوى والشهوة على القلب والعقل والروح فعلى العبد أنْ يقاتل بسيوف المراقبة، وسهام المطالعة، وأنوار الموافقة حتى تكون الغلبةُ بذلك للروح والعقل على الهوى والشهوة.

 

النموذج الثامن: قوله تعالى: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(8)

 

الآيةُ بصدد الإخبار عمَّا أجاب الله تعالى به نبيَّه إبراهيم (ع) حين طلب منه أن يُريَه كيف يُحيي الموتى فقال له خُذ أربعةً من الطير وجزِّئها بعد ذبحِها وضعْ كلَّ جزءٍ منها على جبل، وبعد ذلك ادعهنَّ، وحينذاك سوف يأتينك سعياً إلا أنَّ بعض أصحاب التفسير الإشاري زعم أنَّ الطيور الأربعة في الآية تُشير إلى الأركان الأربعة التي تتركَّب منها أبدان الحيوانات والنباتات وأنَّه ما لم يتمَّ التفريق بينها لا يتمكَّن طيرُ الروح من التحليق والارتقاء إلى هواء الربوبيَّة وصفاء عالم القدس. فأحدُ الطيور وهو الطاووس يُشير إلى حبِّ الزينة والجاه، والطير الثاني وهو النسر يُشير إلى النهَم والشغف بالأكل، والثالث من الطيور وهو الديك يُشيرُ إلى الولَع بشهوة الفرج، والطيرُ الرابع وهو الغراب يُشير إلى الحرص الشديد على الجمع والطلب، فالآية -بزعمه- تُشير إلى أنَّ الإنسان ما لم يعمل على قتل شهوة النفس والفرج ودحر الحرص وتخلية النفس منه، وما لم ينفِ حبَّ التزيُّن للخلق من نفسه فإنَّ قلبَه لن يجد رَوحاً وراحة من نور جلال الله تعالى.

 

النموذج التاسع: قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾(9) مفاد هذه الفقرة من الآية أنَّ أحداً لا يشفع عند الله تعالى يوم القيامة إلا بإذن الله تعالى لكنَّ بعضَ أصحاب التفسير الإشاري تعسَّفَ وزعم أنَّ هذه الفقرة من الآية تُشير إلى هذا المعنى وهو أنَّ من ذلَّ نفسَه يشفع عند ربِّه، يعني يكون من الشفعاء فكلمة (ذا) تُدمج مع اللام في الذي فتكون (من ذلَّ) و(ذي) إشارة إلى النفس فيكون تركيب الآية (منْ ذلَّ ذي يشفع) يعني من أذلَّ نفسَه يكون من الشفعاء. 

 

النموذج العاشر: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(10)

 

زعم بعضُ أصحاب التفسير الإشاري أنَّ اللام في قوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ ليست حرفاً داخلاً على كلمة (مَع) المفيدة للمعيَّة بل إنَّ ﴿لَمَعَ﴾ فعلٌ ماضٍ من اللَّمَعان والبريق، ومعنى الآية أنَّ الله يلمعُ وينوِّر المحسنين، فتكون كلمة المحسنين مفعول به للفعل الماضي لَمَعَ.

 

التفسير الإشاري ليس تفسيراً بل هو خواطر:

وتعليقاً على هذا النحو من التفسير أقول إنَّ بعض المعاني المدَّعى استنباطُها من طريق التفسير الإشاري وإنْ كانت صحيحةً في نفسِها إلا أنَّ ذلك لا يُصحِّح عدُّها تفسيراً وبياناً لمراد هذه الآية أو تلك، وذلك -كما يعترفُ أصحابُ هذا التفسير- لأنَّ هذه المعاني لا يقتضيها ظاهرُ الآية، فهي على خلاف مدلولها اللُّغوي والسياقي، فأصحابُ هذا النحو من التفسير يُقرُّونَ بأنَّ المعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري مستندةٌ إلى إشارات خفية، وليست مستندةً إلى ما يقتضيه الوضع والاستعمال اللُّغوي لألفاظ الآيات وتراكيبها وسياقاتها، فهذه المعاني إذن ليست سوى خواطر تنقدح في النفس، فهي أشبهُ شيءٍ بتداعي المعاني لأسبابٍ تتَّصل ببيئة وثقافة صاحب المعاني المتداعية، وتتَّصل بظروفِه وحالاتِه النفسيَّة، فقد يسمعُ الإنسان متكلِّماً يقول: "هذا بيتي ولا أبيعُه بأيِّ ثمن" فيسمعُ هذه الجملةَ السياسي فينقدحُ في نفسه أنَّه لا ينبغي التخلِّي عن الوطن والمساومةُ عليه مع المحتلين أيَّاً كانت المغريات، ويسمعُ الواعظُ هذه الجملة فينقدح في نفسه أنَّ الإسلام هو مسكن المؤمن فعليه عن يدفع عنه بكلِّ ما أوتي من قوَّة، ويسمعُ الجملةً مديرُ المدرسة فينقدحُ في نفسه أنَّ المدرسة بيت العلم والتربية فلا ينبغي التفريط فيها أياً كانت الظروف، ويسمعُ العاشق هذه الجملة فينقدحُ في نفسه أنَّ معشوقته هي بيتُه وموضع استجمامه وأنَّه سوف لن يألو جهداً في وصالها، ويسمع هذه الجملة العارف فينقدح في نفسه أنَّ قلبه هو موضع سكينته ولهذا يتعيَّن عليه تخليته من المزاحمات النافية للسكينة والاطمئنان، فهؤلاء جميعاً سمعوا من المتكلِّم جملةً واحدة إلا أنَّ كلَّ واحدٍ خطر في نفسه معنىً يُناسبُ ثقافته وطبيعة اهتمامه، ولو سألتَ كلَّ واحدٍ منهم عن المعنى الذي خطرَ في نفسه هل هو المعنى الذي قصدَه المتكلِّم لأجاب بالنفي، ولو سألتَ كلَّ واحدٍ منهم عن مقصود المتكلِّم مِن الجملة التي ساقَها لذكر لك المعنى المتناسب مع ظاهر الجملة الذي يقتضيه الوضع والاستعمال اللُّغوي مستنداً في ذلك إلى ما تقتضيه طريقة العقلاء وأهل المحاورة في مقام التفهيم والتفهُّم، وكذلك فإنَّ المتكلِّم لو نُسب إليه إرادة شيءٍ من المعاني التي خطرت في أذهان هؤلاء لنفى أنَّه المعنى المقصود من الجملة التي ساقَها، وعليه كيف يصحُّ عدُّ شيءٍ من هذه المعاني تفسيراً لكلام المتكلِّم؟! إنَّ وصف شيءٍ من هذه المعاني بالتفسير لكلام المتكلِّم يكون من نسبة كلامٍ لأحدٍ دون أنْ يكون قد تكلَّم به وهو من الكذب. وكونُ الكلام صحيحاً في نفسِه لا يُصحِّح نسبته لمن لم يتكلَّم به، ولا تكون صحَّة الكلام في نفسه مخرجةً للنسبة عن حيِّز الكذب.

 

التفسير الإشاري من الكذب على الله:

كذلك هو الشأن في التفسير الإشاري فإنَّه حيث كان على خلاف ظاهر الآية فإنَّه يكون من الإسناد الكاذب لله تعالى، فإنَّ القولَ بأنَّ تفسير هذه الآية هو هذا المعنى الإشاري مؤدَّاه أنَّ الله قال هذا المعنى من هذه الآية، وهو من الكذب على الله تعالى فإنَّ الله لم يقل هذا المعنى في هذه الآية وإنَّما قال معنىً آخر، نعم قد يكون هذا المعنى مقولاً لله في موضعٍ آخر ولكنَّ ذلك لا يُخرج دعوى أنَّ الله قال هذا المعنى في هذه الآية عن حيِّز الكذب، لأنَّ الله لم يقُلْ هذا المعنى في هذه الآية وإنَّما هو معنىً خطرَ في نفس المدَّعي عند سماع الآية.

 

فمثلاً حين يقول المفسِّر الإشاري إنَّ الله تعالى قال في هذه الآية: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ أنَّ من أذلَّ نفسه يكون من الشفعاء فإنَّه يكون كاذباً، لأنَّ الله لم يقل هذا المعنى في هذه الآية، فحتى لو فُرض صحَّة هذا المعنى في نفسِه فإنَّه لا يَخرج عن حيِّز الكذب على الله حيث نسبَ إليه أنَّه قال هذا المعنى في هذه الآية.

 

وكذلك حين يقول المفسِّر الإشاري إنَّ الله قال في هذه الآية: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ إنَّ القلب الطاغي المتمرِّد على رسول المعارف العليا تكون عاقبتُه وبالاً، فإنَّ هذه الدعوى من الكذب على الله حتى لو فُرض أنَّ هذا المعنى المزعوم صحيحٌ في نفسه فإنَّ الله لم يقُل هذا المعنى في هذه الآية.

 

دعوى أنَّ التفسير الإشاري إشارات، وجوابها:

ولو قيل إنَّ المعاني المستنبَطة من طريق التفسير الإشاري ليست تفسيراً وبيانا للآيات وإنَّما هي إشارات فجوابه إنَّ ذلك خلافُ ما تبانى عليه أصحاب التفسير الإشاري، فهم يصفونه بالتفسير، وقد صنَّفوا كتباً تصدَّوا فيها لتفسير آيةٍ آيةٍ وعنونوا هذه المصنَّفات بالتفسير أو بما هو قريبٌ من هذا العنوان، فمِن ذلك تفسير القرآن العظيم للتستري "ت 283هـ"، وحقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السُّلمي "ت 412هـ"، وعرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد البقلي الشيرازي "ت 606هـ"، وتفسير القرآن الكريم لمحيي الدين بن عربي "ت 638هـ"، ورموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز لعزِّ الدين الرسعني "ت 661 هـ"، والبحر المديد في تفسير القرآن المجيد لأحمد بن عجيبة "ت 1224هـ"، وروح البيان في تفسير القرآن لإسماعيل حقي البروسوي "ت 1127هـ" وغيرها.

 

ثم إنَّه مع البناء على أنَّها ليست تفسيراً وإنَّما هي إشارات فإنَّ ذلك لا يصحُّ أيضاً فإنَّ أصحاب هذا المسلك يدَّعون أنَّ الآية تُشير إلى هذا المعنى، وهي من الدعوى بغير علم، إذ كيف لهم أنْ يدَّعوا أن هذه الآية مثلاً تُشير إلى هذا المعنى والحال أنَّهم يعترفون أنَّ الآية خالية من الدلالة اللفظية والسياقيَّة على هذا المعنى المزعوم، غايتُه أنَّ هذا المعنى خطَر في الذهن عند سماع أو قراءة هذه الآية، وهذا لا يُصحِّح ولا يُسيغ إسناد هذه الخاطرة إلى الآية والقول إنَّ الآية تُشير إلى هذه الخاطرة وأنَّ الله أراد من الآية إخطار هذا المعنى وهذه الخاطرة، نعم يصحُّ لأصحاب هذا المسلك أنْ يقولوا خطر في ذهني هذا المعنى عند سماع هذه الآية لكنَّهم لا يفعلون ذلك بل يدَّعون أنَّ هذا المعنى الذي خطَر في ذهنهم هو مرادُ الله تعالى من هذه الآية أو هو أحد مُراداته منها بل يزعمون أنَّ هذه هي حقائق القرآن التي لا يُدركها إلا ذوو البصائر وأرباب القلوب.

 

دعوى أنَّ مستند هذا التفسير هو الإلهام، وجوابها:

قد تقول إنَّ التفسير الإشاري وإنْ لم يكن عليه دليلٌ من ألفاظ الآيات وسياقاتها ولكنَّه مستفادٌ بواسطة الإلهام الإلهي والمكاشفة، فهي فتوحات ربانية تُفاض على قلبِ أرباب السلوك.

 

والجواب عن ذلك إنَّه لا طريق إلى التثبُّت من هذه الدعوى فمِن أين لنا إحراز أنَّ ما اعتقد تحصيله بواسطة الإلهام أنَّه إلهامٌ واقعاً ولم يكن وهماً أو خاطرة شيطانيَّة أو سانحة نشأت عن طبيعة التربية والثقافة، فلو كان البناء هو القبول بدعوى من يدَّعي أنَّ هذا هو مراد الآية لمجرَّد أنَّه زعم تلقِّي ذلك بالإلهام لكان علينا القبول بدعوى كلِّ من يدَّعي معنىً لآية لأنَّ له أن يزعم أنَّه تلقاه بالإلهام، وبذلك ينفتح الباب على مصراعيه لعبث العابثين بآيات الله جلَّ وعلا، فكلُّ أحد يستطيع أنْ يقول إنَّ هو مراد الله من هذه الآية أو تلك، وإذا قلتَ له إنَّ ألفاظ الآية لا يدلُّ على ذلك فإنَّ له أن يقول إنَّني قد تلقيتُ ذلك بالإلهام.

 

 إنَّ الإلهام تجربةٌ شخصيَّة لا طريق للتثبُّت من وقوعِها أو صحَّتها -لو وقعت- ولذلك فليحتفِظ كلُّ أحدٍ بالمعنى الذي اعتقدَ أنَّه تلقَّاه بالإلهام لنفسِه. ويظلُّ تفسيرُ القرآن جارياً وفق القواعد والضوابط المعتمدَة لدى العقلاء في مقام التفهيم والتفهم للخطابات وكلام المتكلِّمين وأهلِ المحاورة.

 

وأمَّا أنَّ للقرآن بطوناً ومعاني خفية وراء دلالات الألفاظ فهذا صحيحٌ ولكنَّها نظراً لكونها بطوناً ومعانيَ خفية لذلك فإنَّه لا سبيل إلى الوقوف عليها إلا من طريق الرسول الكريم (ص) فهو الذي وصفه اللهُ تعالى بأنَّه المعلِّم لمعاني ومقاصد القرآن كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(11) فمعاني القرآن ومقاصدُه التي لا يُمكن الوصول إليها من طريق الألفاظ لا يصحُّ أخذها إلا عن الرسول الكريم (ص) وأهلِ بيته (ع) الذين ورثوا علمَ الكتاب عن الرسول الكريم (ص).

 

المسلك الثاني لهذا التفسير ينتهي إلى نفي الشريعة:

هذا بعضُ ما يُمكن إيرادُه على التفسير الإشاري الذي يتبنَّاه كلٌّ من الصنف الأول والصنف الثاني، وأما ما يُمكن إيراده على التفسير الإشاري الذي يتبنَّاه الصنفُ الثاني القائلون بأنَّ المراد محضاً من آيات القرآن هو المعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري، وأمَّا ظواهر آيات القرآن فهي ليست مرادةً لله تعالى، فحقيقة معاني القرآن والتي لا حقيقة سواها -بزعمهم- تختصُّ بالمعاني المستنبَطة بالتفسير الإشاري والمُدركة لذوي الأسرار وأرباب السلوك من طريق الإلهام والمكاشفات. فهذا المسلك الذي يتبنَّاه الصنفُ الثاني ينتهي في المآل إلى نفي الشريعة، فإذا كان البناءُ -مثلاً- هو تفسير الأمر بالصلاة في القرآنَّ بأنَّه -محضاً- أمرٌ بالخضوع لجلال الله وسجود القلب في محضر الله تعالى، وكان المرادُ من الزكاة هو تزكيةُ النفس عن الرذائل الباطنيَّة أو هو بذل المعارف اللدنيَّة للسالكين، وكان المرادُ من الصوم المأمور به في القرآن هو الإمساك عن خبائث الصفات أو هو كفُّ النفس عن الرذائل النفسانيَّة كالحسد والضغينة والغضب والمكر والنفاق، وكان المرادُ حجِّ بيت الله الحرام المأمور به في القرآن هو القصدُ إلى بيت المعبود وهو القلب، والسعيُ لتطهيره من الأغيار، والطواف حول ساحة القدس الرباني استعداداً لتلقِّي فيضه، وذبح النفس على مذبح المعشوق، ورجمُ شهواتِ النفس والدحرُ لحجاب الهوى، لو كان المراد من الأمر بالحج هو ذلك، وكان المرادُ من الجهاد المأمور به في القرآن هو مجاهدة النفس بمختلف الرياضات وكبحُ جماحها وتصفيتُها من جنود الجهل والجحود، وكان المرادُ من الخمر المنهيِّ عنه في القرآن هو السكر بالغفلة والاحتجاب عن المواصلات والذهول والغيبة عن شواهد الوجود، وكان المرادُ من الميسر والقمار هو الغفلةُ عند الذكر والمغالبة والمنافسة على حُطام الدنيا وهكذا.

 

فإنَّه لو كان البناءُ هو تفسير الآيات -وكذلك السنَّة الشريفة كما زعموا- بهذا النحو من التفسير، وكان البناءُ هو أنَّ هذه هي حقائق الدين وهي مراداتُ الكتاب والسنَّة محضاً، ولا شيءَ غيرها مرادٌ للكتاب والسنَّة فإنَّ اللازم البيِّن لهذا المسلك المُضِل هو نفيُ الشريعة وإلغاؤها، وهذه النتيجة هي التي اعتمدتها بعضُ الفرقِ الباطنية التي سلكتْ هذا المسلك، فزعموا أنَّ التكاليف من الواجبات والمحرَّمات التي يعتمدُها أهلُ الظاهر -على حدِّ تعبيرهم- ليست مُلزِمة ولا هي مقصودة من خطابات الكتاب والسنَّة، وزعم بعضُهم أنَّ الفرائض والمحرمات إنَّما هي مُلزمة للعامَّة دون الخواص. نعوذ بالله تعالى من مضلَّات الفتن.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

5 / شوال / 1444ه

26 / ابريل / 2023م

-------------------------------

1- سورة التوبة / 60.

2- سورة الطلاق / 7.

3- سورة البقرة / 114.

4- سورة المزمل / 16

5- سورة التوبة / 123.

6- سورة البقرة / 193.

7- سورة الحجرات / 9.

8- سورة البقرة / 260.

9- سورة البقرة / 255.

10- سورة العنكبوت / 69.

11- سورة آل عمران / 164.