مناقشة الروايات النافية لبنوَّة نوحٍ لنوحٍ (ع)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

 

الأولى: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ قَالَ: "إِنَّمَا فِي لُغَةِ طَي ابْنَهُ -بِنَصْبِ الْأَلْفِ- يَعْنِي ابْنَ امْرَأَتِهِ"(1).

 

الثانية: محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري: بإسناده عن بكر بن محمد قال: سمعتُ أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ أي ابنها، وهي لغة طي"(2).

 

الثالثة: عَنْ مُوسَى، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ سَيَابَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ قَالَ: "لَيْسَ بِابْنِهِ، إِنَّمَا هُوَ ابْنُ امْرَأَتِهِ، وَهِيَ لُغَةُ طَي يَقُولُونَ لاِبْنِ الْمَرْأَةِ ابْنَهُ"(3).

 

الرابعة: عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فِي قَوْلِ نُوحٍ: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا﴾ قَالَ: "لَيْسَ بِابْنِهِ. قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ نُوحاً قَالَ: يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: "فَإِنَّ نُوحاً قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ"(4).

 

البعض يستدلُّ بهذه الروايات على أنَّ ابن نوح (ع) ليس ابنه وإنَّما هو ابن زنا، فما تعليقكم؟

 

الجواب:

جواب ما استُدلَّ به أنَّ ابن نوح لم يكن شرعياً:

ليس في الروايات الثلاث الأولى دلالةٌ على أنَّ ابن نوح ابنُ زنا، نعم هي ظاهرةٌ في أنَّه ليس ابنَ نوح (ع) وإنَّما هو ابنُ امرأته، وكان نوحٌ يُسمِّيه ابنه لأنَّه ابنُ امرأته -كما هي لغة قبيلة طي بحسب الروايات الثلاث- ومن الواضح أنَّ كون الولد ابنَ امرأة نوحٍ لا يعني أنَّه ابنُ زنا فقد يكون ابنها من زوجٍ آخر قبل أنْ تتزوج بنوحٍ (ع).

 

وأمَّا الرواية الرابعة وهي رواية زرارة عن أبي جعفرٍ (ع) فهي وإنْ كان لها ظهور في أنَّ ابن نوح لم يكن شرعياً، إذ أنَّ مفادها هو أنَّ نوحاً (ع) كان يُسمِّيه ابنه لتوهُّمه أنَّه ابنه واقعاً والحال أنَّه لم يكن ابنه فيتعيَّن من هذا المفاد أنَّه ابن زنا، إذ لو كان ابن امرأته من زوجٍ آخر لكان نوح (ع) -بطبيعة الحال- يعلمُ بذلك في حين أنَّ مفاد الرواية هو أنَّ نوحاً لم يكن يعلم بذلك وكان يعتقد أنَّه ابنه، فالروايةُ من حيث المتن ظاهرةٌ في أنَّ ابن نوح كان ابن زنا- والعياذ بالله- لكنَّها ساقطة عن الاعتبار لضعف سندها بالإرسال، ولا يصحُّ الاستناد والاحتجاج بروايةٍ مرسلة خصوصاً في مثل هذا الشأن الخطير.

 

على أنَّها منافية لظاهر القرآن المجيد والذي نسَب ولد نوحٍ إلى نوح (ع) وسمَّاه ابنَه قال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾(5) فنسبةُ ابن نوح إلى نوح (ع) جاءت في هذه الآية على لسان القرآن وليس على لسان نوح (ع) فهي ظاهرة في أنَّه ابنُه واقعاً، ولا يصحُّ رفع اليد عن هذا الظهور استناداً إلى روايةٍ فاقدةٍ في نفسِها للحجيَّة والاعتبار. هذا مضافاً إلى تسالم فقهاء الإماميَّة(6) على نزاهة زوجات الأنبياء عن الزنا فيكون ذلك موهنا آخر إلى رواية زرارة يضاف إلى وهن سندها ومخالفتها لظاهر القرآن المجيد. فالصحيح أنَّه ليس في شيءٍ من الروايات ما يُمكن الاستناد إليه لإثبات دعوى أنَّ ابن نوح ليس شرعياً.

 

الروايات النافية للبنوَّة معارَضة بالروايات المثبِتة:

وأمَّا ما اشتملت عليه الروايات الثلاث الأولى من نفي بنوَّة ابن نوح إلى نوح (ع) وأنَّه ابن امرأته، فهذه الروايات وإن كانت مشتملة على ما هو معتبرٌ سنداً -وهي رواية الْعَلاَءِ بْنِ سَيَابَةَ الواردة في تفسير القميِّ- إلا أنَّها مُعارَضة في موردها بما يدلُّ على خلافها، فهي معارَضة بمثل معتبرة ياسر الخادم عن الرضا(ع) قال ياسر: إنَّه خرج زيد بن موسى أخو أبي الحسن (عليه السلام) بالمدينة، وأحرق وقتل وكان يُسمَّى زيد النار، فبعث إليه المأمون فأُسر وحُمل إلى المأمون فقال المأمون: اذهبوا به إلى أبي الحسن -الرضا (ع)- قال ياسر: فلمَّا أُدخل إليه، قال له أبو الحسن (عليه السلام): يا زيد أغرَّك قولُ سفَلة أهل الكوفة أنَّ فاطمة (عليها السلام) أحصنت فرجها فحرَّم اللهُ ذريَّتها على النار ذلك للحسنِ والحسينِ خاصَّة، إنْ كنتَ ترى إنَّك تعصي الله عزَّ وجلَّ وتدخلُ الجنَّة وموسى بنُ جعفر (عليه السلام) أطاع الله ودخلَ الجنة فأنت إذاً أكرمُ على الله عزَّ وجلَّ من موسى بنِ جعفر (عليه السلام)، والله ما ينالُ أحدٌ ما عند الله عزَّ وجل إلا بطاعتِه، وزعمتَ أنَّك تنالُه بمعصيتِه فبئس ما زعمت ! فقال له زيد: أنا أخوك وابنُ أبيك فقال له أبو الحسن (عليه السلام): أنت أخي ما أطعتَ اللهَ عزَّ وجلَّ، إنَّ نوحاً (عليه السلام) قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ فأخرجه الله عزَّ وجلَّ من أنْ يكونَ من أهله بمعصيتِه"(7).

 

فالواضح من المعتبرة أنَّ الإمام الرضا (ع) كان بصدد تحذير أخيه زيد بن موسى بن جعفر من أنْ يكون كابن نوح والذي أخرجه اللهُ من أهل نوح بمعصيته فهو (ع) يُحذِّر زيداً -والذي هو ابن موسى بن جعفر واقعاً- من أنْ يُخرجه الله تعالى من أهل موسى بن جعفر (ع) بمعصيته كما أخرج ابن نوحٍ من أهل نوحٍ بمعصيته، فالرواية صريحة في أنَّ ابن نوح كان ابناً له واقعاً ولكنَّ الله تعالى أخرجه من أهل نوح (ع) بسبب معصيته.

 

وكذلك روى الطبرسي في تفسير مجمع البيان عن علي بن مهزيار عن الحسن بن علي الوشَّا عن الرضا (عليه السلام) قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): إنَّ الله تعالى قال لنوح: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ لأنَّه كان مخالفاً له .."(8).

 

فمفاد الرواية أنَّ منشأ إخراج ابن نوح من أهل نوحٍ (ع) هو مخالفته لنوح (ع) فهي تدلُّ على أنَّ ابن نوح ابنٌ له واقعاً وأنَّ إخراجه من أهل نوحٍ (ع) نشأ عن مخالفته لأبيه، إذ لامعنى لتعليل الإخراج بالمخالفة لو لم يكن ابنه اساساً.

 

وروى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار عن الحسن بن موسى الوشاء البغدادي، قال: كنتُ بخراسان مع عليِّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) .. قال الحسن الوشاء: ثم التفتَ إليَّ فقال: يا حسن كيف تقرؤون هذه الآية: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ فقلتُ: من الناس مَن يقرء "إنَّه عمِلَ غيرَ صالحٍ" ومنهم مَن يقرء ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ فمن قرء: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ نفاه عن أبيه. فقال (عليه السلام): كلا لقد كان ابنَه ولكنْ لمَّا عصى الله عزَّ وجل نفاهُ اللهُ عن أبيه، كذا مَن كان منَّا لم يُطع اللهَ عزَّ وجل فليس منَّا، وأنتَ إذا أطعتَ اللهَ فأنت منَّا أهل البيت"(9).

 

فهذه الرواية صريحةٌ في ثبوت بنوَّة ابن نوح لنوحٍ واقعاً وكذلك ثمة غيرها.

 

فهذه الروايات المشتملةُ على ما هو معتبرٌ سنداً -كمعتبرة ياسر الخادم- معارِضة لمثل رواية العلاء بن سيَّابة، ومن الواضح أنَّه مع تعارض الروايتين -أو قل الطائفتين من الروايات- يكون الترجيحُ بجانب الروايات الموافقة لظاهر القرآن المجيد وتسقطُ الأخرى عن الاعتبار، وحيثُ إنَّ الروايات الموافقة لظاهر القرآن المجيد هي مثل معتبرة ياسر الخادم المقتضية لثبوت بنوَّة ابن نوح له واقعاً لذلك تكون الرواية الساقطة عن الاعتبار هي رواية العلاء بن سيابة، ولو قيل بسقوطهما معاً عن الحجيَّة للتعارض، فالمرجعُ بعد سقوطهما عن الحجيَّة هو الرجوع لظاهر الكتاب المجيد المقتضي لكون ابن نوح ابنٌ له واقعاً.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

11 / ذو القعدة / 1444ه

31 / مايو / 2023م

--------------------------------

1- تفسير العياشي -محمد بن مسعود العياشي- ج2 / ص148.

2- قرب الاسناد -الحميري- ص41.

3- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج1 / ص328، تفسير العياشي -محمد بن مسعود العياشي- ج2 / ص148.

4- تفسير العياشي -محمد بن مسعود العياشي- ج2 / ص149.

5- سورة هود / 42.

6- لاحظ: التبيان في تفسير القرآن -الشيخ أبو جعفر الطوسي- ج10 / ص52. جوامع الجامع -الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي- ج3 / ص597، تفسير مجمع البيان -الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي- ج 10 / ص64، أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد -السيِّد الشريف المرتضى- ج2 / ص145، تنزيه الأنبياء -السيِّد الشريف المرتضى- ص36، زبدة التفاسير -فتح الله الكاشاني- ج7 / ص118، التفسير الأصفى -الفيض الكاشاني- ج2 / ص 1325 وغيرها.

7- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص260.

8- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج5 / ص285.

9- معاني الأخبار -الصدوق- ص106.