الاستعاذة من الحاسد إذا حسد وليس مطلقاً؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾(1) لماذا كانت الاستعاذة من الحاسد إذا حسد وليست من الحاسد مطلقاً أو من الحسد؟
الجواب:
الحسدُ من أفعال القلب، فهو يعني الشعور بالحزن والضيق لرؤية النعمة لدى الغير، وقد يستحكمُ الحسد في النفس فيتمنَّى واجدُه زوالَ النعمة عن الغير، فهو من أمراض القلب وليس له في حدِّ نفسه تأثيرٌ على المحسود، فلا يتضرَّر المحسود من حزن الحاسد وغيظه وضيق نفسه كما لا أثر لتمنِّيه زوال النعمة عن المحسود، بل إنَّ المتضرِّر من الحسد هو الحاسدُ نفسه لابتلائه بالحزن والغمِّ وشعوره الدائم بالغيظ والسخط، وهذه المشاعر مؤذيةٌ بطبيعتها للنفس، لذلك ورد عن الإمام الصادق (ع) أنَّه قال: الحاسد مُضرٌّ بنفسِه قبل أنْ يَضرَّ بالمحسود"(2) وورد عنه(ع) أنَّه قال: "لا راحةَ لحسود"(3) وورد عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: "ما رأيتُ ظالماً أشبه بمظلومٍ من الحاسد، نَفَسٌ دائم، وقلبٌ هائم، وحُزنٌ لازم"(4).
ومن ذلك يتَّضح أنَّ شعور الحاسد بالحسد لا شرَّ فيه على المحسود ليُستعاذ منه، نعم يترتبُ ضررٌ على المحسود إذا انساق الحاسدُ وراء شعوره بالحسد فقام ببعض الأفعال المضرَّة والمؤذية للمحسود كأنْ اغتابه أو افترى عليه أو أهانَه أو بخسه حقَّه أو ظلمه أو أعان على ظلمه، فالحسدُ في حدِّ نفسِه لا شرَّ فيه على المحسود، وإنَّما يأتي الشرُّ من الحاسد إذا رتَّب الأثر على شعورِه بالحسد.
ولعلَّه لذلك كانت الاستعاذةُ من شرِّ الحاسد إذا حسد يعني إذا رتَّب الأثر على حسده فقام ببعض الأفعال المضرَّة بالمحسود. فقد يكون الحاسد متديِّناً أو عاقلاً فيشعر بالضيق والحسد من المحسود ولكنَّ شعوره بالحسد لا ينعكسُ على أفعاله، وفي هذا الفرض لا يكون ثمة ضررٌ وشرٌّ ليُستعاذ منه، فالاستعاذة تكون من الحاسد الذي يدفعه الحسدُ إلى الإضرار بالمحسود فذلك هو الظاهر من قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ يعني أستعيذُ بالله من الشرور التي يُحدثها الحاسد انسياقاً مع شعوره بالحسد.
والغالب في الحاسد الذي يكون مصدراً للشرور على المحسود هو الحاسد الذي بلغَ به الشعور بالحسد مرتبةً عالية تتجاوزُ مستوى الغيظ من المحسود، وتتجاوزُ مرتبة التمنِّي القلبي بزوال النعمةِ عن المحسود، فقد يتجاوزُ الشعورُ بالحسد هذه المرتبة ويتأكَّد استحكامُه في النفس إلى حدٍّ يدفعُه إلى الإضرار بالمحسود.
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الآية تأمر بالاستعاذة من شرور الحاسد إذا رتَّب على شعوره بالحسد العمل على الإضرار بالمحسود، وفيما عدا هذا الفرض لا يكون للحاسد ولا لحسدِه ضررٌ يعودُ على المحسود، ولذلك لم تأمر الآية بالاستعاذة من الحاسد نفسِه ولا من حسدِه.
وأمَّا لماذا لم تأمر الآية بالاستعاذة من الحسد نفسه فجوابه أنَّ الآية لو قالت قل أعوذ من شرِّ الحسد لكان مدلولها الاستعاذة من الابتلاء بداء الحسد يعني يكون مدلولها هو تعوُّذ الإنسان نفسه من أنْ يبتلي بداء الحسد، وهذا المعنى ليس هو ما تريد الآية بيانه في المقام، وإنَّما تريد الإشارة أنَّ المبتلى بالحسد قد يعمل على الإضرار بالمحسود فعلى المحسود أنْ يستعيذ بالله تعالى من ضرر الحاسد وشروره .
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
13 / شهر رمضان / 1445ه
24 / مارس / 2024م
1- سورة الفلق / 5.
2- كشف الريبة عن أحكام الغيبة -الشهيد الثاني- ص53.
3- الخصال -الصدوق- ص169.
4- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص216.