معنى قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾(1) ما هي هذه المفاتح التي عنتها الآية المباركة؟

 

الجواب:

مفاتح الغيب خزائنه:

المشهور ظاهراً بين المفسِّرين أنَّ المراد من مَفَاتِح الْغَيْبِ هي خزائن الغيب، وعليه تكون مفاتح جمع مَفتح بفتح الميم فهو الذي يُستعمل بمعنى الخزينة أو المخزن، وقد استعمل القرآن -ظاهرا- كلمة المفاتح بمعنى الخزائن في قوله تعالى:{وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾(2) فإنَّ الذي تنوء العصبة من الرجال بحمله لثقله هي الخزائن وصناديق الكنوز وليست المفاتيح التي تُفتح بها الأقفال.

 

وثمة مَن احتمل أو تبنَّى أنَّ المراد من مفاتِح الغيب هي الأدوات التي يتوصَّل بها إلى العلم بالمغيبات فتكون مفاتح -بناءً على ذلك- جمع مِفتح بكسر الميم والذي هو من أسماء الآلة والتي تُجمع على مفاتِح ومفاتيح، وأيَّدوا ذلك بقراءة غير معروفة جاء فيها "وعنده مفاتيح الغيب".

 

المؤيدات لكون المفاتح هي الخزائن:

وأيَّد السيِّد الطباطبائي رحمه الله في الميزان(3) إرادة الخزائن من المفاتح في الآية بأنَّ ثمة مواضع عديدة من القرآن المجيد استُعمل فيها كلمة الخزائن فيما يُشبه مفاد الآية، ولم تُستعمل كلمة المفاتح في غير هذه الآية المباركة، فمِن تلك المواضع قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾(6) وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(7).

 

ولعلَّ ممَّا يؤيِّد إرادة الخزائن من كلمة المفاتح في الآية قوله تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ فإنَّ الظاهر هو عَود الضمير في "يَعْلَمُهَا" على المفاتح، وعليه يكون متعلَّق العلم هو المفاتح، والمناسب لكون المفاتح متعلَّق العلم هو تفسيرها بخزائن الغيب، فهي التي توصف بالمعلومة، وأمَّا المفاتح -بمعنى آلة الفتح- فالعلم بها ليس كالعلم بالخزائن، بل إنَّ في البين ملازمة بين بالعلم بما في الخزائن والعلم بمفاتيحها، وأما العلم بالمفاتيح بمعنى الآلات فإنَّه لا يلازم العلم بالخزائن، وحيث إنَّ الآية بصدد بيان استيعاب علم الله جلَّ وعلا للغيب فالمناسب أن يكون المراد من المفاتح هو الخزائن.

 

وكذلك يُمكن تأييد إرادة الخزائن من المفاتح بما ورد في سياق الآية وهو قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(8) فإنَّ ظاهر ذلك هو المقابلة فهو يعلم بما في خزائن الغيب وهي المغيبات، ويعلم بما في عالم الشهادة وهو ما في البر والبحر، فمفاد الآية أنَّ علمه جلَّ وعلا مستوعِب للغيب والشهادة أي ما في عالم الغيب وما في عالم الشهادة. فيكون مساق الآية هو مساق مثل قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾(9).

 

المفاتح بناء على كونها الأدوات:

وعلى أيِّ تقدير فإنَّ احتمال إرادة المفاتيح -بمعنى الأداة- من كلمة المفاتح يظلُّ قائماً ويكون مفاد الآية -بناءً عليه- أنًّه لا يملك أحدٌ الأدوات التي يُتوصَّل بها إلى العلم بالغيب إلا الله جلَّ وعلا، فهو تعالى وحده الذي يملك وسائل الفتح لمغاليق الغيب، فلا سبيل للوصول إلى الغيب إلا بتمكينه جلَّ وعلا. وبهذا يكون في الآية استعارة مكنيَّة فهو قد شبَّه الغيب بالخزينة المقفلة لكنَّه لم يصرِّح بالمشبَّه به وهو الخزينة المقفلة وإنَّما جاء بشيءٍ من لوازمها وهو المفتاح.

 

دعوى أنَّ مفاتح الغيب هي المغيَّبات الخمسة:

هذا وقد ذكر بعض المفسِّرين أنَّ مفاتِح الغيب هي المغيَّبات الخمسة المذكورة في قوله تعالى من سورة لقمان: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(10).

 

ولو تمَّ ذلك فإنَّ مقتضاه أنَّ المراد من مفاتح الغيب هي خزائن الغيب لأنَّ الشؤون الخمسة المذكورة في الآية المباركة من سنخ المغيَّبات وليست من سنخ الوسائل والأدوات فهي من خزائن الغيب أي مخزوناته ومكنوناته وليست من أدواته، على أنَّه لو تمَّ هذا التفسير فينبغي عدُّه من مصاديق خزائن الغيب وليس هو كل ما في خزائن الغيب، ولعلَّ منشأ عدِّها مفاتح أو قل خزائن الغيب هو استظهار اختصاص الله جلَّ وعلا بها وأنَّه لم يُطلع أحداً عليها من ملائكته ورسله وأصفيائه إلا أنَّ ذلك غير ظاهرٍ من الآية المباركة أعني قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ فإنَّ المستظهَر من الآية المباركة هو أنَّ العلم الذاتي بالغيب والإحاطة الكاملة به مختصٌّ بالله جلَّ وعلا إلا أنَّ ذلك لا ينفي أنْ يعلم أحدٌ بشيءٍ من الغيب بتعليم الله جلَّ وعلا كما تُؤكِّد ذلك العديدُ من الآيات كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا / إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾(11) وقوله تعالى: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(12) وقوله تعالى:﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾(13) وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾(14).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

16 / شهر رمضان / 1445ه

27 / مارس / 2024م

-----------------------

1- سورة الأنعام / 59.

2- سورة القصص / 76.

3- الميزان في تفسير القرآن -السيد الطباطبائي- ج7 / ص124.

4- سورة الحجر / 21. 

5- سورة الأنعام / 50.

6- سورة ص / 9.

7- سورة المنافقون / 7.

8- سورة الأنعام / 59.

9- سورة الرعد / 9.

10- سورة لقمان / 34.

11- سورة الجن / 26-27.

12- سورة آل عمران / 49.

13- سورة آل عمران / 44.

14- سورة الفتح / 27.