﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ لا ينفي الأمر بالاقتداء بالأنبياء

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾(1) في هذا الآية ينهى الله تعالى نبيَّه (ص) عن أن يكون كصاحب الحوت وهو يونس(ع) والحال أنَّه أمر بالاقتداء به في سورة الأنعام عند قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾(2) فيونس كان ضمن من نصَّت الآيات من سورة الأنعام على اسمه ثم أمرت النبيَّ (ص) بالاقتداء بهم . فكيف نعالج هذا الإشكال؟

 

الجواب:

نعم قد نصَّت الآيات من سورة الأنعام على اسم نبيِّ الله يونس (ع) ضمن الأنبياء الذي أمرت النبيَّ الكريم (ص) بالاقتداء بهداهم، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ / وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ / وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(3) إلى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾(4).

 

الآية أمرت بالاقتداء بهدى الأنبياء:

فالآية قد أمرت النبيَّ الكريم (ص) بالاقتداء بهدى الأنبياء والذي هو هدى الله تعالى كما صرَّحت بذلك الآية نفسُها حيث قالت: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ وكذلك صرَّحت الآيات التي سبقت هذه الآية قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ / ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(5).

 

فالمأمورُ به النبي (ص) هو الاقتداء بهدى الأنبياء المذكورين والمشار إليهم، والهدى الذي كان عليه الأنبياء هو هدى الله تعالى كما صرَّحت بذلك الآيةُ نفسها والآيات التي سبقتها، وإنَّما نُسب الهدى بعد ذلك للأنبياء(ع) لغرض التشريف، وإلا فالمقصود من الهدى المضاف إليهم هو الهداية الإلهيَّة .

 

فمعنى قوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ هو الأمر بالاقتداء بالهداية الإلهيَّة، على أنَّ الذي لا ريب فيه أنَّ الهداية التي كان عليها الأنبياء(ع) هي الهداية الإلهيَّة ولذلك فكلُّ أحدٌ فهو مأمورٌ بالاقتداء والاهتداء بها.

 

ثم إنَّ الآيات أفادت أنَّ الله تعالى قد هدى الأنبياء(ع) إلى صراط مستقيم، قال تعالى: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وعليه فمفاد قوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ هو أنَّ المأمور به هو الاقتداء بالصراط المستقيم الذي كان عليه الأنبياء (ع) وهو التوحيد الخالص والإسلام لله سبحانه والعبوديَّة لله تعالى، والاعتصام به جلَّ وعلا كما صرَّحت بذلك العديد من الآيات كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(6) وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ / وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾(8) وقوله تعالى: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾(10) وقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(11).

 

الهدى الذي أُمر النبيُّ (ص) بالاقتداء به:

فهدى الأنبياء (ع) الذي أُمر النبيُّ (ص) بالاقتداء به هو التوحيد الخالص والإسلام لله تعالى والعبوديَّة له والاعتصام به وهذا ما كان عليه جميع الأنبياء بمن فيهم نبيُّ الله يونس (ع) . وكذلك أُمر النبيُّ الكريم (ص) بأنْ يقتديَ بالأنبياء (ع) فيما كانوا قد تصدَّوا له من هداية الناس إلى ما أمر الله به من فعل الخيرات كما وصفهم القرآن في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾(12) وكان يونس (ع) ضمن هؤلاء الأنبياء الذين يهدون بأمر الله تعالى. فلم يكن يشطُّ فيما كان يُرشد إليه عن هديِ الله ووحيه.

 

متعلَّق الأمر في الأنعام مغاير لمتعلق النهي في القلم:

وأمَّا قوله تعالى مخاطباً نبيَّه (ص): ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ فهو نهيٌّ لنبيِّه (ص) عن أن يستعجل العقاب على قومِه أو هو نهيٌّ له عن فعل ما يُشبه فعل يونس (ع) من ترك قومه قبل يأمره الله تع الى بتركِهم، فليس بين هذه الآية والآيات السابقة أيُّ تنافٍ، فالآيات السابقة من سورة الأنعام تأمر النبيَّ الكريم (ص) بالاقتداء بالهدى الذى كان عليه الأنبياء(ع) من الدعوة للتوحيد والعبوديَّة لله تعالى وهذا الشأن كان عليه يونس (ع) كما كان عليه سائر الأنبياء لذلك صحَّ الأمر بالاقتداء بهداهم بمن فيهم يونس (ع)، وأما النهي في سورة القلم فمتعلَّقه ما كان قد فعله يونس(ع) من استعجال العذاب على قومه أو من خروجه عنهم قبل الأمر، فمتعلَّق الأمر في سورة الأنعام غير متعلَّق النهي في سورة القلم، فالأمر كان بالاقتداء بهدى الأنبياء ويونس كان من أهل الهدى دون ريب وكان ما يهدي إليه هو ذاته الذي كان يهدي إليه سائر الأنبياء، وأمَّا النهي فكان عن فعلٍ خالف فيه يونس (ع) الأولى ولا ربط له بما كان يهدي إليه قومه. فالمأمور به مغاير للمنهيِّ عنه .

 

الآيات لم تأمر باستنساخ مواقف الأنبياء:

فالآياتُ من سورة الأنعام حين أمرت بالاقتداء بهدى الأنبياء(ع) لم تأمر باستنساخ مواقفهم فهي لم تأمر مثلاً بالدعوة على قومه كما فعل نوح (ع) ولم تأمره (ص) بأنْ يُجادل في أمرٍ قد قدَّره الله تعالى كما فعل إبراهيم (ع) كما قال تعالى: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾(13) ولم تأمره (ص) بقول ما قاله لوط (ع): ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾(14) ولم تأمره (ص) بتمثل الحال الذي صار إليه يعقوب (ع) والذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾(15) ولم تأمره (ص) بأنْ يفعل كما فعل موسى (ع) حين غضب وألقى الألواح قال تعالى: ﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾(16) ولم تأمره بما قضى به داود حين بادر إلى القول: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾(17) فهي لم تأمره بذلك، فإنَّ لكلِّ نبيٍّ ظرفَه وإنَّما أمرته بالاقتداء بهداهم الذي كانوا عليه وأمرته بالاقتداء بما كانوا يهدون إليه من الدعوة إلى صراط الله المستقيم، فمساق الآيات من سورة الأنعام هو مساق ما يأمر به الحكماء من الاقتداء بحكام العدل، فإنَّ أمرهم بذلك لا ينفي النهي عن الاقتداء بهم في بعض شؤونِهم الخاصَّة التي لا ربط لها بما هم عليه من العدالة في الحكم .

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

19 / شهر رمضان / 1445ه

30 / مارس / 2024م

---------------------------

1- سورة القلم / 8.

2- سورة الأنعام / 90.

3- سورة الأنعام / 83-86.

4- سورة الأنعام / 90.

5- سورة الأنعام / 87-88.

6- سورة الأنعام / 161.

7- سورة الأنعام / 125-126.

8- سورة مريم / 36.

9- سورة يس / 61.

10- سورة آل عمران / 51.

11- سورة آل عمران / 101.

12- سورة الأنبياء / 73.

13- سورة هود / 74.

14- سورة هود / 80.

15- سورة يوسف / 84.

16- سورة الأعراف / 150.

17- سورة ص / 24.