الإرادة في آية التطهير تكوينيَّة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(1).

 

آية التطهير مذكور في صراط الحق وسنح لى أخيرا اشكال في الاستدلال بها، وهو أنّ الحكم بكون الارادة في قوله تعالى‌: ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ..﴾ ارادة تكوينية لا تشريعية، موقوف على تعلقها بفعل الله، والحال انه غير معلوم فإنَّ المفعول به لقوله‌ ﴿يُرِيدُ﴾ غير مذكور، وقوله ليذهب لا يدل على أنَّ المفعول المراد هو اذهاب الرجس بل المفعول محذوف مقدر، وهذا المفعول ان كان فعلا اختيارياً من افعال اهل البيت لأصبحت الارادة تشريعية.

 

الجواب:

المفعول به للفعل يُريد:

الفاعل للفعل ﴿يُرِيدُ﴾ هو الله تعالى -كما هو واضح- والمفعول به هو إذهاب الرجس، فقوله: ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ فعلٌ مضارع منصوب بأنْ مضمرة بعد اللام والتقدير لأنْ يذهب، وفاعل يُذهب هو الله تعالى، والرجس مفعول به ليُذهب، والمصدر المؤول عن "لأن يذهب" -إذهاب الرجس- في محلِّ نصب مفعول به للفعل يُريد.

 

وتقدير الجملة: يريد اللهُ إذهابَ الرجس عنكم، فالمفعول به للفعل يُريد هو إذهاب الرجس، فهو ما يريده الله تعالى، فهو تعالى يريد أنْ يُذهب الرجس، فإذهاب الرجس عن أهل البيت هو مراد الله تعالى، فدعوى أنَّ المفعول به للفعل يُريد محذوف غريبة. لم أجد أحداً ممن تصدَّى لإعراب الآية قد ذكره أو حتى احتمله.

 

نعم قد يكون مقصوده أنَّ الإذهاب للرجس هل سيتم بفعل الله تعالى محضاً أم سيتم بفعل أهل البيت (ع) ولكن هذا لا ربط له بما هو المفعول به للفعل يريد، فالمفعول به للفعل يُريد هو إذهاب الرجس دون إشكال.

 

وأمَّا أنَّ إذهاب الرجس هل سيتم بفعل الله تعالى محضاً أو بفعل أهل البيت (ع) فهذا من البحث عن فاعل الإذهاب. والواضح من الآية أنَّ الإذهاب من فعل الله تعالى محضاً، إذ أنَّ ذلك هو الأصل في إسناد الفعل لأحد. فالفعل يُذهب في قوله تعالى: ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ مسند لله تعالى، فهو تعالى فاعلُ الإذهاب للرجس.

 

إذهاب الرجس لم يقع مبنياً على فعلٍ اختياري:

نعم يقع البحث عن أنَّ إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم هل هو مبنيٌّ على فعلٍ يصدر عنهم، يعني أنَّ إرادة إذهاب الرجس عن أهل البيت (ع) وتطهيرهم هل هو معلَّقٌ على فعلٍ يصدرُ عنهم أولاً أو ليس معلَّقاً على شيء، فإذا لم يكن معلَّقاً على شيء فذلك يقتضي أنَّ الإرادة للتطهير وإذهاب الرجس تكوينيَّة وليست تشريعيَّة.

 

وحيث إنَّ آية التطهير لم تُعلِّق إرادة إذهاب الرجس والتطهير لأهل البيت على شيء فذلك يقتضي أنَّ الإرادة تكوينيَّة، فآية التطهير -كما هو ثابت بالتواتر- نزلت وحدها وهي خالية عن تعليق التطهير وإذهاب الرجس على فعلٍ يصدر عن أهل البيت، وخالية عن أيِّ تعليق لذلك فمفادُها أنَّ الله تعالى مريدٌ ابتداءً إذهاب الرجس والتطهير لأهل البيت، فالإرادة تكوينيَّة تماماً كما لو قال تعالى أُريد خلق السماوات أو أريدُ خلق الإنسان فهي إرادة تكوينيَّة ليست معلَّقة على فعلٍ اختياري يصدرُ عن أحد، فمفاد الآية هو ذاتُه مفاد قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾(2) فتطهير مريم (ع) لم يُعلَّق في الآية على فعلٍ يصدر عن مريم (ع) لذلك فهو فعلٌ ناجز، وكذلك آية التطهير فإنَّ إرادة الله للتطهير وإذهاب الرجس عن أهل البيت لم يُعلَّق على شيءٍ فالإرادة ناجزة وغير معلَّقة، وهذا بخلاف قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(3) فإنَّ إرادة التطهير جاءت مبنيَّةً على الأمر بالوضوء والتيمم، فإرادة التطهير معلَّقة على أنجاز الوضوء والتيمم.

 

وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾(4) فإنَّ إذهاب رجز الشيطان جاء مبنياً على تطهيرهم بالماء الذي أنزله أو بتعبير أدق جاء مبنياً على الأمر بالتطهُّر بالماء فإذا تطهَّروا بالماء النازل فإنَّه سيُطهِّرهم ويذهب عنهم رجز الشيطان، ولذلك فإنَّ إرادة تطهيرهم وإذهاب رجز الشيطان عنهم ليست تكوينيَّة بمعنى أنَّها مبنيَّة على تطهُّرهم بالماء، وهذا بخلاف آية التطهير فإنَّها لم تُعلَّق على فعلٍ لأهل البيت(ع) كما أنَّها لم تُعلَّق على شيءٍ آخر بل جاء الإخبار ابتداءً أنَّ الله يريد تطهيرهم فهي إرادة منجزة وإرادة الله المنجزة غير قابلةٍ للتخلُّف.

 

فهذه هي القرينة الأولى على أنَّ الإرادة في الآية تكوينيَّة، وليست تشريعيَّة مبنيَّة على فعلٍ اختياري لمَن أُريد تطهيره.

 

آية التطهير صريحة في الاختصاص بأهل البيت:

القرينة الثانية: إنَّ آية التطهير صريحة في اختصاص إرادة إذهاب الرجس والتطهير بأهل البيت (ع) ولا معنى لاختصاص أهل البيت بذلك لو كانت إرادة التطهير وإذهاب الرجس تشريعيَّة، إذ لا ريب في أنَّ الله مريد لعموم العباد أن يكونوا طاهرين مبرئين من الرجس ولكنَّه أراد لهم أن يكونوا كذلك باختيارهم، فإرادة إذهاب الرجس عن عامَّة العباد تشريعيَّة فهو يريدُهم كذلك إذا اختاروا، ولا يريد إذهاب الرجس عنهم تكويناً وإلا لخلقَهم كذلك.

 

وهذا يدلُّ على أنَّ إرادة إذهاب الرجس والتطهير المتعلِّقة بأهل البيت (ع) مختلفة عن إرادة إذهاب الرجس والتطهير المتعلِّقة بالعباد وإلا لم يكن لتخصيص إرادة التطهير بأهل معنىً. فالمتعيَّن من تخصيص إرادة التطهير بأهل البيت المستفاد من مخاطبتهم أولاً بقوله: "عنكم" ثم التصريح بالمراد من ضمير المخاطب بقوله: "أهل البيت" أي أخصُّ أو أعني أهل البيت أو ليذهب عنكم يا أهل البيت ثم العودة إلى ضمير المخاطب ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ بعد التصريح بالمخاطب وهم أهل البيت، المتعين من ذلك أنَّ إرادة التطهير لهم ليست هي الإرادة الثابتة لعموم العباد. فهي إرادة مقصورةٌ عليهم وخاصَّةٌ بهم دون سائر العباد. وحيث إنَّ من المعلوم أنَّ إرادة التطهير التشريعيَّة الاختياريَّة ثابتة لعموم العباد لذلك يتعيَّن أن سنخ الإرادة للتطهير المتعلَّقة بأهل البيت مغايرةٌ لسنخ الإرادة المتعلِّقة بعموم العباد. وحيث إنَّ الإرادة الإلهيَّة لا تخلو إمَّا أنْ تكون تشريعيَّة معلَّقة أو تكوينيَّة ناجزة فإذا لم تكن تشريعيَّة تعيَّن كونها إرادة تكوينيَّة.

 

آية التطهير بصدد المدح والثناء على أهل البيت:

القرينة الثالثة: إنَّ الواضح من الآية أنَّها بصدد المدح والثناء على أهل البيت وذلك بالإخبار عن أنَّ الله تعالى قد تعلَّقت إرادته بإذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيراً مؤكَّداً، ولا موضع للثناء لو كانت الإرادة تشريعيَّة، إذ أنَّها ثابتة لعموم العباد، والإرادة التشريعيَّة لا تستبطن ثناءً على العباد، فقد يختارون فعل موجبات التطهُّر، وقد يختارون الاعراض عن موجبات التطهُّر، فإرادة الله تعالى لتطهير العباد ليس فيه ثناءٌ على العباد، وهذا بخلاف الواضح من آية التطهير -والمتسالَم على فهمه- أنَّها بصدد الثناء على أهل البيت، وهو ما يقتضي استظهار أنَّ الإرادة المقصودة من الآية هي الإرادة الناجزة وغير المعلَّقة وهي المقصود من الإرادة التكوينية، فمفاد الآية هو الإخبار عن وقوع وتحقق إرادة الله تعالى المبرمة بإذهاب الرجس والتطهير لأهل البيت (ع)

 

وببيانٍ آخر: إنَّ مساق الآية مساقُ تبشيرٍ لأهل البيت (ع) بمنحةٍ إلهيَّة وهي إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيراً مؤكداً، وهذا ما يُستفاد من مخاطبتهم أولاً بضمير الخطاب "عنكم" ثم تأكيد ضمير الخطاب بالتصريح بالمخاطب "أهل البيت" فكلمة أهل البيت في قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ إمَّا أن تكون مُنادى يعني: يريد الله ليُذهب عنكم الرجس يا أهل البيت أو أنَّها مفعولٌ به لفعلٍ محذوف تقديرُه أخصُّ وأعني وأمدح أهل البيت، وعلى أيِّ تقدير فهي مفيدةٌ لمخاطبة أهل البيت ببشارةٍ ومنحةٍ إلهيَّة، ولا موضع لهذه البشارة والمِنحة لو كانت الإرادة تشريعيَّة، إذ لا مزية لذلك، فهي إرادة متعلِّقة بعموم العباد ولا تستبطنُ مدحاً للعباد، لذلك فالمتعيَّن من ذلك أنَّها بشرى بإرادةٍ مُنجزة خصَّ اللهُ تعالى بها أهل البيت وتصدَّى في هذه الآية بتبشريهم بها وأنَّه تعالى قد منحها إياهم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

25 / شهر رمضان / 1445ه

5 / أبريل / 2024م

------------------------

1- سورة الأحزاب / 33.

2- سورة آل عمران / 42.

3- سورة المائدة / 6.

4- سورة الأنفال / 11.