إسناد الإغواء لله تعالى ليس ظاهراً في الجبر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

 أرجو توضيح معنى: ﴿إِن كَانَ اللهُ يُريدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ في الآية الشريفة: ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(1) والتي ظاهرها الجبر وأن الله أراد الغواية لهم.

الجواب:

الإغواء المقتضي للجبر:

نسبة إرادة الإغواء والإضلال لله تعالى يكون ظاهراً في الجبر لو كان الإغواء والإضلال ابتدائياً -كما أفاد العلامة الطبأطبائي(2)- أما إذا نشأ الإغواء عن سوء اختيار المكلَّف فلا يكون ذلك من الجبر، فالإغواء في الفرض الثاني إنَّما هو نتيجةٌ، وأسبابُ هذه النتيجة ومقدماتُها اختياريَّة، لذلك يكون الضلال الذي وقع فيه المكلَّف اختياريَّاً، لأنَّ النتيجة الضروريَّة الناشئة عن مقدِّمات اختياريَّة هي واقعاً نتيجةٌ اختياريَّة تماماً كمَن ألقى نفسه من شاهقٍ عن محضِ اختيارٍ منه، فإنَّ السقوط ضروريٌّ -حتمي- لكنَّ مقدماتِه اختياريَّة لذلك يُعدُّ السقوطُ اختيارياً لاختياريَّة مقدِّماته.

الإغواء المُسند لله جزائي: 

فاللهُ عزَّوجلَّ حين يَنسبُ الإضلال والإغواء لنفسِه فهو إنَّما ينسبه لنفسه في فرض اختيار المكلَّف لمقدِّماته لذلك لا تكون نسبةُ الإضلال إليه ظاهرةً في الجبر، نعم لو كان الإضلال المنسوب لله تعالى هو الإضلال ابتداءً لكان مقتضياً للجبر، لأنَّ الإضلال الابتدائي معناه أنْ يقضي الله تعالى على هذا الانسان أو ذاك بالضلال من أول الأمر وقبل أنْ يصدر من هذا الإنسان أيُّ فعلٍ، كأن يقضي عليه بالضلال منذُ ولادته، فهذا الإضلال يكون مُساوقاً للجبر، إلا أنَّ ذلك لا يصدر عن الله جلَّ وعلا، فإنَّ الله تعالى قد منح كلَّ الناس الاستعداد للهداية ثم أراهم سُبل الهداية إلى الصراط المستقيم كما قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا / إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(3) فهو تعالى قد خلق في الإنسان الاستعداد للهداية ثم أراه سبيل الهداية فالإنسان هو مَن يختار الإيمان وهو من يختار الكفر، وقد بعثَ اللهُ جلَّ وعلا الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(4) فالإضلال الابتدائي لا يصدر عن الله جلَّ وعلا، لذلك فهو حين ينسبُ الإضلال لنفسه فالمقصود من هذا الإضلال هو الإضلال الجزائي الذي نشأ عن اختيار الإنسان لمقدِّمات الإضلال وأسبابه كما في قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾(6) ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾(7) فالإضلال المُسند لله تعالى في الآيات وقع بعد اختيار الإنسان للفسوق أو الكفر أو الإسراف والتجاوز لحدود الله تعالى، فهو ليس إضلالاً ابتدائياً ليُقال إنَّه مساوقٌ للجبر وإنَّما هو إضلال وقع موقع النتيجة لأسبابٍ اختياريَّة، وهذا هو معنى الإضلال الجزائي تماماً كما هو السقوط من شاهق لمَن اختار السقوط بمحض إرادته، فإنَّ السقوط من الشاهق كان نتيجةً حتميَّة وجزاءً تكوينياً لمَن اختار مقدِّماته وأسبابه. فلا يكون هذا السقوطُ قسرياً بل هو اختياريٌّ لأنَّ مقدماتِه اختياريَّة.

وممَّا ذكرناه يتبين أنَّ الإضلال الذي نسبته الآية إلى الله تعالى في قوله تعالى: ﴿إِن كَانَ اللهُ يُريدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ هذا الإضلال لا يقتضي الجبر، وذلك لإنَّه من الإضلال الجزائي الناشئ عن مقدماتٍ اختياريَّة، فلأنَّ قوم نوح اختاروا بمحض إرادتهم الإعراض والتكذيب لنبيِّهم (ع) لذلك فالإغواء الذي أصابَهم من الله تعالى كان اختياريَّاً لأنَّه نشأ عن مقدمات وأسباب اختياريَّة، وهي التكذيب والتمرُّد على دعوات الأنبياء والأعراض عن الهداية الإلهيَّة التي سيقت إليهم من طريق نصح وإرشاد نبيِّهم نوح (ع).

الإغواء ليس بمعنى الحمل على الضلال:

ثم إنَّ المراد من الإغواء والإضلال المُسند لله تعالى ليس معناه الحمل على الضلال والغواية وإنَّما المراد منَّه الخذلان وإيكال الإنسان لنفسه وسلبه التوفيق للهداية، وحين يخذلُ اللهُ تعالى أحداً فيحجب عنه رحمته فإنَّ وقوعه في الضلال حتميٌّ فليس لأحدٍ رحمة في مقابل رحمة الله تعالى فإذا حجبها عن أحدٍ فإنَّه يضلُّ. كما قال تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(8) فإذا أمسك الله تعالى عن أحدٍ فيضه ورحمته فإنَّه لا ينتفع من أسباب الهداية كإرشاد الأنبياء ونصحهم ولكن ذلك ليس جبراً لأنَّ إمساك الرحمة عنه نشأ عن سوءِ اختياره.

فمؤدَّى قوله تعالى: ﴿إِن كَانَ اللهُ يُريدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ هو ذاته مؤدَّى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(10) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾(11) فالإضلال الجزائي يعني الحرمان من الهداية الإلهيَّة الخاصَّة. والتي تعني القابلية للانتفاع من الهداية العامة التي منحها الله لعامة عباده من طريق ما أودعه في فطرتهم ومن طريق بعث الرسل وإنزال الكتب فالذي يختار بمحض إرادته الإعراض عن مقتضيات الفطرة والإعراض عن نصح الأنبياء وإرشادهم فإنَّ الله يخذله ويوكله إلى نفسه فتنطمس فطرته ويقسو قلبه ويضيق صدره عن تقبل إرشادات الأنبياء وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(12) وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(13).

ولمزيد من التوضيح راجع ما ذكرناه في مقال: الهداية في القرآن.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

1 / ربيع الأول / 1446م

5 / سبتمبر / 2024م


1- سورة هود / 34.

2- تفسير الميزان -السيد الطبأطبائي-

3- سورة الإنسان / 2-3.

4- سورة الإسراء / 9.

5- سورة البقرة / 26.

6- سورة غافر / 34.

7- سورة غافر / 74.

8- سورة فاطر / 2.

9- سورة البقرة / 258.

10- سورة البقرة / 264.

11- سورة الزمر / 3.

12- سورة الأنعام / 125.

13- سورة الزمر / 22.