المؤخَّر في قوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى من سورة الانفطار: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ / عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾(1).
أمَّا قوله تعالى: ﴿مَا قَدَّمَتْ﴾ فواضح وأنَّ الإنسان سوف يُحاسب ويجازى يوم القيامة عمَّا قدَّمه من عملٍ في الدنيا كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(2). وأمَّا قوله تعالى: ﴿وَأَخَّرَتْ﴾ فلم يتَّضح المراد منه.
الجواب:
ظاهر الآية المباركة أنَّ الإنسان سوف يقفُ يوم القيامة تفصيلاً على ما كان قد عمله في الحياة الدنيا، فمفادُها قريبٌ من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾(3). وكذلك هو قريبٌ من مفاد قوله تعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾(4).
والظاهر من مساق الآية أنَّ الغاية من إيقاف الإنسان تفصيلاً على ما عمله في الدنيا هو إفادة أنَّ حسابه سوف يكون دقيقاً لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة، وحتى لا يشعرُ بالغبن فإنَّ أعماله سوف تكون حاضرةً غير منسيَّة، فلا يسعه الاحتجاج بأنَّه لم يفعل أو لا يذكر أنَّه فعل، فالغايةُ من استحضار أعماله هو الاحتجاج عليه في مقام المحاسبة، والغاية من تصدِّي الآيات لبيان ذلك هو التحذير.
وأمَّا ما هو المراد من فقرة: ﴿وَأَخَّرَتْ﴾ فقد ذُكر لذلك احتمالات عدَّة أهمُّها ثلاثة:
الأول: أنَّ المراد من التأخير في الآية هو الترك والتضييع، فمفاد الآية -بناءً على ذلك- هو أنَّ الإنسان سوف يُحاسب يوم القيامة عمَّا فعله والتزم به من الفرائض المكلَّف بأدائها، وكذلك سوف يُحاسب عمَّا تركه وضيَّعه من الفرائض أو يكون مفادُ الآية هو أنَّ الإنسان سوف يُحاسب عمَّا فعله من طاعةٍ مفروضة وما فعله من معصية، وهذا هو معنى: ﴿مَا قَدَّمَتْ﴾ ويُحاسب عمَّا تركه وضيَّعه من فرائض وحقوقٍ لازمة، وهذا هو معنى: ﴿وَأَخَّرَتْ﴾ فمعنى: ﴿مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ هو ما عملت وما تركت أو ما التزمتْ به من حدودٍ الله تعالى وما ضيَّعته وأهملت الالتزام به.
الثاني: أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ هو ما عمله الإنسان في مقتبل عمره وما عمله في آخر عمره، فالغرض من هذا التعبير إفادة الاستيعاب وأنَّ الحساب سوف يستقصي تمام ما عمله الإنسان في حياته.
الثالث: أنَّ المراد ممَّا قدَّمه الإنسان هو ما عمله في حياته مِن عملٍ صالح وما عمله من عملٍ سيء، وأمَّا المراد ممَّا أخَّره فهو ما سنَّه من سنَّةٍ حسنةٍ عمِل بها الناسُ بعد موته، وما سنَّةٍ من سنَّة سيئة أخذها عنه الناس وعملوا بها بعد موته، فالسنَّة الحسنة يُكتب له بها عملٌ صالح يتجدَّد ثوابُه بتجدُّد الاستنان بها، والسنَّة السيئة يتحمَّل بها وزر مَن عمل بها كما قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾(5).
وقد يُؤيَّد إرادة هذا المعنى من الآية بما ورد عن الرسول الكريم (ص) أنَّه قال: "من سنَّ سنةً حسنةً كان له أجرُها وأجرُ مَن عمل بها إلى يوم القيامة، ومَن سنَّ سُنَّةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزرُ مَن عمِلَ بها إلى يومِ القيامة"(6).
وكذلك يصدق ما أخَّره الإنسان -بناءً على هذا الاحتمال- على كلِّ عملٍ يبقى أثرُه بعد موته كما لو بنى مسجداً أو كتب علماً نافعاً فإنَّه يُكتبُ له به عملٌ صالح يتجدَّد ثوابُه ما دام المسجد قائماً والكتابُ يُنتفع به، وكذلك لو كتب ما يُضلُّ به الناس أو بنى بيتاً ليُعصى فيه الله جلَّ وعلا فإنّ وزر ذلك يظلُّ جارياً عليه ما دام بيتُ المعصية قائماً، ويتجدَّدُ عليه الإثم بتجدُّد مَن ضلَّ بما كتب، وقد أشار لذلك قولُه تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ﴾(7).
المستظهر من الاحتمالات:
والاحتمالاتُ الثلاثة وإنْ كانت صحيحةً في نفسِها وثابتة إلا أنَّ المستظهَر من الآية المباركة أنَّ المراد منها هو الاحتمال الثاني وأنَّ الآية بصدد إفادة الاستيعاب والاستقصاء وأنَّ الانسان سوف يُنبَّأ فيعلم بجميع ما وقع منه في حياته، فمساق الآية هو مساق قولنا أسقطتُ ديونك ما تقدَّم منها وما تأخر، فإنَّ المتفاهم عرفاً من مثل هذه الصياغة هو إرادة الاستيعاب والاسقاط لعامَّة الديون التي عليه، وهذا هو المعنى المستفاد من قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾(8) فإنَّ المستظهر من ذلك هو إرادة التعميم والاستقصاء.
وكذلك هو المعنى المستظهَر من الدعاء المأثور: "واغفر لي من ذنوبي ما تقدَّم منها وما تأخَّر .."(9) وهو المعنى المستظهَر من مثل ما ورد عن الرسول الكريم (ص) قال: مَن صام شهر رمضان، وحفظ فرجَه ولسانَه، وكفَّ أذاه عن الناس غفر الله له ذنوبَه ما تقدَّم منها وما تأخَّر .."(10) فإنَّ المستظهر من قوله: ما تقدَّم من ذنوبه وما تأخَّر هو إرادة الاستيعاب وأنَّ جميع ذنوبه التي وقعت منه سواءً في مقتبل عمره أو في آخره فإنَّها سوف تُغفرُ له.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
20 / ربيع الثاني / 1446ه
24 / أكتوبر / 2024م
1- سورة الانفطار / 4-5.
2- سورة الحشر / 18.
3- سورة آل عمران / 30
4- سورة القيامة / 13.
5- سورة العنكبوت / 13.
6- الفصول المختارة -الشيخ المفيد- ص136.
7- سورة يس / 12.
8- سورة الفتح / 2.
9- مصباح المتهجد -الطوسي- ص420.
10- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص243.